فرقة المعطلة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

التعطيل في اللغة:

التعطيل ورد في اللغة بعدة معاني، منها الترك والتخلية والتسيب والفراغ، فالدار إذا تركت و لم تسكن قيل لها دار معطلة، أو عُطِّلت الدار، و الإبل تُعَطّل إذا تركت دون راعٍ قال تعالى: ﴿وَإِذَا ٱلعِشَارُ عُطِّلَت﴾.

والبئر إذا كانت لا تورد و لا يستقى منها فهي بئر معطلة، قال تعالى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَريَةٍ أَهلَكنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصرٖ مَّشِيدٍ

والمرأة التي ليس عليها حلي و منزوعة الزينة فهي عُطُلا، قال ابن فارس (ت 395ه): *عطل: العين والطاء واللام أصل صحيح واحد يدل على خلو وفراغ*.

التعطيل في كتاب الله:

ورد لفظ التعطيل في كتاب الله في موطنين: قوله تعالى:﴿وَبِئرٖ مُّعَطَّلَةٖ﴾، وقوله تعالى:﴿وَإِذَا ٱلعِشَارُ عُطِّلَت﴾، والمعاني التي فسر بها السلف رضي الله عنهم التعطيل في هذين الموطنين موافقةٌ لمعنى التعطيل الذي ذُكِرَ آنفًا،فعن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:﴿وَبِئرٖ مُّعَطَّلَةٖ  قال: ((التي تركت))، وعن قتادة قال: *أعطلها أهلها، تركوها*،وفي بيان قوله تعالى:﴿وَإِذَا ٱلعِشَارُ عُطِّلَت﴾ روى الطبري عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، قال: ((إذا أهملها أهلها)).

التعطيل في السنة:

ورد التعطيل في السنة والمراد منه الترك والإخلاء والإفراغ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، في نزول المسيح ابن مريم ((فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام))، ويؤيده ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ميسرة المسجد تعطلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر".

التعطيل في اصطلاح السلف:

وأما التعطيل في الاصطلاح، فقد أطلقه السلف رضي الله عنهم على منهج معلوم في التعامل مع الحق الواجب لله سبحانه وتعالى في عبادته وأسمائه وصفاته، والأدلة الدالة على هذا الحق من نصوص الكتاب والسنة.

والسلف رحمهم الله بيّنوا أن المعطلة ليست فرقةً مستقلةً كباقي الفرق، كالرافضة و المعتزلة و الخوارج و أشباههم؛ فهم رحمهم الله يطلقون التعطيل على منهج للإيمان و الاستدلال سلكه المبتدعة في أبواب التوحيد، فلذلك كانوا يطلقون لقب المعطلة على كل فرقة خالفت مذهب أهل السنة و الجماعة في أبواب التوحيد تقريرًا أو استدلالًا، ومن هنا ساغ إطلاق هذا اللقب على سائر الفرق المخالفة لأهل السنة في باب الأسماء و الصفات، ولا تختص فرقة منهم بهذا اللقب دون أخرى، سواءً كانوا معطلة نفاة أو معطلة مثبتة ممثلة، وإن كانوا في التعطيل على درجات بعضها أوضع من بعض.

(تعريف التعطيل): التعطيل هو إنكار ذات الله، أو الكمال الواجب له في العبادة، أو الأسماء والصفات، أو الأدلة الشرعية الدالة على شيء من ذلك.

وهذا تعريف للتعطيل بمعناه العام الذي يشمل سائر أنواع التعطيل المتعلق بتوحيد الله:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728ه)- رحمه الله -: *التعطيل المحض للذات قليل، وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال، وهو مستلزم لتعطيل الذات؛ فإنهم يصفون واجب الوجود بما يوجب أن يكون ممتنع الوجود*.  فالمعطلة هم كل من ينفي عن الله عز وجل صفاته كلها أو بعضها فهم معطلة بحسب ما ينفون من صفات الله -عز وجل- وهذا يصدق على الجهمية والفلاسفة والمعتزلة والأشعرية والماتريدية ومن أخذ بقولهم مثل الرافضة والزيدية والإباضية، لأن كل فرقة من هؤلاء عطلوا صفات الله عز وجل وأبطلوا دلالة النصوص على الصفات إما مطلقًا أو أثبتوا بعضًا وأنكروا بعضًا كما سيأتي:

وقبل أن ندخل في تفصيل أقوال المعطلة نشير إلى أن منهجهم العام الذي التزموه في صفات الله عز وجل- وهو: اعتقادهم أن الله تبارك وتعالى ليس له صفة في حقيقة الأمر، أو اعتقاد بعضهم عدم اتصافه ببعض الصفات، وهي التي لايثبتونها، ثم هم بناء على ذلك نفوا المعاني الصحيحة لنصوص الصفات كلها، عند من ينفي كل الصفات، أو بعضها عند من ينفي بعض الصفات(بمعنى أن المعطلة اعتمدوا نفي صفات الله عز وجل كلها أو بعضها ثم جاءوا على نصوص الصفات الواردة في الشرع فأبطلوا دلالتها على الصفات.

فرق التعطيل:

وهم عل صنفين: الأولى الفلاسفة (نفاه الصفات)، وهم الفلاسفة والجهمية والمعتزلة.

أما الفلاسفة فهم على قولين:

1- الفارابي وابن سينا ونحوهم: هؤلاء ينفون صفات الله عز وجل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا خال عن كل وصف.

يقول الفارابي: *وإذا وصف بوصف من الصفات فإنها لا تدل على المعاني التي جرت العادة أنها تدل عليها وإنما هي صفات مجازية لا يدرك كنهها إلا بالتمثيل وليس هو شيئا من الأشياء بعده *.

2- ومن الفلاسفة أيضا: الباطنية كالإسماعيلية والقرامطة، الذين ينفون سائر الصفات إلا أنهم يزيدون عن الفلاسفة الآخرين فسادا بزعمهم نفي النقيضين عن الله عز وجل فيقولون: لا نقول موجود ولا ليس موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا موصوف ولا ليس بموصوف.

أما الجهمية: فالمنقول عنهم نفي صفات الله عز وجل، فجهم يرى أن الله تعالى: لا يجوز أن يوصف بصفة عليها خلقه، كما يقول: إن الله لا يقال إنه شيء لأن الشيء هو المخلوق الذي له مثل- وهو ينفي سائر أسماء الله عز وجل ولا يثبت إلا الخالق والقادر لأن المخلوق عنده لا يوصف بالقدرة إلا مجازا لأنه كان جبريا يعتقد أن الإنسان لا قدرة له على الحقيقة.

أما المعتزلة: فيثبتون الأسماء لله عز وجل كما أنهم يثبتون لله عز وجل الذات وينفون عنه سائر الصفات فيقولون إن الله يسمى عالما لا بعلم وقادرا لا بقدرة وسميعا لا بسمع.

وعلى هذا إجماعهم ويصفونه عز وجل بصفات السلوب فيقولون ليس بجسم ولا صورة ولا شخص ولا جوهر ولا يتحرك وليس بذي جهات ولا يحيط به مكان وهو شيء لا كالأشياء.

فهذه الفرق الثلاث هي أهم فرق غلاة المعطلة الذين ينكرون وصف الباري تبارك وتعالى بالصفات ومنهم من ينفي الذات بما يدعونه من وصفه عز وجل بالوجود المطلق الذي هو الوجود الذهني فقط، وهؤلاء هم الفلاسفة والجهمية، ومنهم من يثبت الذات وينفي الصفات وهم المعتزلة.

وغالبهم على قولين فيما ينسبونه إلى الله عز وجل وهما:

١- السلب: وهو نفي ضد الصفة عنه مثل قولهم: ليس بجاهل ولا عاجز ولا طويل ولا جسم وليس له مكان ونحوها، وهذا هو الذي عليه جل الفلاسفة وجل المعتزلة.

٢- الإضافة: بمعنى أن ما يضاف إلى الله ليس على اعتبار أنه صفة وإنما على اعتبار أن الله علة وجوده وسبب وجوده مثل أن يقال إن الله علة العالم أي سبب وجوده .

الصنف الثاني: الكلابية والأشاعرة والماتريدية.(أهل الكلام وهم:نفاة الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة).

الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر وهم: الكلابية، والأشاعرة، والماتريدية: حيث يثبتون سبع صفات هي العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي.

ويسمونها الصفات العقلية نسبة إلى مصدر ثبوتها وهو العقل عندهم أما بقية الصفات وهي الصفات الخبرية والصفات الفعلية فينفونها عن الله عز وجل ويوجبون فيها إما: التأويل أو التفويض وسنبين المراد بهما في المبحث التالي.

والتعطيل في توحيد الله تعالى ثلاثة أنواع:

1- التعطيل في جانب الربوبية.

2- التعطيل في جانب الألوهية.

3- التعطيل في جانب الأسماء والصفات.

• التعطيل في جانب الربوبية:

فالمقصود به إنكار وجود الخالق عز وجل وكل الغيبيات، والقول بأن المادة أساس كل شيء،والملاحدة في هذا فرق كثيرة وأشياع متفرقة.

الطائفة الأولى: طائفة *الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوما أصلًا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس*، ومن هذا تعطيل فرعون الذي كان لا يرى أن في الكون خالقا، وأنه هو الرب الوحيد للكون كله.

الطائفة الثانية: طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ولا مخلوق ولا هنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، ويقولون إن الوجود بأسره هو الحق، وأن الكثرة وهم، بل جميع الأضداد المتقابلة، والأشياء المتعارضة الكل شيء واحد، هو معبودهم في زعمهم.

الطائفة الثالثة: أهل السلوب من نفاة الصفاة، فإنهم وإن كانوا يدعون الإقرار بالخالق إلا أن إثباتهم هو عين النفي، *وهؤلاء هم الذين يصفون الباري عز وجل بصفات العدم المحض الذي ليس هو بشيء البتة، وليس عندهم حقيقة غير أنهم يقولون: هو موجود لا داخل العالم ولا خارجًا عنه، ولا مباينًا له، وليس على العرش ولا غيره، ولا يثبتون له ذاتا ولا اسمًا ولا صفة ولا فعلًا، بل ذلك عندهم هو عين الشرك، وهذا هو الذي صرح به غلاة الجهمية*.

• التعطيل في جانب الألوهية:

فهو *تعطيل معاملة الخالق عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد*، *ومن صوره ما يفعله بعض المتصوفة من إسقاط العبادات عنهم وعن أتباعهم، وزعمهم أن الكمال في فناء العبد عن حظوظه –أي الفناء في توحيد الربوبية- حيث يعلنون أن العارف الذي يشهد هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، ويجعلون هذا غاية العرفان*. وكل من وقع في الشرك بصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى فهو معطل لمعاملته عما يجب عليه فيها.

• التعطيل في جانب الأسماء والصفات:

فهو نفي أسماء الله تعالى الواردة في كتابه أو على لسان رسوله الله أو نفي بعضها، لقد تفاوتت درجات التعطيل بين معطلة الأسماء والصفات إلى عدة درجات يمكن تقسيم طوائف المعطلة بالنسبة إليها إلى أربع طوائف هي:

الطائفة الأولى: غلاة المعطلة:

الذين تجاوزا نفي أسماء الله وصفاته وإنكارها إلى التناقض إما بإثبات النقيضين، أو نفيهما، أو عدم التفريق بين الخالق والمخلوق وهؤلاء أنواع:

النوع الأول: الذين يسلبون عنه النقيضين، فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي، ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل؛ لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه؛ فإنهم شبهوه بالممتنعات؛ إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين من الممتنعات، وهذا القول ينسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية والمتفلسفة.

النوع الثاني: المتجاهلة اللاأدرية، وهؤلاء يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم، ومن الناس من يحكي هذا ونحوه عن الحلاج.

وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط، والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه.

النوع الثالث: الاتحادية، وهؤلاء لا يميزون الخالق بصفات تميزه، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فيقول ابن عربي: *سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها*، ويقول: *إن العارف هو من يرى الحق في كل شيء، بل يراه في عين كل شيء*، ومن هؤلاء الذين يقولون بهذا القول ابن عربي وابن سبعين والقنوي.

الطائفة الثانية: النفاة من غلاة الجهمية والفلاسفة والباطنية:

وهؤلاء هم الذين يصفون الله تعالى بالسلب المحض فلا يثبتون له اسما ولا صفة، بل يصفونه بالسلوب فقط، و*يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهًا فيقولون: إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالِمين، وكذلك إذا قلنا: هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا: رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا: إذا قلنا إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات؛ لاشتراكهما في مسمى الوجود*.

الطائفة الثالثة: نفاة الصفات دون الأسماء:

وقادة هذا المذهب هم المعتزلة فإن لهم في نفي الصفات عن الله تعالى طريقين:

الطريقة الأولى: نفيها صراحة فقالوا: إن الله تعالى قديم قادر عالم حي بذاته لا لمعان، أي أنه لا تقوم به معاني هذه الصفات، فهو تعالى عند هؤلاء –مثلا- عالم بذاته قادر بذاته لا بعلم وقدرة، وهكذا بقية الصفات، وهذا مذهب جمهور المعتزلة.

الطريقة الثانية: إثباتها اسما ونفيها فعلا، فيقولون: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وهكذا بقية الصفات، وعلى هذا القول بعض المعتزلة، وهم موافقون لأهل الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات.

وهذا أصل من أصول المعتزلة، فإنهم يصفون الله تعالى بما قام بغيره ويقولون: هذه إضافات، قال شيخ الإسلام: *وأصل النفاة المعطلة من الجهمية والمعتزلة أنهم يصفون الله بما لم يقم به، بل بما قام بغيره، أو بما لم يوجد، ويقولون هذه إضافات لا صفات- فيقولون: هو رحيم ويرحم، والرحمة لا تقوم به، بل هي مخلوقة وهي نعمته- ويقولون: هو يرضى ويغضب، والرضا والغضب لا يقوم به، بل هو مخلوق، وهو ثوابه وعقابه- ويقولون: هو متكلم ويتكلم، والكلام لا يقوم به، بل هو مخلوق قائم بغيره- وقد يقولون: هو مريد ويريد، ثم قد يقولون: ليست الإرادة شيئًا موجودًا، وقد يقولون: إنها هي المخلوقات والأمر المخلوق، وقد يقولون: أحدث إرادة لا في محل*، وتبع المعتزلةَ على إثبات الأسماء مجردة عن الصفات الرافضةُ الإمامية، والزيديةُ، وبعض الخوارج*، وابن حزم الظاهري حيث يقول في نفي الصفات: *وأما إطلاق لفظ الصفات على الله عز وجل فمحال لا يجوز*،  ويرى *أن الأسماء الحسنى كالحي، والعليم، والقدير، بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم، ولا قدرة، وقال: لا فرق بين الحي وبين العليم في المعنى أصلًا*، وهذا هو مذهب المعتزلة حيث يجعلون أسماء الله تعالى أعلاما مجردة لا معنى لها، ولذلك يقولون إنها مترادفة، ولا فرق بينها من حيث المعنى.

الطائفة الرابعة: نفاة بعض الصفات دون بعضها الآخر:

الذين يثبتون الأسماء الحسنى مع إنكار معاني بعضها، وأهل هذا المذهب هم المسمون بالصفاتية، وهم منقسمون إلى طائفتين:

1- طائفة تثبت سبع صفات أو ثمان فقط، وهم متأخرو الأشاعرة والماتريدية.

2- طائفة تثبت الصفات ما عدا الاختيارية منها، وهم الكلابية ومتقدمو الأشاعرة.

أما الطائفة الأولى فإنها على طريقة المعتزلة في وصف الله تعالى بالنفي المفصل والإثبات المجمل، فهم يقولون إن ماهية الله تعالى مخالفة لسائر الماهيات لعينها، فهي غير مركبة، وليست جسمًا ولا جوهرًا ولا عرضًا، وليس الله تعالى جسمًا ولا متحيزًا، ولا في جهة ولا مكان، ولا يتصف بشيء من الأعراض المحسوسة، كالألوان والطعوم والروائح، ولا يتحد بغيره، ولا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء، ولا تقوم الحوادث بذاته، إلى غير ذلك من السلوب التي يؤسس عليها أئمة متأخري الأشاعرة والماتريدية عقائدهم ويبدءون بها كتبهم، ويطيلون في شرحها والاستدلال عليها بالأدلة العقلية على طريق الفلاسفة والمعتزلة، ويسمونها الصفات التي تستحيل في حق الله تعالى، ومنهم من يسميها السلوب.

ويزيد الماتريدية صفة التكوين على الصفات السبع التي يثبتها الأشاعرة، ويلاحظ أن الماتريدية ومتأخري الأشاعرة متفقون في المنهج العام وهو أن معيار إثبات الصفات عندهم هو دلالة العقل عليها ولا يثبتونها استنادًا لنصوص الكتاب والسنة، بل عارضوا مدلول النصوص بما ادعوه من العقليات، فما رأوا أنه لا مجال للعقل فيه تعرضوا له بالتأويل والتعطيل.

كما أن جمهورالأشاعرة والماتريدية يرون الاعتماد على السمع في إثبات أسماء الله تعالى، قال البغدادي: *وقال أهل السنة –يعني الأشاعرة-: إنها –يعني أسماء الله- مأخوذة من التوقيف، وقالوا: لا يجوز إطلاق اسم على الله من جهة القياس وإنما يطلق من أسمائه ما ورد به الشرع في الكتاب والسنة الصحيحة وأجمعت الأمة عليه*.

وأما الطائفة الثانية فهي التي تنفي الصفات الاختيارية، وهم الكلابية ومتقدمو الأشاعرة، وفي هذا المجال نجدهم يؤصلون لدليل الأعراض، ومسألة حلول الحوادث، ويجعلون نفي ذلك هو أصل إثبات وجود الله تعالى، وقد حكى عنهم شيخ الإسلام تفاصيل ذلك وكيف ينفون به الصفات فقال رحمه الله تعالى: والكلابية يقولون هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة، ولا تكون بمشيئته، فأما ما يكون بمشيئته فإنه حادث، والرب تعالى لا تقوم به الحوادث، ويسمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث؛ فإنه -عندهم- إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته، وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته كان ذلك النداء والكلام حادثا.

وهكذا التزم الكلابية لوازم باطلة أدت بهم إلى نفي هذا النوع من الصفات، وهذا قريب من مذهب المعتزلة فإنهم يجعلون الصفات إضافات منفصلة عن الله تعالى، والكلابية إما أن يجعلوها كذلك أو يقولوا هي لازمة له، قال شيخ الإسلام: "الجهمية المحضة من المعتزلة ومن وافقهم يجعلون هذا كله –يعني الصفات الاختيارية- مخلوقا منفصلا عن الله تعالى، والكلابية ومن وافقهم يثبتون ما يثبتون من ذلك، إما قديما بعينه لازما لذات الله، وإما مخلوقا منفصلا عنه.

وقد وافق قدماءُ الأشاعرةِ الكلابيةَ في نفي هذا النوع من الصفات، يقول الباقلاني شارحا لمعنى المجيء والإتيان في قوله تعالى:﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا﴾،  وفي قوله تعالى:﴿هَل يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلغَمَامِ وَٱلمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرجَعُ ٱلأُمُورُ﴾* يجيء ويأتي بغير زوال ولا انتقال ولا تكييف، بل يجب تسليم ذلك على ما ورد وجاء به القرآن، ويقول: جاء الله بمعنى أنه فعل فعلا كأنه جاء، كما يقال: أحسن الله وأنعم وتفضل على معنى أنه فعل فعلا استوجب به هذه الأسماء، ويمكن أن يكون أراد بذلك إتيان أمره وحكمه، والأهوال الشديدة التي توعدهم بها وحذرهم من نزولها، ويكون ذلك نظيرا لقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِم لِأَوَّلِ ٱلحَشرِۚ مَا ظَنَنتُم أَن يَخرُجُواْ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعبَۚ يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدِي ٱلمُؤمِنِينَ فَٱعتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلأَبصَٰرِ﴾، ولا خلاف في أن معنى هذه الآية: إنها أمره وحكمه إياهم وعقوبته ونكاله، وكذلك قوله:﴿قَد مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى ٱللَّهُ بُنيَٰنَهُم مِّنَ ٱلقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ ٱلسَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتَىٰهُمُ ٱلعَذَابُ مِن حَيثُ لَا يَشعُرُونَ ﴾، هكذا نجد الباقلاني –وهو أحد أئمة متقدمي الأشاعرة- يوافق أسلافه من الكلابية والأشاعرة في نفي الصفات الاختيارية وتأويل الآيات التي تدل عليها وهذا هو دأب هؤلاء جميعًا في أسماء الله وصفاته.

وبناءً عليه صار لهم في نصوص الشرع الكتاب والسنة إذا تعارضت مع أدلتهم ونتائجهم مسلكان هما:

1- المسلك الأول: رد المعنى وذلك بالتأويل أو التفويض.

2- المسلك الثاني: رد النص وعدم قبوله.

قال الرازي: اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك:

إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها؛ ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى، فهذا هو موقف عموم الفلاسفة المنتسبين للإسلام والمتكلمين من جهمية ومعتزلة وأشعرية وماتريدية من نصوص الصفات، فإن كانت من القرآن الكريم مما لا يستطيعون الطعن في ثبوته أولوه وغيروا معناه ليتفق مع مقصدهم وهو نفي دلالته على الصفة أو توقفوا عن التأويل، وفوضوا علم المعنى إلى الله مع القطع بعدم دلالة النص على الصفة.

وإن كانت الصفات واردة في شيء من الأحاديث النبوية زعموا كذبًا وزورًا أنها مردودة بدعوى أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد أو أن العقائد لا تثبت بأحاديث الآحاد.

• المسلك الأول: رد المعنى:

يرد المعطلة معنى النص بطريقتين: إما التأويل أو التفويض وبيان ذلك فيما يلي:

أولًا: التأويل.

التأويل في اللغة يتردد بين معنيين:

الأول: مرجع الشيء ومصيره وعاقبته:

الثاني: التفسير والبيان.

وأضاف المتأخرون معنى آخر وهو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى محتمل مرجوح لعلة. أما في القرآن والسنة واستخدام السلف فلم يرد لفظ التأويل إلا على المعنيين الأولين وذلك مثل قوله عز وجل:﴿هَل يَنظُرُونَ إِلَّا تَأوِيلَهُۥۚ﴾، والمراد بتأويله هنا ظهور حقيقته وذلك يوم يأتيهم الجزاء يوم القيامة، ومن ذلك قوله لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، فعلم التأويل هو علم التفسير- ومن ذلك قول ابن جرير في تفسيره: *القول في تأويل الآية..* ومراده تفسير الآية وبيان معنى ألفاظها وأحكامها .

فهذان المعنيان هما الاستخدام الصحيح لكلمة التأويل، ولكنها صارت في عرف المتأخرين خاصة بالمعنى الأخير وهو تحريف المعنى من معناه إلى معنى غير ظاهر لعلة وهذه العلة لا تعود في الغالب لمعنى شرعي؛ وإنما تعود إلى رأي وهوى، وهذا حقيقته تحريف كما يقول شيخ الإسلام: فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل، وقال ابن القيم: والتأويل الذي يخالف ما دلت النصوص، وما جاءت به السنة هو التأويل الفاسد.

أمثلة من التأويل الفاسد لدى المتكلمين:

من الأمثلة التي استخدم المتكلمون التأويل فيها:

1- تأويل الآيات المتضمنة للصفات.

فالمعتزلة يؤولون سائر الصفات ويمنعون اتصاف الله عز وجل بصف ثبوتية، ويقولون إن اتصاف الله عز وجل بصفة من الصفات يؤدي إلى إثبات آلهة معه وإثبات الجسمية له وما إلى ذلك من الدعاوى فكل صفة من الصفات يؤولونها حتى لا يقعون في التشبيه أو نحو ذلك، فيقولون إن المراد بالآيات الدالة على الصفات مثل الاستواء هو الاستيلاء، والرحمة هي إرادة الثواب واليد القدرة، والعلم الإدراك والسمع والبصر هو الإدراك وهكذا سائر الصفات.

أما الأشاعرة والماتريدية فاستخدموا التأويل أيضًا بنفس الطريقة التي استخدمها به المعتزلة إلا أنهم أكثر إثباتًا للصفات من المعتزلة، إلا أن ما يخالف قواعدهم فإنهم يؤولونه مثل قولهم في الاستواء الاستيلاء، واليد القدرة، والرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العقاب، والوجه الذات، ونحو ذلك من التأويلات التي هي في الأصل تأويلات المعتزلة نفسها.

بيان بطلان التأويل عند المتكلمين:

المتكلمون عمومًا تصوروا في أنفسهم تصورًا بالنسبة لله عز وجل ثم بناءً عليه أرادوا تطبيق هذا التصور على كلام الله عز وجل وكلام رسوله الذي لا يشك عاقل أنه لا ينطبق على تصور المتكلمين وآرائهم وإنما هم في وادِ والشرع في واد آخر، فأرادوا أن يجمعوا بين الثرى والثريا ويطبقوا تصوراتهم على الشرع بتأويلاتهم الفاسدة، وقد نهى السلف رحمهم الله عن تأويل نصوص الصفات بل قد أجمعوا على إثباتها من غير تأويل وتحريف ومن ذلك قول الترمذي رحمه الله في كلامه عن حديث: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل"، قال: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات في الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: نثبت الروايات في هذا ونؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف.

هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعن ابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع لا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿لَيسَ كَمِثلِهِۦ شَيءٞ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ﴾ .

وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن فما ذكره الله تعالى في القرآن من الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف. ونقل الإجماع على عدم التأويل ابن عبد البر رحمه الله حيث قال: *أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز*. فهذا دليل على بطلان التأويل وضلال المؤولة ومخالفتهم لمنهج السلف.

كما أن للتأويل الذي هو التحريف لوازم كثيرة باطلة تتضح لكل من تأمل تأويل هؤلاء المعطلة ومن هذه اللوازم:

١- أن القرآن والسنة ليسا كتابي هداية، بل ضلال على زعمهم وذلك أنهم زعموا أن جميع ما فيها من الصفات ليس على ظاهره مما يؤدي إلى انحراف الخلق لعدم إدراك كثير من الناس للتأويل الذي يصرف الكلام عن ظاهره، حتى أتى المتكلمون فبينوا لهم أوجه التأويل التي تبطل دلالة اللفظ الظاهر.

٢- يلزم من قولهم بالتأويل عجز الله تبارك وتعالى ورسوله عن التعبير الصحيح حيث تكلم بما ظاهره خلاف الحق- وذلك أن آيات وأحاديث الصفات لا تكاد تحصر كثرة وعلى زعم المتكلمين أنها ليست على ظاهرها، فكان الأولى عدم تركها بدون بيان، وتركها هكذا بدون بيان وتحذير من الأخذ بظواهرها إما دليل على العجز عن التعبير الصحيح أو عدم الرغبة في الهداية وكلاهما منتف عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

٣- أن دعوى أن نصوص الصفات ظاهرها باطل، وأن الحق هو في تأويلات المتكلمين وتخرصاتهم مؤد إلى أن ترك الناس بدون وحي في هذا أسلم لهم من أن يكون الوحي مضلًا لهم ومبعدًا لهم عن الحق.

٤- يلزم من دعواهم في التأويل أن يكون الصحابة وأهل القرون المفضلة إما جهلوا تلك التأويلات أو كتموها وذلك أنه لم يرد عن أحد منهم تلك التأويلات التي زعمها المتكلمون- ويلزم من هذا إما أنهم جهلوا تلك التأويلات ولم يعلموها ولازم هذا أن يكونوا اعتقدوا بظاهر تلك الصفات فاعتقدوا في الله الباطل، وإما أنهم علموا بها ولكنهم كتموها ولم يبينوها للأمة فيكونوا بذلك قد خانوا الأمة وكتموا علمًا يحرم عليهم كتمانه خاصة أنه يتعلق بالتعريف بالله عز وجل وصفاته وأفعاله، وكل ذلك لا شك منتف عن خير الأمة وأئمتها وأفضل قرون أهل الإسلام.

٥- أن المتأول من هؤلاء المتكلمين لا يمكنه أن يبين الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ تأويله من الآيات والأحاديث،ذلك أن التأويل مبني على قواعد عقلية مخالفة للشرع، ولكل من المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والماتريدية فضلًا عن الفلاسفة رأيهم ومنهجهم، فاختلفوا بناء على ذلك فيما يؤولونه ويحرفونه، فأول المعتزلة الصفات كلها وأول الأشعرية والماتريدية بعضها وأول الفلاسفة والباطنية الصفات والأفعال وحتى المعاد وأسماء الملائكة فبالتالي لا يستطيع أحد منهم أن يبين الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ تأويله.

٦- أن المؤول لا يمكنه الرد على منكري البعث ولا على منكري الربوبية من الملاحدة الباطنية وذلك لأن آيات وأحاديث الصفات التي تسلط عليها المتكلم الضال بالتحريف الذي يسميه تأويلًا أكثر وأظهر من آيات البعث وآيات الربوبية، كما أن المتكلم لا يرجع في تأويله إلى دليل شرعي إنما إلى نظر عقلي يعود إلى مشركي اليونان الوثنيين، فبالتالي لا يستطيع أن يقيم الحجة على منكري البعث ومنكري الربوبية الذين يرجعون في دعاويهم إلى القوم نفسهم.

٧- أن المتكلمين لم يرجعوا فيما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة وإنما رجعوا إلى قوانين الصابئة والمشركين من الفلاسفة الوثنيين وجعلوا القرآن والسنة وراءهم ظهريًا وزعموا أنهم يريدون أن يوفقوا بين العقل والقرآن وصدق فيهم قول الله عز وجل:﴿أَلَم تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَد أُمِرُوٓاْ أَن يَكفُرُواْ بِهِۦ وَيُرِيدُ ٱلشَّيطَٰنُ أَن يُضِلَّهُم ضَلَٰلَا بَعِيدٗا وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَواْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيتَ ٱلمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا فَكَيفَ إِذَآ أَصَٰبَتهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم ثُمَّ جَآءُوكَ يَحلِفُونَ بِٱللَّهِ إِن أَرَدنَآ إِلَّآ إِحسَٰنٗا وَتَوفِيقًا﴾.

٨- أن التأويل الذي يزعمه المتكلمون للصفات مراعاة لما يسمونه التقديس أو التنزيه يلزم منه لازم مثله في الضلالة أو ربما أكثر منه وذلك أن المتكلمين إنما أولوا الصفات التي يلزم منها عندهم الجسمية أو نحو ذلك، إلا أنه يلزمهم من الباطل فيما أولوا أشد وأعظم مما فروا منه، فصفة العلو مثلًا نفوها فرارًا من التجسيم، وقالوا: هو لا داخل العالم ولا خارجه، فإذا بهم ينفون وجود الله عز وجل لأن كل ما لم يكن داخل العالم ولا خارجه فلا وجود له أو يلزمهم أن يقولوا هو في كل مكان، فيلزم لذلك عدم تنزيهه عن مكان من الأماكن القبيحة والمستقذرة، وكذلك نفيهم للكلام، وزعم الأشاعرة أنه الكلام النفسي، فإن لازم ذلك وصفة سبحانه بالخرس الذي هو صفة نقص أما الكلام فهو صفة كمال ولاشك أن هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة بأن يبتلى بضد ما قصد، وماذا بعد الحق إلا الضلال.

ثانيا: التفويض

يقصد به: اعتقاد عدم صحة دلالة ظاهر النص على الصفة وتفويض علم معنى النص إلى الله عز وجل- مثال ذلك: اليد والوجه والقدم ونحوها من الصفات فهي ألفاظ ليس لها معنى معلوم عندهم، وإنما الله تبارك وتعالى هو الذي يعلم مراده منها، مع الحذر من اعتقاد أنها تتضمن إثبات صفة اليد أو الوجه أو القدم، ويضيفون أيضًا أن هذا هو مذهب السلف.

وهذا الذي رجع إليه الجويني في كتابه *العقيدة النظامية* وأوجبه، مع أنه في كتابه *الإرشاد إلى قواطع الأدلة* يوجب تأويل الصفات حذرًا من اللبس ووقوع الشبهات في الدين. والغزالي جعل التفويض هو الذي يصار إليه مع العوام فيزجروا عن تعلم معاني الصفات ويفهموا فقط أن الله ليس كمثله شيء، وزعم أن هذا الموقف من العوام هو مذهب السلف وأنهم كانوا لا يطلعون العوام على علم معاني الصفات مع أنهم كانوا يعلمون ذلك، وبنى على ذلك كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام.

أما المتأخرون من الأشاعرة فصاروا إلى أن كل نص فيه إثبات صفة لا يثبتونها، فعلى المسلم أن يعتقد عدم ثبوتها أولًا، ثم بعد ذلك إما أن يؤول وإما أن يفوض إلى الله عز وجل علم المعنى، الرد عليهم في دعوى التفويض- الأشاعرة والماتريدية الذين يدعون التفويض وينسبون ذلك إلى السلف جمعوا بين تجهيل السلف والكذب عليهم كما أنهم متناقضون في هذه الدعوى وهذا يتبين مما يلي:

١- إن ادعاء أن السلف كان مذهبهم تفويض المعنى تجهيل لهم وذم، لأن معنى ذلك أنهم كانوا كالأعاجم والأميين الذين لا يفهمون معاني الصفات، وإنما يقرؤون آيات القرآن ولا يدرون ماذا تعني، وهذا خلاف الحق الظاهر المشهود، فإن الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا لفظ القرآن وتفسيره ونقلوه إلى من بعدهم- قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: *والذي لا إله إلا غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته* وعنه رضي الله عنه أيضًا أنه قال: *كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن*،وعن مجاهد قال: *عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها*. فهذه النصوص تدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا أميين جهلاء لا بالنسبة لنصوص القرآن ولا بالنسبة لآيات الصفات ومن ادعى أنهم يجهلون معاني النصوص فقد افترى عليهم.

٢- إن ادعاء أن السلف كانوا مفوضة للمعنى كذب عليهم أيضًا لأن كل من اطلع على النصوص عنهم أدرك أنهم اثبتوا معاني الصفات على الوجه اللائق بالله عز وجل ومن ذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في أمر الإفك: "لشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيَّ بأمر يتلى". وكذلك قولها رضي الله عنها الذي رواه البخاري: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات".

وقال الأوزاعي إمام أهل الشام: *كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته *. فهذا غيض من فيض في الدلالة على أن السلف كانوا يثبتون معنى الصفة ويفوضون في الكيفية وهذا ظاهر بحمد الله.

٣- إن المفوضة يستدلون لقولهم بالوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى:﴿وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلعِلمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّن عِندِ رَبِّنَا﴾.

ويزعمون أن الصفات من المتشابه، وفي ذلك خطأ من أربعة أوجه:

أولًا: أن نسبة التفويض إلى الشرع خطأ ظاهر لما سبق بيانه.

ثانيًا: ادعائهم أن الصفات من المتشابه وهذا لم يقل به أحد من السلف.

ثالثًا: أنهم يجعلون التفويض أحد الموقفين من النصوص والموقف الآخر والذي عليه جلهم هو التأويل، فكيف ادعوا إسناد العلم إلى الله في هذا ثم يؤولون.

رابعًا: أنهم يمنعون إطلاق الصفة الواردة في الآية وهذا معنى متعلق بالآية وهو عدم القول بالمعنى الظاهر، فادعاء أن هذا تفويض وتوقف في معنى الآية تناقض لأنهم حددوا المراد إجمالًا إلا أنهم لم يحددوه تعيينًا بمعنى أنهم نفوا المراد ثم لم يحددوا المراد، وهذا تناقض.

ولو نظرنا في موقف العلماء من فواتح السور ممن لم يفسرها قالوا الله أعلم بمراده منها، فهم لم يحددوا أي مفهوم لها لا إجمالي ولا تفصيلي فهذا هو التفويض الصحيح للمعنى أما المتكلمون فدعوى التفويض عندهم متناقضة في نفس الصفة لما ذكرنا.

٤- إن ادعاء تفويض علم معنى الصفة إلى الله عز وجل فيه تفريغ لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والسنة عن معانيها الظاهرة وإبطال لدلالتها على المعاني وفي هذا من الطعن في القرآن والسنة ما فيه، لأن معناه أن الله عز وجل خاطبنا بكلام لا معنى له عندنا ولا فائدة لنا فيه، بل هو كلام خال من أي فائدة، بل في زعمهم مضر لنا في ديننا، وحاشا كلام الله عز وجل وكلام رسول الله أن يكون كذلك، بل الأولى بهذه الأوصاف كلام المتكلمين وأضرابهم.

• المسلك الثاني: رد النص:

ردهم للأحاديث النبوية في الصفات:

المعطلة لما اعتدوا على آيات الكتاب العزيز بالتحريف والتعطيل تسلطوا على أحاديث النبي بالإلغاء والرد والإبطال فزعموا أنها أحاديث آحاد لا تقبل في العقائد، وفي هذا يقول عبد الجبار المعتزلي عن خبر الواحد: *يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه، فأما قبوله فيما طريقته الاعتقادات فلا*. ويقول الرازي: *أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز* وهذا لا شك من الظلم والاعتداء والبغي والضلال ورد الحق لشبه عقلية وتصورات ذهنية ليست بشيء ولا على شيء، وقد رد ذلك علماء الإسلام وبينوا بطلانه وبينوا أن حديث الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملًا به وتصديقًا له يفيد اليقين عند جماهير الأمة.

ومما يبين بطلان دعوى المتكلمين أشياء عديدة منها:

١- أن الصحابة رضي الله عنه وكذلك التابعين وأئمة الإسلام لم يفرقوا بين الأحاديث كما فعل المتكلمون إنما كانوا إذا صح الحديث أخذوا به في العقائد والأحكام وإذا لم يصح ردوه في العقائد والأحكام، فعلى من زعم التفريق أن يثبت أن الصحابة أو التابعين كانوا يفرقون بين ذلك.

٢- أن الله أرسل للناس رسلًا أفرادًا فلو كان التواتر مشروطًا في إقامة الحجة ما قامت الحجة على الناس بإرسال أفراد من الرسل.

٣- أن الله عز وجل قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُم فَاسِقُ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ﴾، فعلل الرد بالفسق ومفهوم ذلك أنه إذا جاء العدل قُبل قوله.

٤- أن النبي أرسل رسله بكتبه إلى الملوك حول الجزيرة وهم أفراد وقد قامت الحجة على أولئك بتلك الرسائل كما أرسل أصحابه معلمين وولاة وقضاة مثل أبي موسى الأشعري ثم معاذ بن جبل ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، كما أرسل قبل ذلك مصعب بن عمير إلى المدينة فدخل بدعوته كثير من أهلها، كما أرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى نجران، فلو كانت العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد لما صح ذلك من النبي ولما أقره الله عز وجل عليه.

٥- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، فدعا للنفر الواحد بنقل الرواية ولم يفرق في ذلك بين عقيدة وشريعة وفي هذا كفاية والله أعلم.

موقف أهل السنة والجماعة من أسماء الله وصفاته:

لقد جاءت رسالة النبي بإثبات الأسماء والصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء وحصل به العلم اليقيني، فقد فُصلت فيها الأسماء والصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقد عرف ذلك أهل السنة والجماعة فقرروا إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوزون فيها التوقيف؛ لأن معرفتها أمر غيبي، لا يمكن الوصول إليه إلا بالخبر الصادق عن الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا مجال للعقل في ذلك، فلا يثبت أهل السنة من هذا الباب إلا ما أثبته الشرع، ولا ينفون إلا ما نفاه.

قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: *لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ لا نتجاوز القرآن والسنة*.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، قال تعالى: ﴿لَيسَ كَمِثلِهِۦ شَيءٞ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ﴾،  فهذا رد على الممثلة، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ﴾ رد على المعطلة،

ومن الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن أسماء الله الحسنى متضمنة للصفات، فكل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي يدل عليه الاسم الآخر، فالعزيز متضمن لصفة العزة وهو مشتق منها، والخالق متضمن لصفة الخلق وهو مشتق منها، فأسماء الله مشتقة من صفاته.

قال ابن القيم رحمه الله: أسماء الرب تعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء وأوصاف، وبذلك كانت حسنى؛ إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدح ولا كمال، ولساغ وقوع الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس، ونفي معاني أسماء الله تعالى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى:﴿وَلِلَّهِ ٱلأَسمَآءُ ٱلحُسنَىٰ فَٱدعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلحِدُونَ فِيٓ أَسمَٰٓئِهِۦۚ سَيُجزَونَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ﴾، ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها، ويوصف بها لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها، وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله .

لذا فمعتقد أهل السنة والجماعة في باب صفات الله تعالى مبني على الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.

لقد خلصت من خلال بحثي لهذا الموضوع إلى نتائج أجملها في الآتي:

أولا: وضوح منهج أهل السنة والجماعة في باب الإيمان بالله، وسلامتها من التعارض أو التناقض، وخلوها من الغموض والاضطراب.

ثانيًا: جرأة المعطلة على كتاب الله، وعدم تعظيمهم له.

ثالثًا: فساد الأصول التي أقام عليها المخالفون أقوالهم في باب أسماء الله وصفاته.

رابعًا: مخالفة المعطلة في عامة تحريفاتهم لظاهر اللسان العربي.

خامسًا: تناقض أرباب التعطيل في الأقوال والتقريرات، وتضارب أقوالهم، وكثرت النزاع والافتراق بينهم.

سادسًا: عدم ثبات أرباب الأهواء على قول أو معتقد.

سابعًا: المخالفون من أرباب التعطيل لا يأخذون من النصوص الشرعية إلا ما يرونه موافقًا لأهوائهم.

 

أهم التوصيات:

وأخيرًا فإني أوصي طلبة العلم والباحثين بالالتفات إلى شبه المخالفين الشرعية بالكشف والبيان في سائر أبواب الإيمان؛ فبيان ذلك للعامة والخاصة فيه نصح ظاهر للأمة ودفع لصولة أهل الباطل عنهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply