السماعات على المخطوطات العربية أهميتها وفوائدها


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

يطلق مصطلح (السماع) أو (الطباق) في المخطوطات العربية على النصِّ الذي يُكتب بعد الانتهاء من قراءةِ كتاب أو جزءٍ على الشيخ الذي يرويه بالسند إلى مؤلِّفه، وقد يكون الكتاب من تأليف الشيخ المسموع عليه، وهو بمثابة شهادة من الشيخ للذين سمعوه عليه من الكبار أو حضروا عليه من الصغار، ويكون نص هذا السماع في آخر الكتاب أو على صفحة العنوان أو على الصفحاتِ الداخلية إذا لم تتسع الكتابة آخر الكتاب أو أوله.

واستَعمل العلماءُ مصطلحَ (السماع) ليعني ما ابتكروه من وسيلة مهمَّة لضبط نقل المدوَّنات، بعد أن أصبح الاعتماد في النقل على المصنَّفات، لاحتوائها أهمَّ المعلومات التي كانت موزَّعة في الصحف والأجزاء والنسخ، فانصرفت همَّة العلماء إلى ضبط هذه المصنفات والتحري في نقلها، واستخدمَت مجالس الإملاء والتلقي؛ وذلك لبيان مَنْ قُرئ الكتاب عليه أو تُلقي عنه، ومن تولى ضبطَ ذلك المجلس، ومن شارك فيه، ومن تولى القراءة، ومكان ذلك وزمانه، والمقدار المقروء أو المسموع، ومقدار المشاركة، إلى غير ذلك مما يعدُّ وثيقةً تاريخية في توثيق النصِّ المنقول، وإثبات حقٍّ للأطراف المشارِكة فيه.

وهذه السماعات في الحقيقة إنَّما هي صورة من الصور التي عرفها العلماءُ القدامى عن الشهادات العلمية التي تمنح اليوم.

يقول الدكتور صلاح الدين المنجد: "إنَّ هذه السماعات ظهرَت في القرن الخامس الهجري عند ظهور المدارس وانتشارها في العالم الإسلامي، ففي هذا القرن عمدوا إلى ظاهرةٍ جديدة هي أن يثبتوا في آخر الكتاب أو صدره أو في ثناياه أسماءَ الذين سمعوه على مصنِّفه، أو على عالم غيره، فإذا نسخ الطالبُ نسخةً من النسخة المحفوظة في المدرسة أو المسجد نَقل أيضًا ما ثبت فيها من سماعات".

ويلاحظ أنَّ هذه السماعات كانت تظهرُ وتنتقل مع ظهور مراكز العلم وانتقالها من مكان إلى آخر؛ ففي القرن الخامس نجد سماعات كثيرة في بغداد، في حين لا نجد منها في دمشق إلا القليل، وفي القرن السادس تظهر السماعات في دمشق بشكلٍ كبير، ثم تزدهرُ في القرن السابع؛ حيث تضعف في بغداد، وتبدأ بالظهور في القاهرة، وقد كانت دمشق أسبق إلى تأسيس المدارس من القاهرة.[2]

الشروط التي يجب أن يتضمنها نصُّ السماع:

1- اسم المُسمِع:

سواء كان المصنِّف أم غيره، فإذا لم يكن المصنف، ذكر المسمع سنده للذي قرئ عليه.

وقد يكون المسمع امرأة، فينص على اسمها، ونحن نجد كثيرًا من السماعات على نساء الحنابلة بدمشق، وقد يكون المسمع ثلاثة لا واحدًا- أي: ثلاثة من العلماء- أو أكثر يجلسون معًا ويُقرأ عليهم كتاب ما.[3] 

2- أسماء السامعين:

من الرجال والنساء والصغار، وتحديد سِنِي الصغار، وذكر أسماء الرقيق، وتذكر أسماء السامين فردًا فردًا مع أسماء آبائهم، ويذكر الجد الأول والأعلى أحيانًا، ويرافق الاسم صفة السامع، فيقال: القاضي أو الخطيب أو الفقيه مثلًا...، وذكر أسماء الصغار في السماعات يفيد عند من أجاز رواية الصغير، وقد سمع كثيرٌ من العلماء وهم في سنٍّ مبكرة؛ كابن عساكر الذي سمع وهو في السادسة، والحميدي الذي سمع في الخامسة، والضياء المقدسي في السابعة.

ويلاحظ في السماعات التي جرَت في مدارس دمشق في العصر الأيوبي كثرة من يحضرها من الرقيق، مما يدل على أنَّ النهضة العلمية يومئذ شملَت الطبقات كافَّة، وكثيرًا ما نجد اسمَ الفتيان؛ أي: العبيد، فيقولون: حضر فلان وفتاه فلان.

3- النص على ما سمعه الحاضرون وما فاتهم سماعه:

وكانت أمانة العلم تدفعهم إلى النصِّ على ما سمعه كلٌّ من الحاضرين؛ فقد يتأخر أحدُهم عن السماع فيفوته بعضُ الكتاب، فيقولون: سمعه مع فوتٍ، وقد يحدِّدون مبدأَ السماع ومنتهاه؛ فيقولون: سمع من قوله كذا إلى آخر الكتاب، وقد يصفون في الهامش علامةً تشير إلى بدء قراءة طالبٍ ما؛ (انظر أسماء السامعين لكتاب الدارقطني على الحافظ المزي سنة 727هـ، ومدى الدِّقة في عدد الجلسات التي استمع فيها كلُّ واحد من الطلبة) [4].

4- اسم القارئ:

يُختار عادة ممن عُرف بحسن قراءته؛ فيقولون: بقراءة فلان، ويرد اسم القارئ في أول السَّماع قبل اسم السامعين، وقد يرد بعد أسمائهم.

5- النسخة التي قرئت فسمعها الحاضرون:

في بعض السماعات نجد ذكرًا للنسخة التي قُرئَت وسمعها الحاضرون؛ فيقولون: والنسخة للحافظ عبدالغني مثلًا، أو للموفَّق، أو للضياء، وقد تكون نسخة المصنف أحيانًا، وقد يذكر في السماع أنه كان على النسخة الجديدة، كما ورد في سماع مؤرخ سنة 559هـ لتاريخ ابن عساكر.

6- كاتب السماع:

في آخر السماع يذكر اسم الكاتب، ويرد اسمه فيمن سمع، ويردف به: وهذا خطه، وقد يسمَّى أيضًا: مثبت السماع، أو كاتب الطبقة، والجمع طباق، وهذا يدل على ثقته وضبطِه وحسن خطه وأمانته، وربَّما كان قارئ النسخة ومثبت السماع واحدًا، كما هو عند الضياء المقدسي والقاسم البرزالي.

7- ورود لفظ صح وثبت:

لا بد من ذكر لفظ (صحَّ) و(ثَبَت) بعد ذكر أسماء السامعين، وقَبل ذكر التاريخ، ومعنى ذلك أنَّ الشيخ توثَّق من صحة الأسماء وما قرأه كلٌّ من السامعين، وقد يكتب ذلك الأستاذ السامع الذي جرت عليه القراءة.

8- مكان السَّماع:

وينصُّون على المكان الذي سُمع الكتاب فيه؛ فقد يكون المسجد أو البيت أو البستان، والنص على المكان يفيد في معرفة أسماء الأماكن وضبطِها وتحديدها، وهذا يفيد في معرفة الأماكن التي يتجمَّع فيها العلماء، وكذلك في معرفة المدارس ومن درَّس فيها أو قرأ، وكذلك نتعرَّف من خلال ذلك على رحلات العلماء لتلقِّي العلم.

9- تاريخ السماع ومدَّته:

ويُنهى السماع قبل التحميد أو الصلاة على النبي بذكر التاريخ، ويذكرون في التاريخ اليومَ والشهر والسنة، ويذكرون مدَّة السماع وعدد المجالس، وقد يستعملون لفظ (نوبة)؛ فيقولون: سُمع في نوبتين مثلًا أو أكثر، كما ورد في سماعٍ لتاريخ ابن عساكر.

10- قيمة السماع وفائدته:

أ- هو أنموذج من النموذجات في التثبت العلمي المتبع.

ب- هو وثيقة صحيحة تدلُّ على ثقافات العلماء الماضين وما قرؤوه أو سمعوه من كتب.

جـ- مصادر للتراجم: فالسماعات تتضمَّن أسماءَ أعلامٍ كثيرين لا نجد لهم ترجمةً أو ذكرًا في كتب التراجم المعروفة، وقد يرد اسم علَمٍ واحد في سماعات عديدة، فيمكن صنع ترجمة له بذكر ما سَمع من كتب، وما لقي من شيوخ، ومن عاصر من رِفاق في طلب العلم، وما زار من بلدان، ولو أنَّ باحثًا انصرف إلى هذا الأمر لاستخرج من السماعات أسماءَ مئات من العلماء لم تعرف تراجمهم.

د- وسيلة لمعرفة مراكز العلم وحركة التنقُّل للأفراد من بلدان مختلفة؛ ففي سماعٍ على البرزالي في تاريخه سنة 662هـ في مسجد دمشق نجد الصقلي والمرسي والحجازي والبعلبكي والمعرِّي والبغدادي والهمذاني، فهؤلاء قد وردوا من بلدان مختلفة لينهلوا العلم في دمشق.

هـ- وسيلة لمعرفة رحلات عالمٍ ما من خلال كتبه، كما في كتب الضياء المقدسي.

و- وسيلة كذلك لمعرفة الكتب التي كانت تدرس وتؤلَّف في فترة من الفترات.

ز- السماع المثبت على كتاب دليل على صحته ونسبته إلى مؤلفه وتاريخه وضبطه؛ لذلك كان لا بد من نشر السماعات بنصِّها عند نشر أي كتاب خطيٍّ.

وقد قصَّر كثير من المحقِّقين في السابق في هذا الأمر عندما أهملوا ذكرَ السماعات، ولكننا نجد أن الكثيرَ من المحققين في الفترة المتأخِّرة قد عملوا على إثبات السماعات لما وجدوا فيها من الفوائد.

حـ- القارئ للكتاب أو الجزء والكاتب للسماع يختاره الشيخ لحسن قراءته وحسن خطِّه، وهذا الأمر يفيدنا في معرفة النابهين من طلاب العلم، الذين لا نجدُ لهم ترجمةً في كتب التراجم.

ط- معرفة كثير من الكتب أو الأجزاء التي كانت متداولة، ثم انقطع خبرها:

وهذا ما نجده في سماعات الحافظ ابن طولون في مدارس دمشق[5]؛ إذ قرأها على شيوخه، ثم ضاعَت هذه المؤلَّفات، وكذلك في كتاب فهرس الكتب للإمام يوسف بن عبدالهادي.[6]

ي- مشاركة المرأة في تلقي العلم: أخذًا وعطاء.

ك- الزمن الذي كان يقضيه طالب العلم في الرحلة وعدد رحلاته.

ل- يمكننا معرفة تاريخ تأليف الكتاب أو الجزء؛ بالرجوع إلى تاريخ أول سماعٍ على المؤلِّف، وكثرةُ السماعات تدلُّ على مدى الاهتمام بهذا الكتاب، ومن المؤلف، وبعد وفاته.

ملاحظة: سماع الصغير وصحة سماعه:

قال القاضي عياض[7]: أما صحَّة سماعه- أي: الصغير- فمتى ضبطَ ما سمعه صحَّ سماعُه، ولا خلاف في هذا، وصحَّ الأخذ عنه بعد بلوغه، وقد حدد العلماء عمرَ الصغير الذي يصح سماعه بخمس سنين، ولعلهم إنما رأوا أنَّ هذا أقل ما يَحصل به الضبط، وعقل ما يسمع وحفظه، وإلا فمرجوع ذلك للعادة والطبع والفطرة، فقال بعضهم: يكمل عقل الغلام لعشرين؛ لأنها مجتمع العقل، وقال بعضهم: الرواية من العشرين، والدراية من الأربعين.

وللتوسع في معرفة أهمية السماعات يستحسن الرجوع إلى مقدمة كتاب: "الفتح المبين في المشيخة البلدانية"؛ للحافظ ضياء الدين محمد بن عبدالواحد المقدسي[8]، ففيها تطبيقٌ عملي للاستفادة من السماع في صُنع التراجم والمشيخات.

أنواع الأخذ وأصول الرواية:

1- السماع من لفظ الأستاذ: وهو أرفعُ الدرجات في أنواع الرواية عند الأكثرية، واصطلح فيها أن يقال: حدثنا، أو سمعتُ فلانًا، أو قال لنا فلان، أو ذكر لنا فلان، وأجازوا أيضًا فيه أخبرنا أو أنبأنا.

2- القراءة على الأستاذ، سواء كان القارئُ صاحب الكتاب أو غيره وهو يسمع والشيخ يسمع، وهو ما يسمى عَرْضًا؛ لأن القارئ يعرض ما يقرؤه على الشيخ، وربما استعملوا لفظ: أخبرنا لهذه الطريقة في التلقِّي، وما عرضه على الأستاذ، وأجازوا روايته شفاهًا: أنبأنا.

3- المناولة: وهي أن يدفع الأستاذ كتابَه الذي رواه أو كتبَه إلى تلميذ له، ويقول له: اروِها عني.

4- الكتابة: أن يكتب الأستاذ إلى طالبٍ شيئًا من تأليفه ويرسله إليه.

5- الإجازة: إما مشافهة أو كتابة؛ بأن يأذن له أن يروي كتابًا من كتبه أو تآليفه أو مروياته.

6- الوصية: أن يوصي الأستاذ بكتبه لتلميذه عند سفره أو موته.

7- الإعلام: هو إعلام الأستاذ الطالب بمروياته ومسموعاته وإجازاته، أو يقول له الطالب: هل تأذن لي برواية ما ترويه؟

8- الخط: هو الوقوف على كتاب بخطِّ محدِّث مشهور يُعرف خطُّه، وإن لم يتلقَّ عنه أو يلقَه.

نماذج من السماعات على الحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 643هـ لكتابه (المصافحة) وتاريخ هذه السماعات 624هـ 632هـ 633هـ محرم 635، صفر 635، 637هـ، 639، 640هـ، 641، 642هـ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

[1] محاضرة أُلقيت في 5 /11 /2014م، بمناسبة معرض الكتاب بالشارقة.

[2] إجازات السماعات في المخطوطات العربية؛ مجلة معهد المخطوطات العربية سنة 1955م 1/2/ ص232-251.

[3] انظر نماذج كثيرة من ذلك في كتاب جامع الحنابلة لمحمد مطيع الحافظ، طبع دار البشائر الإسلامية ببيروت.

[4] دار الحديث الأشرفية بدمشق، تأليف: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر بدمشق 1421هـ/ 2001م.

[5] وهي مسموعات الحافظ ابن طولون في مدارس دمشق (مخطوط بمكتبة شستربيتي)، يقول محمد مطيع: وقد استخرجتُ المستفاد منه، وأقوم بنشره تباعًا على شبكة (الألوكة) الغرَّاء.

[6] حققه الشيخ محمد خالد الخرسة بدمشق بدار البيروتي 1417هـ/ 1996م.

[7] الإلماع، ص62-67.

[8] طبع بدمشق في ثلاثة أجزاء بدار البشائر 1427هـ/ 2006م.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply