أفغير دين الله يبغون


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(83).

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ} يعني شريعته التي شرعها لعباده، وأضافها الله لنفسه تشريفا لها، وبيانًا لأهميتها، وأنها الشريعة العادلة النافعة التي لا يقوم الخلق إلا بها؛ لأنها شريعة الله، فهي أكمل الشرائع.

{يَبْغُونَ} يطلبون.. بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضا عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب. وهذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ. وفيها قراءة سبعية {تبغون} بتاء خطاب لأهل الكتاب.

** وفيه أن من ابتغى غير دين الله، ولو في التنظيم، وما يسمى بالقانون الوضعي، فإنه مستحق لهذا التوبيخ العظيم. ويدل لذلك قوله تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}[المائدة:٥٠]، وحكم الجاهلية كل ما خالف حكم الشرع، فهو حكم جاهلية؛ لأن حكم الشرع مبني على علم وما سواه مبني على جهل. وهذا في غاية ما يكون من التوبيخ والتقريع أن تبتغي حكمًا جاهليًا وتدع حكم العليم الخبير، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة:٥٠]، وبه نعرف أن من ابتغى حكمًا غير حكم الله فهو من أضل عباد الله، وأسفه عباد الله، وأخسر عباد الله، وأنه لن تصلح له أمور دينه ولا دنياه والعياذ بالله.

{وَلَهُ أَسْلَمَ} استسلم وانقاد وخضع وذل، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم، وفيه عموم ملك الله وسلطانه. فمن تمام السلطان والملك أن كل من في السموات والأرض مستسلم لله، طائعا كان أم مكرهًا.

الواو هذه للحال، يعني: والحال أنه أسلم له من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا، وهو إسلامًا كونيًا وليس إسلامًا شرعيًا؛ لأن الإسلام الشرعي ليس فيه إكراه؛ ولأن الإسلام الشرعي لا يعم من في السماء والأرض بل يعم من في السماء، ولا يعم من في الأرض، وإنما قال: {وَلَهُ أَسْلَمَ} بعد قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} لإقامة الحجة على من لم يسلم لله شرعًا ولم يتبع دينه.

{مَنْ} أتى بمن الدالة على العاقل تغليبًا لجانب العقلاء؛ لأننا لو قسنا من في السموات والأرض لكان الأكثر العقلاء؛ لأن السموات ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم الله أو راكع أو ساجد، وفي الترمذي بسند حسن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ" والسماء واسعة جدا، ما يعلم سعتها إلا الله، قال تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:٤٧] السماء الدنيا أوسع بكثير من الأرض، والسماء الثانية أوسع بكثير من السماء الدنيا، وهلم جرا.. كل سماء أوسع مما تحتها.

{فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مفرد لكن المراد بها الجنس فيشمل الأرضين وهي سبع، لكن لم يفصح الله تعالى بها في القرآن، بل قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12]، وفي مسلم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ".

{طَوْعًا} الطوع: الانقياد والاتباع بسهولة.

{وَكَرْهًا} الكره: ما كان فعله بمشقة وإباء من النفس، وما فعل بغير الاختيار.

قال قتادة: أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك؛ لقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}[المؤمن:85].

وقال مجاهد: إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله وسجود ظله لله. وفي رواية عنه: سجود ظل المؤمن طائعًا وسجود ظل الكافر كارهًا، كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}[النحل:48] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}[الرعد:15] بانقيادها لله تعالى في طولها وقصرها، وميلها من جانب إلى جانب، وخُصَّ هذان الوقتان وإن كان سجودهما دائمًا؛ لأن الظلال إنما تَعْظُم وتكبر فيهما.

{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أسند الفعل إلى المجهول لظهور فاعله، ومناسبة ذكر هذا عقب التوبيخ والتحذير، أن الرب الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دين أمره به، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختارا قبل أن يسلمها اضطرارا.

يعني كما أنه له السلطان الكامل عليهم في الدنيا فإنهم أيضًا يرجعون إليه في الآخرة. وفيه إثبات البقاء لله؛ لأنه إذا كان مرجع كل الخلق لزم من ذلك أنه سيبقى -عزّ وجل- ليكون مرجعًا لجميع الخلق.

وفي قراءة: (ترجعون) بتاء المخاطبة، بناءً على القراءة في: (تبغون).

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة قالوا: لو اختلفت القراءة في آية فهل لك أن تقرأ في أولها بقراءة وفي آخرها بقراءة أخرى؟.

أ - فمن العلماء من قال: نعم يصح؛ لأن الكل وارد ولكن الراوي أو القارئ الذي رواها هو الذي يبقي على ما روى، أما أنا فمنقول إلي، وقد ثبت أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ أول الآية على هذا الوجه وآخر الآية على هذا الوجه، فلي أن أقرأها بالوجهين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.

ب - وبعضهم قال: لا، إذا قرأت بقراءة واحدة لا تقرأ بقراءة الثاني في آخر الآية.

عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية: {أفَغَيْرَ دِيِن اَللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply