فوائد وحكم في أدب طلب العلم وفضله


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر: 9].

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر: 28].

وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة: 11].

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن يُردِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدِّين))؛ متَّفق عليه، وزاد الطبراني: ((ويلهمه رشده)).

• وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الناس معادِنُ كمعادن الذهب والفضة؛ فخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام؛ إذا فقهوا))؛ متفق عليه.

• وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فضل العالِم على العابد كفضلي على أدنى رجلٍ من أصحابي))؛ الترمذي، وقال: حسَن صحيح.

• وعن صفوانَ بن عسَّال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الملائكة لتضَع أجنحتها لطالب العلم؛ رضًا بما يصنع))؛ رواه الإمام أحمد وابن حبَّان، والحاكم وصححه.

• وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله وملائكته وأهل السَّموات وأهل الأرض، حتى النَّملة في جُحرها، وحتى الحوت في البحر - ليُصلون على مُعلِّم الناس الخير))؛ الترمذي.

وقيل لمحمدِ بن الحسن ابن نوشروان:

تعلَّمْ فإنَّ العلم زَينٌ لأهلِهِ      ***            وفضلٌ وعُنوانٌ لكلِّ المحامِدِ

وكُن مستفيدًا كلَّ يوم زيادةً    ***            مِن العلم واسبَحْ في بحورِ الفوائدِ

وينبغي لطالب العلم أن ينويَ رضا الله عزَّ وجلَّ، وأنشد الشيخ برهانُ الدين المرغيناني صاحب الهداية شعرًا لبعضهم:

فَسادٌ كبيرٌ عالِمٌ مُتهتِّكُ         ***            وأكبرُ منه جاهلٌ متنسِّكُ

هما فتنةٌ في العالَمينَ عظيمةٌ ***            لِمَنْ بهما في دينِه يتَمسكُ

وأملى أبو حنيفة رحمه الله شعرًا:

مَنْ طلبَ العلمَ للمعادِ ***                    فازَ بفضلٍ منَ الرشادِ

فيالخسرانِ طالبِيهِ              ***           لنيلِ فَضْلٍ من العِبادِ

وينبغي لطالب العلم ألاَّ يصرفه جهدَه لأجل الدنيا الفانية:

هيَ الدنيا أقلُّ من القليلِ        ***           وعاشقُها أذلُّ من الذليلِ

تُصمُّ بسحرها قومًا وتُعمي    ***           فهُمْ متحيِّرون بلا دليلِ

ولذلك فإنه ينبغي لطالب العلم ألا يذلَّ نفسه بطمع، وأن يتواضعَ:

إنَّ التواضعَ من خصالِ المتَّقي        ***   وبه التقيُّ إلى المعالي يَرتقي

ومِن العجائب عُجبُ مَن هو جاهلٌ   ***   في حاله أهُو السعيدُ أم الشقي

أم كيف يُختم عُمرُه أو رُوحُه          ***   يومَ النَّوى مُتَسَفِّلٌ أو مُرتقي

والكبرياءُ لربِّنا صفةٌ به                ***   مخصوصةٌ فتجنَّبَنْها واتَّقي

وعلى طالب العلم أن يختار الشيخ الأعلم والأورع والأسَن، وأن يثبت لينبت، فالصبر والثبات أصل كبير في جميع الأمور، ولكنه عزيز كما قيل:

لكلٍّ إلى شأوِ العُلى حرَكاتُ           ***     ولكنْ عزيزٌ في الرِّجال ثَباتُ

ومما يُنسب للإمام عليِّ بن أبي طالب كرم الله وجهه:

ألاَ لا تَنالُ العلم إلاَّ بستَّةٍ       ***                    سأُنبيك عن مجموعِها ببيانِ

ذَكاءٌ وحِرصٌ واصطِبارٌ وبُلغةٌ       ***            وإرشادُ أستاذٍ وطولُ زمانِ

بُلغة: كفايةٌ من العيش، بحيث لا يَحتاج في أمر الرزق إلى الغير.

وعليه أن يختار الصَّاحب في طلب العلم، المُجدَّ والورِع، ويفرَّ من الكسلان والمفسِد:

لا تصحَبِ الكسلانَ في حالاتِه        ***         كم صالحٍ بفسادِ آخرَ يفسدُ

عَدوى البليدِ إلى الجليدِ سريعةٌ        ***         كالجمرِ يوضَع في الرَّمادِ فيخمدُ

يعني: سراية بَلادة البليد إلى العالم العاقلِ سريعة.

ومما يتوجَّب على طالب العلم تعظيمُ الأستاذ وتوقيره:

قال عليٌّ كرم الله وجهه: "أنا عبدُ مَن علمني حرفًا واحدًا، إن شاء باع، وإن شاء أعتَق، وإن شاء استرقَّ"؛ أي: جعَلني رقيقًا للخدمة، وهذا كمال التعظيم للشيخ.

وفي ذلك قيل:

رأيتُ أحقَّ الحقِّ حقَّ المعلِّمِ   ***            وأوجبَه حِفظًا على كلِّ مسلمِ

لقد حقَّ أن يُهدَى إليه كرامةً ***            لتعليم حرفٍ واحدٍ ألفُ درهمِ

وعن إكرام المعلم والطبيب قيل:

إنَّ المعلمَ والطبيب كلاهما    ***            لا ينصَحان إذا هُما لم يُكرَما

فاصبِر لدائِك إن جفَوتَ طبيبَها ***          واقنَع بجهلِك إن جفوتَ مُعلِّما

ولا بُدَّ لتحصيل العلم من الجد والهمة العالية، وقيل:

بِجَدٍّ لا بِجِدٍّ كُلُّ مَجدِ            ***            فهل جَدٌّ بلا جِدٍّ بمُجْدِ

فكم عبدٍ يقومُ مقامَ حُرٍّ         ***            وكم حُرٍّ يقوم مقام عبْدِ

يعني: بعناية الله للإنسان؛ لا بجهده وسعيه، فكل المَجد والعظمة بفضل الله وتقديره، لكن لا بُدَّ من اقتران الطلب والسَّعي، حتى يَظهر فضل الله؛ قال الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]؛ ففيها طلَب المواظبة والجدِّ.

وقد قيل: بقدرِ ما تتمنَّى تنال ما تتمنَّى.

قال أبو الطيب المتنبي:

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا ***            كنقصِ القادرينَ على التمامِ

ولذلك لا بُدَّ لطالب العلم من سهر الليالي، كما قال الشاعر:

بقدْرِ الكدِّ تُكتسَب المعالي     ***            فمَن طلب العُلى سَهِر الليالي

ترومُ العزَّ ثم تنام ليلًا          ***            يَغُوص البَحرَ مَنْ طلبَ اللآلي

علوُّ الكعبِ بالهممِ العَوالي    ***            وعِزُّ المرءِ في سَهَر الليالي

وقال أبو الطيب المتنبي:

على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ     ***     وتأتي على قدرِ الكريمِ المكارمُ

وتَعظُم في عين الصغير صغارُها    ***     وتصغرُ في عين العظيمِ العَظائمُ

وبما أن العلم يبقى والمال يفنى؛ فالتَّعب في طلب العلم فضائله لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ ومما يُنسب للإمام عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه:

رضينا قِسمة الجبَّارِ فينا        ***           لنا علمٌ وللأعداء مالُ

فإنَّ المال يَفنى عن قريبٍ      ***           وإنَّ العلم يبقى لا يَزال

وفي الالتجاء إلى الله بصدقٍ على المثابرة بطلب العلم يكون الفلاح واستجابة الدعاء، وعليه أن يداوم على ذلك، ويكرر ما حفظه، ولا يكتمه؛ قال القاضي الخليل بن أحمد السجرزي:

اخدمِ العلمَ خدمةَ المستفيدِ     ***     وأدِمْ دَرْسَهُ بفعلٍ حميدِ

وإذا ما حفظتَ شيئًا أَعِدهُ      ***     ثُمَّ أكِّدْهُ غايةَ التأكيدِ

ثم علِّقهُ كَيْ تعودَ إليهِ          ***     وإلى دَرسهِ على التأبيدِ

فإذا ما أمِنتَ منه فَواتًا         ***     فانتدِب بعدَه لشيءٍ جديدِ

مَعَ تكرارِ ما تقدَّم منهُ          ***     واقتناءٍ لشأنِ هذا المزيدِ

ذاكرِ الناسَ بالعلوم لتحيا      ***     لا تكُن من أُولي النُّهى ببعيدِ

إنْ كتمتَ العلومَ أُنسيت حتَّى ***     لا تُرى غيرَ جاهلٍ وبَليدِ

ثم أُلجِمْتَ في القيامةِ نارًا     ***     وتلهَّبْتَ بالعذاب الشديدِ

وعليه التثبتُ والتأمل وإعطاء كلِّ أمر حقَّه؛ كما قيل:

أُوصيكَ في نظمِ الكلام بخَمسةٍ ***                إنْ كنتَ للموصي الشَّفيقِ مُطيعَا

لا تغفلَنْ سببَ الكلامِ ووقتَهُ            ***         والكيفَ والكمَّ المكانَ جميعَا

ولا بُدَّ له من التوكل على الله، وأن لا يَشغَل قلبه بشأن الرزق؛ فإن مَن شغل قلبه بأمر الرزق من القوت والكسوة قلَّما يتفرَّغ لتحصيل العلم ومكارم الأخلاق؛ فالنفس إن لم تَشغلها بمعالي الأمور شغلَتك بسفسافِها.

وأما وقت تحصيل العلم فقيل: مِن المهد إلى اللَّحد، وأن يستغرق جميعَ أوقاته، فإذا ملَّ مِن علم يَشتغل بعلمٍ آخر.

وأن يكون شَفوقًا ناصحًا لعباد الله غيرَ حاسد، ولا يُنازع أحدًا ولا يخاصمه على أمرٍ دنيوي؛ لأنه بذلك يضيِّع أوقاته؛ فالمحسن سيُجزى بإحسانه، والمسيء سيَكفيه مساويه؛ أنشد الإمام يوسف الهمداني:

دعِ المرء لا تُجزِه على سوء فعله    ***            سيكفيه ما فيه وما هو فاعله

وقال الشاعر:

إذا شئتَ أن تَلقى عدوَّك راغمًا        ***            وتقتُلَه غمًّا وتحرقه همَّا

فرُم للعُلى وازدَد مِن العلم إنه         ***            مَن ازداد علمًا زاد حاسده غمَّا

قيل: عليك أن تَشتغل بمصالح نفسك، لا بقَهر عدوِّك، فإذا أقمتَ مَصالح نفسِك تضمَن بذلك قهرَ عدوك، وإياك والمعاداة فإنها تفضحُك، وتضيع أوقاتَك، وعليك بالتحمُّل؛ لا سيما من السفهاء، وقيل:

بَلوتُ الناس قرنًا بعد قرنٍ             ***            فلم أرَ غيرَ ختَّالٍ وقالِ

ولم أر في الخطوبِ أشدَّ وقعًا         ***            وأصعبَ من مُعاداةِ الرجالِ

وذُقتُ مرارةَ الأشياءِ طُرًّا             ***            وما طعمٌ أَمَرَّ مِنَ السؤالِ

وعلى طالب العلم أن يُحسن الظنَّ بالناس، ولا يسيء الظنَّ بهم؛ قال أبو الطيب المتنبي:

إذا ساء فعلُ المرءِ ساءَت ظنونُهُ      ***            وصدَّق ما يَعتادهُ مِنْ توَهُّمِ

وعادى مُحبِّيهِ بقولِ عُداتِه             ***            وأصبحَ في ليلٍ من الشَّك مُظْلمِ

وطالب العلم كثيرًا ما يتعرَّض للأذى من الناس؛ من القريب والبعيد، ولكن عليه بالرفق والسِّلم؛ قال أبو الفتح البستيُّ رحمه الله تعالى:

ذو العقل لا يسلَمُ من جاهلٍ            ***            يسومه ظُلمًا وإعناتا

فليَخترِ السِّلمَ على حربِهِ                ***            وليلزَمِ الإنصاتَ إنْ صاتا

(إن صاتا)؛ أي: إن صاح الجاهلُ فليلزَم العاقلُ السكوت ولا يقابله.

وعليه أن يُسارع باقتناص الفرص والفوائد، وعدم تفويت الأخذ من أهل عصره؛ من الكبار والعلماء والصالحين.

لهفًا على فوت التَّلاقي لهفا            ***            ما كلُّ ما فات ويَفنى يُلفى

وعليه تحمُّل المشقة والمذلَّة في طلب العلم، والخدمة للعلماء، والتواضع للشيخ، وإرضاؤه فيما يُرضي الله؛ وقيل:

أرى لك نفسًا تشتهي أن تُعزَّها        ***            فلستَ تنال العزَّ حتى تذلَّها

وعليه بالتقوى؛ فإن ذلك عونٌ على التحصيل والتعليم؛ قال نجم الدين النَّسفي:

كُن للأوامرِ والنَّواهي حافظَا          ***            وعلى الصلاةِ مُواظبًا ومحافظا

واطلب علومَ الشرع واجهَد واستعِنْ ***            بالطيِّباتِ تَصِرْ فقيهًا حافظا

واسأَلْ إلهَك حِفظَ حفظِك راغبًا       ***            في فضله فالله خيرٌ حافظا

وأمَّا أسباب الحفظ وثباته فهي: الجِد والمواظبة، وتقليلُ الطعام، وصلاة اللَّيل، وقراءة القرآن؛ ومما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله:

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي         ***            فأرشدَني إلى تركِ المعاصي

وأخبرَني بأنَّ العلم نورٌ                ***            ونورُ الله لا يُهدى لعاصي

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply