بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
وأما بعد:
فإن مرض الوسواس قد كثر بين المسلمين بشكل رهيب خصوصًا فئة الشباب فما هو هذا الوسواس؟
تعريف الوسواس:
الوسواس هو عبارة عن حديث نفس لا تظهر ألفاظه على اللسان مثل "لماذا فلان ينظر إلي؟ أو ماذا يريد فلان؟ أو ما سبب مجيئه؟"... إلخ.
وهذا يكون بينه وبين نفسه دون إفصاح عنه والوسواس على ضربين وهما وسواس النفس ووسواس الشيطان، وأما عن وسواس الشيطان فقد قيل: "هو مجرد فكرة تُلقى في أذن الإنسان". وهذا أقرب للواقع فلا يُحس بها حتى يجد تلك الفكرة الشيطانية تتجول بين قلبه وعقله لتتحول بعد ذلك إلى حديث النفس ثم إلى قلق أو خوف فيعود الشيطان من جديد لينفخ فيها فتكون وسوسة حينها، فإما أنه يزيد أو ينقص وهكذا ولا يكون نقصانها إلا بشروط ومنها التعوذ من الشيطان الرجيم والتوكل على الله والاستغفار... الخ.
وأما عن وسواس النفس فهي نتيجة فقدان الثقة تُجاه الأشخاص الذين من حوله فتتكون لديه شكوك ثم تنمو شيئًا فشيئًا وتتحول إلى وساوس بعد ذلك.
والوساوس لها أسباب ومنها سوء الظن وكثرة الشكوك وانعدام الثقة وزيادة القلق واصطدام المخاوف فقد يكون وسواس طبيعي، لكنه يزداد كلما زادت الشكوك فهذه هي نشأته فيؤثر في النفس كتأثير المرض على الجسد.
الوسواس يُؤثر في العقل فيجعله كالخراب ويُؤثر في القلب فيملأه بالخوف ويُؤثر على النفس فيضيق صدره منه ويُؤثر على الوجه حتى تذهب الإبتسامة ويُسوَّدْ لونه ويُؤثر في العين حتى تتقلب بين اليمين والشمال ويُؤثر على الإنسان بعمومه حتى يعتزل الناس كلهم.
والوساوس لا تكون إلا بأسباب توصل إليه ومنها سوء الظن؛ وسوء الظن ينقسم إلى ثلاث أقسام وهي أن يسوء الظن بمن أراد له الخير والنصح أو يسوء الظن بمن تشاجر معهم ثم صالحهم أو يسوء الظن ببعض أقاربه وأصحابه لا تجتمع بينهم مودة ولا خصومة سوى أنه يُسيء الظن في تصرفاتهم فالأول يأتيه الشيطان ليقول له "ما نصحك إلا أنه يريد منك شيئًا". والثاني يأتيه الشيطان فيقول له "ما صالحك إلا لينتقم منك". والثالث يأتيه الشيطان ويقول له "هؤلاء يقصدونك أنت من هذه التصرفات". وهذه أفكار الشيطان لتتحول إلى حديث نفس ثم إلى وساوس ثم يعود الشيطان مجددًا لينفخ فيها.
مبدأ الوسواس:
قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...} ق (16)، فمبدأ الوسواس هي النفس من أسلوب حديثها فيأتي الشيطان لينفخ فيه فيتحول من وسواس طبيعي إلى وسواس حاد، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ("وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ" يعني ونحن نعلم ما توسوس به نفسه أي ما تحدثه به نفسه دون أن ينطق به فالله عالم به بل إن الله عالم بما سيُحدث به نفسه في المستقبل والإنسان نفسه لا يعلم ما يُحدث به نفسه في المستقبل والله يعلم ما توسوس به نفسك غدا وبعد غد وإلى أن تموت وأنت لا تعلم وإذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فهذا العلم يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى ولا نُحدث أنفسنا بما يُغضبه وبما يكره فعلينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يُرضيه).
وحديث النفس يكون على خمسة مراحل وهي: أن تُحدثه بمعصية الله أو أن تُحدثه بطاعة الله أو أن تُحدثه بأمور الدنيا كالزواج والسكن والعمل... إلخ. أو أن تُحدثه بأن يفعل شرًا بأحد ما من باب الظلم أو أن تُحدثه بأن هناك من يريد به شرًا وظلمًا وموضوعنا كله يتناول المرحلة الخامسة وهذه هي التي تتحول إلى وسواس قد يكون في بدايته أمر طبيعي، لكن مع مرور الزمن يُصبح وسواس حاد أي إذا زاد عن حده المعتبر وربما أشد من ذلك وهو الوسواس القهري وهو أخطر أنواع الوساوس بمعنى أنه يقهر صاحبه.
أساسُ الوسواس:
القلق من الوسواس كالحطب من النار فكلما زاد القلق زاد الوسواس والقلق يكون بين الماضي والمستقبل وكأنه يرى صعوبة المستقبل من زاوية أخطائه في الماضي فتُأثر هذه النظرة على الوسواس كتأثير السُم بالجسم فيزداد الوسواس خطورة فينسى حاضره ويهتم بأمور قد تُعتبر من السفاسف فيُخرب حياته خرابًا لم يخربه عدوٌ بعدوه فأول الوساوس مجرد حديث نفس وآخره هلاك.
وأما نتيجة هذا الداء هو إما قطع صلة الرحم أو هجر الأقارب أو معاداة صديق أو وصولًا للطلاق أو ظلم شخص ما أو قتل نفس بغير وجه حق أو خوض غمار الانتحار أو الالتحاق بالجنون أو ترك العمل أو اختيار طريق الوحدة أو العيش في عالم العزلة بعيدًا عن أنظار الناس... إلخ.
حياةُ أصحابه:
يعيش المصاب بالوسواس عيش البركان الثائر بين سرعة الغضب وكثرة القلق فتجده كثير الحركة سريع المشي ومنعدم الإبتسامة قليل الكلام فهو ينتظر العداء من الجميع دون استثناء ولا يعرف معنى الثقة ولا يبحث عن طريقها أصلًا فدرجة أفكاره تتربعها المخاوف والسلبيات وقيمة عقله تنحصر بين الضياع والجماد، فالوسواس ضررٌ على صحته وخطرٌ على مستقبله.
أنواع الوسواس:
الوسواس ثلاث أنواع: طبيعي واصطناعي واعتيادي، وللعلم فإن شخصية الإنسان إن كانت قوية فالوسواس أمامه مثل الذُباب وأما عند ضعف الشخصية فالوسواس أمامه مثل التمساح. فأما الوسواس الطبيعي فكلما زاد كانت خطورته أشد من سابقيها مثل من تجده يخاف الزلزال وصوت الرعد... إلخ. فإن طال الحال سيتحول إلى أوهام لا أصل لها مثل من يُحس بالزلزال دون الآخرين فيعتقد أن هناك زلزال من كثرة التوهم وهو مجرد وسواس لا حقيقة له.
وأما عن الوسواس الاصطناعي فهو من آثار السحر وهذا لا يكون علاجه إلا بالرقية الشرعية بإذن الله تعالى فيزول كما يزول الجليد بعد إشراق الشمس أو يكون نتيجة المخدرات والمهلوسات فإن لها يدٌ في الوسواس لأنها تُحرق العقل بنار القلق وفقدان التركيز أو من نتيجة تهديد كان في زمن الطفولة أو حادثة أثرت عليه سلبًا ولم يُنتبه لها، وهذه تحتاج لعدة جلسات مع طبيب مختص في علم النفس.
وأما عن الوسواس الاعتيادي فهذا يكون قد اعتاد عليه وهذا هو الوسواس الأخطر أي بأن يعيش طوال عمره في أوهام الوساوس حيث لا تفارقه بتاتًا وهذا النوع بذاته ينقسم إلى قسمين فالأول حاد وهو ما بين الخمسين بالمائة إلى درجة السبعين بالمائة تقريبًا حيث تجده يُفكر كثيرا في الانتقام من أناس أساء الظن بهم.
وأما عن النوع الثاني فهو الوسواس القهري وهو ما بين السبعين بالمائة والمائة بالمائة حيث يُفكر صاحبه كثيرًا بالانتحار أو قتل من أساء الظن به، وهذا النوع من الناس خطرٌ على المجتمع لأنه يصل لدرجة فقدان عقله أو ما يُعادل الجنون ولا يكون علاجه إلا من طرف الأطباء المختصين من أجل إعطائه المسكنات العقلية حتى يبرأ بإذن الله أو يُدخلونه المصالح العقلية حتى يهدأ ويُستحب لو كان معهم مُرافق خاص يستطيع التحكم فيهم ليصطحبهم إلى البحر أو الصحراء أو الجبال وهي أمكان تساعد على الهدوء والراحة.
الوسواس الطبيعي:
وأما عن الوسواس الطبيعي فإما أنه ضعيف حيث لا يجد أسباب القوة من قلق وخوف كوسواس الصلاة لقوله ﷺ ((أن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) رواه البخاري.
وهو الملقب "بسجود السهو" وتلبيس الشيطان هو الوسواس وهذا النوع ما بين واحد بالمائة إلى عشرين بالمائة وهناك وسواس متوسط له علاقة بالوسواس الطبيعي فيتخطى الوسواس الضعيف نسبيًا وهو الملقب "بالنفس الأمارة بالسوء"، وهو عبارة عن وسوسة النفس لارتكاب المعاصي وهذه تحتاج إيمانًا أقوى حتى تُجلد به جلد المعاتبة والمحاسبة بينك وبينها دون إخراج لحروف الألفاظ على المسامع وهذا النوع من الوسواس هو ما بين العشرين بالمائة والخمسين بالمائة لكن إن تجاوز الأربعين بالمائة بعد فعل المعاصي فهذه تكون على مرتبتين، ومنها مثلًا أن توسوس له نفسه بأنه غير مغفور له نهائيًا حتى لو فعل كل العبادات والطاعات فيقول لها سأزيد إذن من المعاصي والفجور أكثر، وهذا الوسواس هو مرتبط باليأس والقنوط من رحمة الله الواسعة، وقد قال تعالى حاكيًا عن نبيه يعقوب عليه السلام: {... وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف (87)، وقال عز وجل حاكيًا عن نبيه إبراهيم عليه السلام: {... وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} الحجر (56).
وهذا حدٌ لأجل توقف الوساوس سواء من المغفرة أو الرزق فقد توسوس له نفسه بأنه لن يُرزق... إلخ. وما عليه سوى حُسن الظن مع تقديم الأسباب
والمرتبة الثانية: هو وسواس الطاعات وهي على أربع درجات ومنها أن توسوس له نفسه بأن طاعته هذه لن تُقبل نهائيًا فيتركها هو. والدرجة الثانية أن تُحدثه نفسه بأنه قد أصبح من أحسن الناس طاعة فيصل إلى مرحلة الإعجاب بالنفس أو الرياء وهذا صاحبه ما عليه إلا بالإخلاص لله. والدرجة الثالثة هو أن يعبد الله علنًا ثم توسوس له نفسه بأنه قد أصبح مُرائي أو منافق فيترك هو العبادة خشية الرياء.
فأصحاب الدرجة الأولى والثالثة يجب عليهم التوكل على الله لأن التوكل هو السد المانع للوسواس، وأما عن الدرجة الرابعة فهو وسواس الوضوء فيتوضأ ويُعيد وضوءه عدة مرات بسبب الوساوس وبأنه نسي شيء ما وهنا يجب أن يكون على يقين من نفسه بأنه نسي وإلا فلا يُعيد الوضوء حتى لا يعبث به الشيطان وقبل تحولها إلى وساوس إعتيادية لا خلاص منها فيكون حينئذ وسواسٌ حاد فيؤثر في صاحبه كتأثير ضربات السيف على العدو.
إن الوسواس هو مرآة الشيطان وهو مفتاح القلق وباب الغضب وهو أيضًا عبارة عن خيط من خيوط العُقدة، وهو طريق للهلاك. فالوسواس كالبئر الجاف لا ماء فيه وكذلك فلا توجد نتيجةٌ إيجابيةٌ منه لأنه مجرد أوهام تقضي على الأحلام وخيال يقضي على الأمال وتضيع بسببه الأيام.
نسأل الله أن يشفي قلوب المسلمين فهو الشافي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد