الإنسان المتفرج


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في الورقة البحثية الجميلة التي قدّمتها عالمة (الأنثروبولوجيا) كارا هوفر بعنوان "الاضطراب الحسّي في الحياة الحديثة وظهور التفاوتات الحسية" تُشير هوفر إلى مفارقة هامة مفادها: أنّنا كبشر نعاصر هذه الحقبة من التاريخ، نعيش لأوّل مرة حالة إسراف وتفريط باستخدام حاسّة البصر، كمدخل حسّي رئيسي يطغى على باقي الحواس البشرية، والاكتفاء بالنظر لتشكيل معرفتنا وتصوراتنا عن الحياة والآخرين من حولنا.

بحسب الدراسات الإسقاطية، من المتوقّع بحلول عام 2050 أن يصاب 50% من سُكان العالَم بمرض "قصر النظر" بفعل هذا الانتشار الواسع للشاشات المحمولة، وشيوع منصّات التواصل الاجتماعي كوسيط أساسي للتفاعلات البشرية، كلّ هذا تتمّ دراسته ونحن نرصد بأسى وحسرة تراجع أهمّية حواسّ أخرى كالسمع والشمّ، وهي حواس ذات طابع ذوقي وجَمَالي خاصّة في النصف الشرقي للعالَم حيث البهارات والروائح الطيبة والتمعّن بالصمت والتموضع بالفراغ (الصحراء) تشكّل تجربة روحانية فريدة لُسكّان ثقافات عديدة حول العالَم.

في كتابه (مُجتَمَع الفُرجَة) قدّم المُفكّر "غي ديبور" نقدًا هامًا يشرح الأشكال الجديدة للمجتمعات البشرية وتحوّل الأنشطة البشرية وتفاعلات النّاس إلى "الصورة" بوصفها وسيط أساسي للعلاقات الاجتماعية والخبرة المُعاشة، عالَم مُزيّف لا يكترث فيه البشر للواقع نفسه بقدر ما يتفاعل مع الصورة التي تحاكي هذا الواقع.

وأذكر أنّ الراحل محمّد طمّليه ذات مرّة قد صاغ هذه الفكرة ببراعة حين كتب:

إنّ المُتنزّهين في حديقة عامة لا يحفلون برَجُلٍ وحيد يجلس على مقعد مُزدوج لكنّهم هُم أنفُسَهُم يقفون طويلًا لتأمّل لَوحة على جدار.. يظهر فيها رَجُل وحيد يجلس على مقعد مُزدوج في حديقة!

بهذا المعنى، يصير المقطع الذي نشاركه عن ضحايا الحرب، أهمّ من الضحايا أنفسهم وتصير المنافسة في نقل الصورة أكثر من المنافسة في إيقاف الجريمة، وتصير المُبارزة حول أيُّنا أكثر قدرة على إيصال صورة أكثر قُبحًا عن الواقع القبيح.

إنّه مجتمع الاستعراض، استعراض الصورة الأكثر إيلامًا وأكثر وحشية وأكثر دموية، إنّه العصر الذي يُفضّل فيه البشر بالانهماك بالنُسخة وترك الأصل، والتفاعل مع الصّورة بدل الانخراط بالواقع. وهكذا تصير الحياة بوصفها مَعرَض بلاستيكي كبير، يقوم على تراكم هائل من الصُوَر المُتتالية ويكون دور الإنسان فيه التفرّج والنظر.

هذا لا يلغي بطبيعة الحال أهمية نقل الصورة، ولا نقل الأخبار ولا الدور الإيجابي الذي تفعله وسائل التواصل بتعريف شريحة عريضة وجديدة من المتابعين والفاعلين في المجتمعات الغربية بمآسينا ونضالنا وقضايانا. ما نتحدث عنه هنا: الانزياح الجوهري والتفاعلي في كيفية تعاطي البشر مع واقعهم عبر هَوَس إنتاج الصور وإدمان النظر والاكتفاء بالتفرّج.

أيّ لعنة رأسمالية حلّت على البشر جعلت من فعل "التفرّج" نشاطًا بشريًا مقبولًا؟

هذا ما أراد "غي ديبور" قوله، أنّ منطق الحياة اليومية يصير نحو "صناعة الفُرجة" فالمكان لا يكون مكانًا إلّا إذا كان قابلًا للفُرجة، والحدث لا يكون حدثًا إلّا إذا لاقى رواجًا عند المُتفرّجين.

إنّه منطق الحياة الذي يجعل (التفرّج) سقف الممكن البشري، وأقصى شكل من أشكال الفاعلية البشرية.

لا يُريد النّاس الانخراط السياسيّ بصيغته الطبيعية، ويُريدون بالرغم من ذلك أن يحدث تأثيرًا على أرض الواقع، هكذا لمجرد صراخهم وعويلهم وبكائهم وتداولهم للصور الأكثر فظاعة.

أو كما قيل يريد الجميع أن يدخل الجنّة، لكن لا أحد يرغب بالموت بطبيعة الحال.

تدريجيًا، انتقل شكل الفعل السياسي خلال العشرين سنة الأخيرة نحو نضالات لفظية قائمة على إقصاء النّاس، ثقافة الإلغاء (Cancel Culture) وعلى محاكمة الناس على تعابيرهم: (قُل ولا تقل!) (لماذا استخدمت ضمير المذكر وأغفلت ضمير المؤنث؟) كل هذه المطاردات اللغوية، اختزلت أشكال النضال بالتعابير اللغوية فصار أقصى ما يمكن فعله إلحاق العار بالآخرين الذين لا يهتمّون بالبيئة أو حقوق الحيوان والهويّات الجنسية.

إنّها المواقف الرخيصة:

مُناصرة بلا كُلفة شخصية.

نضال بلا تضحية فعلية.

وهي تعابير لباحثين كُثُر ضمن مراجعات البحث الشهير الذي نشره باحثون سويديون في المعهد الملكي للتكنولوجيا، حين درسوا ظاهرة "النضال بالكبسة Clicktivism" والشعور الذي ينتجه النضال الإلكتروني ووصفوه بـ "التراخي Slacktivism" أي الشعور المريح الذي يورثه النضال الإلكتروني دون أن يكون له أي تأثير سياسي على أرض الواقع.

والإجابة عزيزي القارئ، عند الشيطان الذي أقنعك أنّك لا تملك من الأمر شيئًا وأنّك في خانة "الإنكار القلبي" و"أنّك ضعيف الإيمان"!

وإذا كانت هذه أفضل إجابة تملكها عند لقاء الإله العظيم، فخمّن مَن سيكون بورطة حقيقية؟

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply