ولذكر الله أكبر


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

اِتَّقُوا اللهَ- تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ وَلَا تَعْصُوهُ، وَاُذْكُرُوهُ وَلَا تَنْسَوْهُ، وَاُشْكُرُوهُ وَلَا تَكْفُرُوهُ، وَاِعْلَمُوا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾. ذِكْرُ اللهِ أُكْبِرُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ، وَأَجْرُهُ أُجْزِلُ مَنْ كُلِ أجرٍ، كُلْ أَجْرٍ، هَوَ النِّعْمَةُ الْكُبْرَى، وَالْمِنْحَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ الدَّوَاءُ وَالْعِلَاَجُ الْإلَهِيُّ الَّذِي بِهِ يُطَهِّرُ الْقَلْبُ وَيُطَمْئِنُ، وَهُوَ مَصَبُّ الْإيمَانِ وَمُلْتَقَى شُعَبِهِ وَمَصْدَرُ نُورِهِ.

وَمَا أُمِرَ بِالْإكْثَارِ مِنْ شَيْءٍ مِثْلُ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرا﴾ فَمَنْ كَانَ ذِكْرُ اللهِ دَيْدَنُهُ؛ فَقَدْ حَظِيَ بِخَيْرِيِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.

قَالَ الْعَلَاَمَةُ اِبْنُ الْقَيِّمِ: وَمِنْ مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنْزِلَةُ الذِّكْرِ، وَهِي مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْكُبْرَى الَّتِي مِنْهَا يَتَزَوَّدُونَ، وَفِيهَا يَتَّجِرُونَ، وَإِلَيْهَا دائمًا يَتَرَدَّدُونَ.

وَالذِّكْرُ مَنشُورُ الوِلايَةِ الَّذِي مِنْ أُعْطِيَهُ اتَّصَلَ وَمَن مُنِعَهُ عُزِلَ، وَهوَ قُوتُ قُلُوبِ القَوْمِ الَّذِي مَتى فَارَقَها صَارَتِ الأجْسادُ لَهَا قُبُورًَا، وَعِمارَةُ دِيارِهِمُ الَّتِي إذا تَعَطَّلَتْ عَنْهُ صارَتْ بُورًا، وَهوَ سِلاحُهُمُ الَّذِي يُقاتِلُونَ بِهِ قُطّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يُطْفِئُونَ بِهِ التِهَابَ الطَّرِيقِ، وَدَواءُ أسْقَامِهِمُ الَّذِي مَتى فَارَقَهُمُ انْتَكَسَتْ مِنهُمُ القُلُوبُ، وَالسَّبَبُ الوَاصِلُ وَالعَلاقَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُم وَبَيْنَ عَلّامِ الغُيُوبِ.

إذَا مَرِضْنا تَداوِينا بِذِكْرِكُمُ   ***  فَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أحيانًا فَنَنْتَكِسُ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ والَّذِي لا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ". فَجَعَلَ بَيْتَ الذّاكِرِ بِمَنزِلَةِ بَيْتِ الحَيِّ وبَيْتَ الغافِلِ بِمَنزِلَةِ بَيْتِ المَيِّتِ وَهوَ القَبْرُ.

وَقَدْ أَعْظَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ الْبِشَارَةَ، وَأَكْثَرَ التَّرْغِيبَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْجَلِيلَةِ، قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولُ اللهِ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَمُرْنِِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؛ فَقَالَ: "لَا يَزالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ".

وَأثَرُ الذِّكْرِ عَظِيمٌ فِي صَلَاَحِ النُّفُوسِ وَتَزكِيتِهَا، وَجِلاءُ الْقُلُوبِ وَصِقَالُهَا، وَدَوَاؤُهَا إِذَا غَشِيَهَا اِعْتِلَالُهَا؛ قَالَ أَبُو الدردَاءِ رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ:*إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ جِلَاءً، وَإِنَّ جِلَاءَ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَ*. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسْنِ: *يَا أَبَا سَعِيدٍ أَشْكُو إِلَيْكَ قَسْوَةِ قَلْبِي، قَالَ: أَذِبْهُ بِالذِّكْرِ*.

الذِّكْرُ أَقَلُّ الْعِبَادَاتِ جُهْدًَا، وَأُعْظُمُهَا أَجْرًَا، وَأُعْمَقُهَا أثَرًَا، فَهُوَ اِعْتِصَامٌ بِاللهِ، وَاِسْتَجَارَةٌ بِهِ، وَلُجُوءٌ إلْيِهِ، وَهُوَ غِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلُوبِ، وَدَوَاءُ النُّفُوسِ، وَبِهِ تُدْفَعُ الْكَرُبَاتُ، وَتُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ، وَتُقَالُ الْعَثْرَاتُ.

وَلِلذِّكْرِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يُعِدُّ وَلَا يُحْصَى، فَمَا ذِكْرِ اللهِ عِزِّ وَجَلَّ عَلَى صَعْبٍ إِلَّا هَانَ، وَلَا عَلَى عَسِيرٍ إِلَّا تَيَسُّرَ، وَلَا مَشَقَّةٌ إِلَّا خِفْتْ، وَلَا شِدَّةٌ إِلَّا زَالتْ، وَلَا كَرْبَةٌ إِلَّا اِنْفَرَجَتْ، فَذِكْرَ اللهِ تعالى هُوَ الْفَرَجُ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالْيُسْرُ بَعْدَ الْعُسْرِ، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

الذِّكْرُ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَيَجْلُبُ الرِّزْقَ وَيُورِثُ الْمَحَبَّةَ وَدَوَامَ الْمُرَاقِبَةِ حَتَّى يَدْخُلَ الْعَبْدُ بَابَ الْإحْسَانِ، وَيَحُطُّ الْخَطَايَا وَيُذْهِبُهَا، وَإِنَّهُ مِنْ أَعْظُمِ الْحُسْنَاتِ، وَالْحُسْنَاتُ يَذْهَبْنَ السَّيِّئَاتِ.

وَقَدْ ذَمَّ سُبْحَانَهُ الْغَفْلَةَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَوَعَّدَ الْغَافِلَيْنَ بِعِقَابِهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾. وَالْغَفْلَةُ عَنِ الذِّكْرِ عَلَاَمَةُ الْمُنَافِقِينَ ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

وَحَيَاتُنَا تُبْنَى بِالذِّكْرِ، فَكُلُّ الْعِبَادَاتِ شُرَعَتْ لِذِكْرِ اللهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ فَالذِّكْرُ فَاتِحَتَهَا، وَقِوَامَهَا وَخِتَامَهَا، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾، وَكُلُّ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مُنْتَدَبَةٌ لِذِكْرِ اللهِ، وَذَكَرُ الْقَلْبُ، أَعْظَمُهَا، ثُمَّ اللِّسَانُ، وَأَعْلَاهَا مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ.

الذِّكْرُ زَكَاءٌ وَطَهَارَةٌ، وَتَكَوَّنُ التَّزَكِّيَةُ أعْظَم إِنْ كَانَ ذِكْرُ اللهِ أَدُومَ، وَيَكْوُنُ ذِكْرُ اللهِ أَعْظَم إِنْ كانتْ دَوَاعِي الْغَفْلَةِ وَأَزْمَةُ الْمَوْقِفِ أَشَدَّ؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

اللهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ لِسَانًا ذَاكِرًَا وَقلبًا خَاشِعًا وَبَدَنًا عَلى البلاءِ صَابِرًَا، وَأَعَنَا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.

أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، واسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَحِيمُ.

 

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

اتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التقوَى، وَاُذْكُرُوهُ بِقَلُوبِكُمْ وَجَوَارِحِكُمْ وَأَلْسَنَتِكُمْ، اُذْكُرُوهُ ذِكْرًا يَحْجُزُكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيَحْفِزَكُمْ لِطَاعَتِهِ وَمَرَضَاتِهِ،﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.

اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنًَا مُطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ.

اللهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرَمينَ الشَريفينَ، ووليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply