البدعة من العادة إلى العبادة 2


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فقد أصبحت البدعة في نظر الناس سُنة واجبة، فإن رأوها فرحوا بها، وإن غابت عنهم حزنوا عليها وتأسفوا منها، وقد تدمع عيونهم لأجلها، وتضيق صدورهم لغيابها والله المستعان. فإن أنكرت عليهم تحججوا بحجج غريبة مثل قولهم: الشيخ فلان أجازها والشيخ فلان فعلها... إلخ. "فإن الحق يَعلوا ولا يُعلى عليه" فنحن "نتبع الدليل أينما دار" فإن أخطأ عالم ما فلا يُتابع على خطئه وإن كان أعلم الناس في زمانه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر) نقلًا من الملخص في شرح كتاب التوحيد للشيخ الفوزان حفظه الله ص (311).

فالبدعة بدعة وإن كانت خيرًا للناس في ظاهر المظاهر وأعلنوها الأئمة في المنابر، فواجبنا أن ندفنها كما يُدفن الميت بين المقابر، لأن الاستمرار في البدعة قد يراها الناس سُنة، واتباع السُنة بعد هجرانها يرونها بدعة والله المستعان. فالسكوت على البدعة في حد ذاتها بدعة، والرضا عنها ضلالة، ومحبتها طريق للجهل، ولهذا واجبنا نحو البدع وأهلها هو الحذر والتحذير منهم.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (والبدعة كل ما أحدث من عقيدة أو عبادة على خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون) أخطاء يرتكبها بعض الحجاج ص (30).

وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله: (فشرائع الله محددة والعقائد محددة والأوامر محددة مضبوطة وكل شيء مضبوط ويأتي أحدهم يزيد من عنده فهذا طغيان) الثبات على السُنة له ص (13).

وقال أيضًا: (وكل مبتدع ظالم) المصدر السابق ص (16). واعلم أن البدعة هي من سُنة إبليس لأتباعه فلا تكن منهم.

ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يثاب منها والبدعة لا يثاب منها) تلبس إبليس لابن الجوزي رحمه الله ص (16).

فالبدعة هي مخ الضلالة ولباس الشرك، وقد قال العلماء: (البدعة رحم ماسة) وفي المعجم العربي معنى "رحم ماسة" أي "قرابة عائلية"، فتجد أهل البدع لا يُنكرون على بعضهم ما يصدر منهم من أباطيل، ويعادون أهل السُنة بسبب الإنكار. فالبدع لها درجات، وكل حسب بدعته، وكل مبتدع كذاب وإن كان أزهد الناس في العبادة، والبدع أكثرها موروثة في هذا العصر عن الأجداد والآباء، وهي مجرد آراء تحت تأثير التقليد والعادات، فيقولون كلام كان يقال في الجاهلية مثل: وجدت جدي يفعل كذا أو كان أبي يقول كذا... إلخ.

وقد قال الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: (إن الإسلام حرر العقل) ثم قال: (وإذا وقع نزاع بين العقل والتقاليد فإن الحكم في آخر الكلمة يكون للعقل) ص (29) نقلًا من كتاب عبد الحميد بن باديس والهوية الجزائرية لعلي تابليت. فإن كان جدك وأبوك على خطأ فلا تتبع ذلك الخطأ، وابحث عن الصواب واتبع الحق متى وجدته.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((... واتركوا ما يقول آباؤكم...)) متفق عليه. وهذا في تقليدهم في البدع من كل قول أو فعل. فالرأي هو قلب البدعة ومُحييها بين الناس، ولهذا إبطال الآراء الفاسدة في الدين هو من إبطال البدع المحدثة في حد ذاتها، وهذا يُساهم بشكل كبير في الخروج من الفوضى الفكرية التي تمس الساحة الدعوية في العالم الإسلامي. ويكون إبطال الآراء الفاسدة بتركها كلية من كل فعل وقول لأهلها، ولا نجعل لها سهمًا في الدين، وعلينا باتباع الدليل الذي يوافق الكتاب والسُنة ومن القياس والإجماع والذي عليه سلف الأمة، ولا ندافع على أصحاب هذه الآراء ولا على أخطائهم وإن كانوا شيوخ الإسلام.

وقد قال الشيخ ابن عبد الوهاب النجدي رحمه الله: (البدع تجر إلى الردة الصريحة) مفيد المستفيد له ص (44). وقال الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: (البدع والضلالات هي التي مهدت السبيل لدخول الإلحاد على النفوس وهيأت النفوس لقبول الإلحاد) نقلًا من مجلة الإحياء للشيخ فركوس حفظه الله ص (62) العدد (21). وقال الشيخ فركوس حفظه الله: (البدعة في الدين فهي ضلالة وبريد إلى الشرك) المصدر السابق ص (10) العدد (15).

والآن علينا أن نفرق بين الأمر المعتاد عليه والأمر المتعبد به من أجل التفريق الحقيقي بين العادة والبدعة. فمثلًا قولك: "عطرك الله بعطر الجنة" لمن أعطاك المسك، فالمسك أمر اعتيادي وليس تعبدي، والدعاء هنا جائز وإن لم يرد في السُنة. أما في يوم الجمعة، قولك: "جمعة مباركة" فهذه بدعة لأن الأصل في الجمعة هو التعبد بما ثبت في الكتاب والسُنة كالإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء لأن فيها ساعة استجابة، والحضور لاستماع خطبة الإمام، وقراءة آيات من سورة الكهف... إلخ.

فلا نستطيع الإضافة لما لم يثبت في السُنة، والدليل على النهي من تخصيص الجمعة على غيرها من الأيام بما لم يثبت هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) رواه مسلم. وهذا كي لا يُقدس هذا اليوم أو يُعظم كمن يُخصص هذا اليوم في زيارة المقابر، أو يُخصص أكلة خاصة لا يأكلها إلا يوم الجمعة في سائر السَنة طوال حياته... إلخ. فيجب علينا مراقبة العادات قبل تحولها إلى عبادات، فمن اعتاد على العادة الخاطئة في الدين فله الوزر ووزر من عمل بها. وقد قال الشاعر:

وكل خير في اتباع من سلف 

وكل شر في اتباع من خلف

الثبات على السُنة للشيخ ربيع المدخلي حفظه الله ص (39).

قال الملهب: (الذي يُحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها) نقلًا من جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم ص (567).

وقال الشيخ العربي التبسي رحمه الله وهو يتحدث عن البدعة: (ومن نصرها كان له من الوزر مثل أوزار من أحدثها) السلفية لابن باديس رحمه الله بجمع الشيخ أبو محمد سمير بدار الفرقان ص (28).

قال الشيخ محمد حاج عيسى الجزائري: (وإنما تتحول العادة إلى بدعة إذا اقترن بها التعبد) الرد النفيس له ص (242).

وعندما نتكلم عن البدعة فيجب أن نفرق أولًا بين الحياة والعبادة لأن البدعة متعلقة بالعبادة والتعبد وليست الحياة. لأننا عندما نقول لفلان إن هذه بدعة، فيقول لك: وركوب السيارة أيضًا بدعة لأن السيارة والهاتف لم يستعملهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن في زمانه، وما لم يفعله لا يجوز لنا فعله، وهذا مفهوم خاطئ. إذ أن البدعة هي التي يعتقد صاحبها أنه على حق وقد فعل الصواب فيُأجر فيها بالحسنات يوم القيامة، كقراءة القرآن جماعة فهذا غير ثابت فهو بدعة، وقس على ذلك في كل البدع المحدثة. وأما أمور الحياة التي لا تخالف شرع الله فهي في حكم المباح، قال صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) رواه مسلم، أي في الصناعة والابتكار والتطور... إلخ.

فالبدعة هي مبنية على واجهتين، فإن عرفت كل واحدة منهما نجوت منها بإذن الله، وهما التحديد والتخصيص. فمن حدد يومًا للعبادة فيه وهو ليس مبنيًا على دليل فهذه بدعة، ومن خصص شيئًا للعبادة ليس فيه دليل فهذه أيضًا بدعة. فالتخصيص والتحديد هما أصلًا من أكبر البدع في الإسلام، كمن يخصص الدرس قبل الخطبة في كل جمعة في مساجدنا من بعض أئمتنا هداهم الله، وكذلك فتنة تحديد الاحتفال بالمولد النبوي كل سَنة في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول واعتباره من الأعياد الدينية التي لم ينزل الله بها من سلطان.

وأما عن الذين يقولون لنا "هذه بدعة حسنة" فقد رد عليهم علماؤنا وقالوا: (لا توجد بدعة حسنة) فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((... وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار...)) صحيح الجامع. فالحديث عام لكل البدع.

وقال أحد العلماء: (فلا نستطيع أن نقول كفر حسن أو معصية حسنة أو شرك حسن) وهذا خير رد عليهم، فهل نسمي الكذب بالكذب الحسن أو السحر الحسن أو النفاق الحسن... إلخ، فكيف بمن يقول "بدعة حسنة" فهذا لا يقبل به ذو عقل من البشر، فكيف بمن منّ الله عليه نعمة الإسلام.

قال ابن الماجشون رحمه الله تعالى: (سمعت مالك يقول من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} المائدة (3) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا) نقلًا من جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم ص (563).

والبدعة تؤثر على الصغار أكثر من الكبار. وقد قال الكاتب بن عودة عن هذه الفئة: (ما رسختم في عقولهم بدعة إلا هدمتم في المقابل سُنة) ص (47) كتاب من هنا نبدأ له. فقد تربى الأطفال على حب البدع في المدارس التي تجهل العقيدة الصحيحة، فالبدعة في بادئ الأمر تكون محدثة تميل للحق، وقد قسم أهل العلم البدعة إلى قسمين وقالوا: "مكفرة وغير مكفرة" وهي بمعنى يُكفر صاحبها بسببها أو لا يُكفر، مثل بدعة قول "القرآن مخلوق" فهذه تُكفر صاحبها، وأما بدعة "قراءة القرآن جماعة" فهذه لا تُكفر صاحبها لكن فيها إثم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (بعض هذه البدع أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض) نقلًا من الرد النفيس للشيخ محمد حاج عيسى الجزائري ص (18).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في سبب إحداث البدع من أصحابها: (إما لقلة علمهم أو لقصور فهمهم أو لسوء قصدهم فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها) شرح العقيدة الواسطية ص (23).

وقال أيضًا: (ما ابتدع أحد بدعة إلا قيَّض الله له بمنه وكرمه من يُبين هذه البدعة ويدحضها بالحق، وهذا من تمام مدلول قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر (9) هذا من حفظ الله لهذا الذكر) المصدر السابق ص (22).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply