القيم الحضارية في حديث إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

جاء الإسلام والعرب أمةٌ بدويةٌ لا تعرف إلا حدود يومها ومكانها، لا ينشغلون إلا بطعامهم وشرابهم وملبسهم وما يتعلق بذلك من آثار مادية بسيطة، وكان أدبهم الشعر الذي يسجل أيامهم وسيرتهم وهي لا تكاد تتجاوز تلك المطالب المادية المحدودة، مع ما فيها من حروب وصراعات وأزمات، تأتي على الأخضر واليابس، فضلًا عن عبادتهم الأوثان، التي تعبّر فيما تعبر عن تصوراتهم لحياتهم ومصيرهم بعدها، وهي تصورات لا تتجاوز حياتهم اليومية الدنيوية، فلا بعث ولا نشور ولا حساب عما قدموا في حياتهم من خير أو شر.

وكانوا أمة مهملة لا تلتفت إليها الأمم الأخرى؛ لفقرهم حضاريًّا ومعرفيًّا وإنجازًا وإنتاجًا، فلما جاء الإسلام بعقيدته الصحيحة الخالصة وشريعته السمحة المؤثرة وأخلاقه العالية البناءة، وأفكاره الإيجابية الدافعة، أصبح للعرب شأن آخر، وأصبحت لهم حياة بعد أن كانوا في موت، وظهرت لهم حضارة بعد بداوة وجدب، وبرز لهم ثراء معرفي بعد شبه عدم ثقافي، واتضح لهم إنتاج معرفي بعد أن كانوا شبه خالين منه، وتكوّنت عندهم قيم حضارية يقدمونها للأمم الأخرى بعد أن كانوا غير معروفين بها وأبعد الناس عنها، وما كانت تلك القيم إلا نتاجًا للقيم الحضارية التي تمتلئ بها آيات القرآن الكريم، وأحاديث السنة النبوية الشريفة، وهذا لا يحتاج إلى تدليل كبير أو بحث عميق للبرهنة عليه وإثباته، فهذا مما هو مشهور ومعروف وهو أقرب إلى المسلمات منها إلى الأمور البرهانية التدليلية.

ويكفي أن أذكر في هذا المقام هذا الحديث الشريف الذي هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا". (أخرجه أحمد في المسند 3/183 الحديث رقم (12902)، و3/ 191، الحديث رقم (12981)، والبخاري في الأدب المفرد، الحديث رقم (479) وغيرهما، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/63: رجاله أثبات ثقات.

والمقصود بالقيم الحضارية: المبادئ والمنطلقات التي تدفع إلى الرقي والعمران في شتى المجالات التي تتجاوز المتطلبات المادية اليومية لحياة الأفراد والشعوب من الطعام والملبس والترّفة والاستمتاع الآني بالملذات دون إضافة ذات أثر كبير في مسيرة تقدم البشرية نحو الكمال والثراء المعرفي والإدراكي والثقافي والمادي قدر الإمكان.

1- وهذا الحديث الشريف ملئ بقيم حضارية تنقل حياة الإنسان الذي لا يكاد يعرف إلا مطالب جسده من طعام وشراب ونحو ذلك، إلى أن تصبح اهتماماته ذات الأثر الفعال التي تعمل من أجل ترقية الحياة البشرية بشتى صورها؛ بحيث تنعتق من ذلك المنظور المادي الضيق الزائل إلى ذلك المنظور القيمي الواسع الذي يرى الإنسان عضوا فعّالا في سلسلة من الجهود المبذولة للعمل على تحقيق أكبر إنجاز ممكن من رقيٍّ بالبشرية ورفعها إلى الفضائل والأخلاق العالية، بالإضافة إلى الإنجاز المادي المتفوق الراقي البعيد كل البعد عن الأنانية والوقتية والاستعلائية والنظرة القاصرة المتعجرفة. ويمكن ذكر القيم الحضارية التالية التي يتضمنها هذا الحديث الشريف على النحو التالي:  

2- قيمة العمل النافع: فالإنسان خلق ليعمل، وأرقى أنواع العمل عبادة الله وحده، واقتصار التوجه إليه سبحانه وطلب العون والتأييد منه والتوكل عليه، وهو في سبيل هذا الهدف النبيل لا ينسى أن يعمل عملًا نافعًا لنفسه ولغيره ولمجتمعه وللعالم الذي يعيش فيه بل للبيئة المحيطة به والكائنات التي تعيش معه فيها، فالفسيلة،وهي الشجرة الصغيرة، التي يزرعها يستفيد منها زارعها ومن تصل إليه ثمارها ونتاجها، وليس هذا فحسب، بل إن الناظر إليها يسعد أيضًا برؤيتها والتمتع بذلك، فالنفس تسعد بالمناظر الخضراء والرياض الغنّاء التي ما هي إلا مجموعٌ من الشجر الذي يكون صغيرًا ثم ينمو فينمو حتى تكون هذه المناظر الخلابة والمريحة للعيون وللناس، تبث فيها الأمل والحيوية والإيجابية، بل إن هذه الشجرة تعمل على تنقية الأجواء من الغازات الضارة وتبث الأكسجين في الجوّ فتلطفه وتخفف من درجة حرارته العالية.

وعلى هذا فإن كل توسع زراعي أو صناعي أو تقنيٍّ يؤدي إلى أن تعاني البشرية،وقد تكون معاناة شديدة مهلكة، من ورائه من تلوث وارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية وإزالة للتنوع الحيوي البيئي، فإنّه ليس من الحضاري في شيء، ويكون أبعد ما يكون عن الحضارة، وإن تذرع وادّعى أنه يسعى أن يحقّق للبشرية درجات ملموسة من الحضارة فوق الدرجات التي حققتها البشرية، وبناء على هذا فإن على البشرية جميعًا أن تسعى إلى أن يكون عملها نافعًا لها وللأرض وللبيئة التي تعيش عليها وفيها، وتمنع كل عمل يؤدي إلى الإضرار بالناس وبالبيئة وإن كان تحت دعاوى مختلفة من التنمية والتقدم والازدهار والحضارة والرقي.

3- الاستمرار في العمل ولو كانت نتائجه وثماره لا تعود على العامل مباشرة:

4- إن من أشد المعوقات أمام العاملين والفاعلين هو أنهم قد يندفعون في العمل ويبذلون فيه قصارى جهدهم ويتحمسون له ولكن عندما يشعرون أن نتائج هذا العمل لا تعود عليهم وإنما تعود علي غيرهم، فقد يدفعهم هذا إلى أن يمتنعوا عن العمل أو يتكاسلوا ويتباطؤوا عنه وينتقلوا إلى البحث عن العمل الذي تكون آثاره ونتائجه تعود عليهم ويستفيدون من ثماره ونتائجه، وهذه نظرة في الحقيقة قاصرة عاجزة، وإن بدت أنها منطقية أمام بعض العقول والأفكار والمعتقدات الشائعة؛ فإنه لا يشترط في الاستمرار في العمل النافع أن يعود آثاره على الفاعل مباشرة وأن يستمتع بتلك الآثار ويستفيد منها، فلو أخذ المصلحون والملهمون والقادة الاجتماعيون والمؤثرون بهذا ما حدث تطور لافت ولا تقدم بارز ولا إصلاح ناجح ولا حضارة ذات قيمة، وإن حدث مثل هذا فإنه سرعان ما يزول ويندثر ويصبح تاريخًا محكيًّا لا واقعا معاشا؛ نظرًا لأن تلك النظرة القاصرة هي التي كانت الدافع وراءه.

ولذا فإن قيمة الاستمرار في العمل النافع ولو لم يستفد العامل من آثاره، من الأهمية بمكان في تقدم الأمم وفي مسيرتها وفي حضاراتها ومنجزاتها، وأوضح ما يمثل ذلك ويبيّنه هو ذلك الرجل الذي حانت ساعة موته وانتقاله من الدنيا إلى الآخرة وما يصاب به من ذهول وهلع وشغل شاغل وحال كربة غير مستقرة، لكن هذا لا يمنعه من أن يكمل زرع تلك الشجرة الصغيرة قدر طاقته ومقدار وسعه؛ وهو يعلم أنه لن يستفيد منها، ليكون ذلك عنوانًا بارزًا على استمرار العمل النافع ولو في أحلك الظروف وأشد الأحوال وأضيقها؛ فيكون نتيجة ذلك العمل ثمارًا تعود بالفائدة على البشرية وحياتها وقيمها وحضارتها وعلى البيئة ومقوماتها ومظاهرها وحيويتها؛ فهذه الشجرة الصغيرة،وهي مثال لكل ما ينفع صغيرًا كان أو كبيرًا، يعود نفعها على الإنسان والحيوان والجماد والبيئة بالنفع المادي والنفع الجمالي وبالنفع المحسوس وبالنفع المعنوي وبالنفع الحالّي وبالنفع الآتيّ وبالنفع المشاهَد والنفع المتخيَّل، مما يؤكد تواصل الأجيال وتواصيها على الاستمرار في العمل النافع المفيد في كل الأحوال وخاصة في تلك الحالة التي تشغل الإنسان وتدفعه دفعًا إلى الانصراف عن ذلك.

والحضارة ما هي إلا حلقات متسلسلة من الأعمال في الأحوال المواتية وغير المواتية، بل إن الأعمال في الأحوال غير المواتية ذات تأثير كبير عل مسيرة الحضارة البشرية ومنجزاتها وشواهدها. وعلى ذلك فالغني لا يعمل ليظلّ غنيًّا أو يزداد غنىً فقط بل إنما يعمل أيضا ليكون ظهيرا للفقير في توفير احتياجاته ومتطلباته المتنوعة والعمل على توفير الظروف المناسبة، وإن كان عن غير قصدٍ، إلى أن يحاول الفقير أن يكون غنيًّا إن بذل جهده وطاقته من أجل ذلك، لا أن يعمل الأغنياء على سد الطرق أمام غيرهم من الفقراء لتحقيق الثروة؛ حتى يظل الأغنياء أغنياء ويزدادوا غنىً على غنىً، على حين يفتقر الفقراء درجات ولا يجدون السبل المشروعة متاحة لأن يخرجوا من دائرة الفقر والعوز.

5- الجمع بين عمران الدنيا والعمل للآخرة: فإن كانت مهمة الإنسان في الدنيا محددة واضحة، فإن الوسائل والطرق إليها فيها تنوع واختلاف، يؤدي إلى الثراء والتعدد في هذه الوسائل وتلك الطرق من أجل إنجاز تلك المهمة، وهي العمل للآخرة، وهي مهمة لا تقطع عن الدنيا ولا عن عمرانها وتعميرها، بل إن العمل للآخرة يمرّ قطعا عبر تعمير الدنيا وإنجاز حضاراتها وشواهد تلك الحضارة، ويتضح هذا جليًّا في هذا الحديث الشريف، فوقتُ قيام الساعة وقد ظهرت في الآفاق أماراتها وما يتبع ذلك من الانتقال إلى الآخرة، لا يشغل هذا الإنسان عن العمل الدنيوي النافع المفيد، مع أنه أشد ما يكون حاجة للعمل للآخرة والاستعداد للانتقال إليها، فإنه بانشغاله بإتمام هذا العمل الدنيوي في ظاهره، يكون قد عمل عملا للدنيا والآخرة معًا، وليس للدنيا فقط، وعلى ذلك فتعمير الدنيا سبيل للعمل الآخرة وتحصيل للثواب الجزيل فيها، ولو كان العامل زاهدًا في الدنيا، فإن هذا لا يمنع أن يعمل لتعمير الدنيا حضاريًّا ورقيًّا وازدهارًا، والعمل على تحسين البيئات والأحوال والظروف المحيطة قدر الإمكانات والطاقات الممكنة والمستطاعة والجمع بين تعمير الدنيا وعمران الآخرة وجعل عمران الدنيا سبيلًا وطريقًا لعمران الآخرة.

كل هذا يجعل العاملين والمصلحين يمسكون بخيوط القوة ومقدرات الحضارة المتنوعة وسبل التأثير المختلفة؛ فتكون الحياة مهيأة لأن تمتل أ أأئ بقيم العدل والخير والإيجابية والتعايشية الحميدة والتنوع المنشود؛ فتزداد الحضارة رقيا وتقدما وعمقا وثراء وإثراء. وهذا لا يكون متاحا إن تخلى العاملون للآخرة عن العمل لتعمير الدنيا، فإن الحياة تضيق على أهلها؛ وذلك لامتلائها بقيم العنصرية والانحياز والاستعلائية والفوقية والاستبدادية والعدوانية.

العمل على أن يكون الإنسان إيجابيًّا فاعلًا منتجًا قدر الإمكان والاستطاعة: فلا يكتفي أن يكون مستهلِكا مفعولًا به مستقبِلا دون أن يكون مرسِلا، فلا تدفعه سرعة الأحداث وتقلب الأحوال واختلاف الأمور عن المعتاد، إلى أن ينقطع لمتابعتها والانغماس في أخبارها والتأثر بها وبتقلباتها دون أن يستمر في عمله والسعي الجاد لتحقيق أهدافه وغاياته، فإنما خلق الإنسان ليعمل لا أن يُعمَل له فحسب، فاعلًا لا أن يُفعَل له فقط، مُؤثِّرا لا أن يكتفي بأن يتأثر لا غير، منتجًا لا أن يكون مستهلِكا وكفى، إيجابيًّا لا أن يكون سلبيًّا، صاحب رأي وموقف لا أن يكون إمعة لبيئته ومحيطه الثقافي والمعرفي.

وهذا ما يوضحه هذا الحديث الشريف، فالإنسان وقد رأى الساعة وأماراتها وعلاماتها وما يصاحبها من تقلب الأحوال وتبدل الأمور واختلافها اختلافًا كليًّا، بل ظهرت العلامات الواضحة والبينات البارزة على انتهاء الدنيا وزاولها، فإن هذا كله لا يدفعه لأن يترك ما بيده من عمل نافع وإنتاج مفيد، ويجعله يتابع تلك الأخبار الطريفة والأنباء العجيبة والوقائع الغريبة والأحوال الشنيعة والظروف المطبقة وأن ينشغل بذلك تمام الانشغال بحيث يستغرق فيها ويتابعها لحظةً لحظةً وخبرًا خبرًا وطريفةً طريفةً وعجيبةً عجيبةً، وقد يكون له عذره، لأنه أتاه ما يشغله عما فيه ويأخذ بعقله ولبّه ولا يترك له مجالا لأن يستمر في عمله الذي كان يعمل، قد يكون هذا هو المتوقع والمقبول عند بعض الناس أو أكثرهم.

لكن الإنسان الإيجابي الأمر عنده مختلف، فإنه يُقبل على إنجاز عمله والتقدم في ذلك قدر استطاعته ولا تشغله الأحداث على خطورتها وأهميتها وشدتها عن عمله وأهدافه والعمل على تحقيقها، بل هو مقيم على عمله وإنجازه بكل ما يستطيع من قوة وقدرة رغم هذه الأحوال غير المواتية، بل إن تلك الظروف والأحوال المحيطة والمطبقة ما تزيده إلا عملًا على عملٍ وإنجازًا على إنجازٍ وإتمامًا على إتمام، ولا يتوقف عن ذلك ولا يتوانى، فإن ما قدره الله فسوف يكون وإنما هو مخاطب بالعمل النافع والاستمرار عليه ولو أحاط به ما أحاط من ظروف وأحوال وحوادث طارئة وشديدة.

والخلاصة أن هذا الحديث الشريف فيه قيم حضارية بارزة تبيّن أن الإسلام أعلى من القيم الحضارية ودعا إلى تبنِّيها والعمل بها وتطبيقها في أرض الواقع؛ لما في ذلك من نفع مؤثر للبشرية في حضارتها ومنجزاتها، وهو مثال ونموذج لنصوص الشريعة من القرآن الكريم والسنة المشرفة المليئة بالقيم الحضارية المختلفة التي فيها نفع للبشرية في دنياها وآخرتها وفي جانبها المادي وجانبها المعنوي؛ مما يحتاج إلى مزيد من البحث في تلك النصوص الشرعية لإبراز تلك القيم الحضارية وبيان أثرها وفوائدها، وهذا مجال خصب أمام الباحثين والكاتبين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply