جهود الإمام في الحفاظ على المرجعية الدينية للبلد الواحد


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أيها السادة الكرام: كلٌّ باسمه ووسمه من الإكبار والتقدير والاحترام والتبجيل، أحييكم قائلا: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أُنْعِمْتم خيرا ويُمنًا وبركة في هذا اليوم، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المجلس مجلسًا مباركًا موفّقًا، شاكرا -ابتداء-القائمين على برمجمة هذا النشاط العلمي الثقافي في هذه الندوة الوطنية لليوم الوطني للإمام، ثم شكري موصولٌ إلى السيد مدير الشؤون الدينية والأوقاف على الثقة التي وضعها فيَّ، وثم مباركا لجميع السادة الحضور كلٌّ باسمه ووسمه مشاركتكم هذا الحفل العلمي، نفع الله بكم وعلى أيديكم؛ وإياي، الأمة والوطن. وبعد:

أقول مستعينا بالله:

مداخلتي في هذه المناسبة التي تذكرنا باليوم الوطني للإمام، أفتَتِحُهَا بكلام أبي عبدالله محمد الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج (ت737ه) في المدخل (ج02، ص03):

"وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَتَشَرَّفُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَعَانِ" إ ه.

فما كان لهذا اليوم (15-سبتمبر) من كل سنة فضلٌ يخرج به من عالم الغيب بأسراره، إلى عالم الشهادة بإشهارِه، إلا بعد وفاة علامة الجزائر، ووارث علم إمام المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدي محمد بالكبير رحمه الله المتوفى يوم الجمعة 15 سبتمبر سنة 2000م، ذاك الجهبذ التحرير، الذي حارب وجاهد العَدُوَّيْنِ: الجهل والاحتلال بسلاح العلم والحكمة، جهادا امتثل فيه قولَه تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة...}.

أعود فأقول؛ إن عنوان مداخلتي في هذه المناسبة العزيزة، مُعَنْوَنَةً وموسُومَة ب: (جهود الإمام في تحصين الجبهة الداخلية، والمحافظة على المرجعية الدينية الوطنية، باعتبارها الضّامن الأساسي لوحدة الأمة وتماسكها).

وقبل الولوج، أفتَتِحُ معانِيَ كلماتِ هذا المقال والمداخلة والتي هي: التحصين، الجبهة الداخلية، المرجعية الدينية والوطنية.

فالتحصين لغة واصطلاحًا: لا يخرج عن معنى الحفظ والحماية والمنع، فالشيء الحصين هو المنيع الذي لا يُقدر عليه.

وأما مصطلح الجبهة الداخلية: فهو مصطلح حديث، يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الوحدة الوطنية، والأمن الداخلي للدولة والأمة.

ومن دلائل تأصيلها قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].

وأما مصطلح المرجعية لغة واصطلاحا: فيقصد به معنيين:

أحدهما: مرجعية الفكرة: المتمثلة في الاختيارات العقائدية والفقهية والسلوكية.

والثاني: مرجعية الأفراد: المتمثلة في الحكام والفقهاء والعلماء، الذين يُرجع إليهم في معرفة وفهم أحكام الشرع وفق المذهب المختار، فهي:" كل الأسس المعتمدة في فهم الدين وتطبيقه في مجتمع ما ".

ومن دلائل التأصيل لها قولُه تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الله وأطيعوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.

وأولو الأمر هم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم مُتَعَيَّنٌ على الخلق، وجوابَهم لازمٌ، وامتثالَ فتواهم واجب.

أقول إن الجزائر كغيرها من الأقطار، لها مرجعتيها الدينية الخاصة بها، في العقيدة، والمذهب الفقهي، وفي مجال السلوك التربوي والروحي، وما يضاف إلى ذلك من عادات وأعراف وقيم لا تخالف هذه الركائز الثلاث.

أنا أعلم يقينا أنني أخاطب علماء يدركون دورهم التام في تحصين الجبهة الداخلية، ويدركون دورهم التام في المحافظة على المرجعية الدينية والوطنية، باعتبارها الضامن الأساسي لوحدة الأمة وتماسكها، ويدركون أن الدور الريادي الذي يؤديه الإمام في سبيل صون قيم وأخلاق المجتمع، أمام مواكبة التحديات المعاصرة لازال منذ الثورة التحريرية إلى غاية الساعة مستمرًّا تتوارثه الأجيال.

فالإمام الذي يعي أن دوره لا يقتصر عن أداء الفريضة، وأن دوره ليس وظيفة كسائر الوظائف فقط، إنما هو رسالة تحتاج إليها كل الوظائف والمؤسسات في الدولة، وأن الإمام مع ما يقدمه للمجتمع من توجيه، وتصحيح للمفاهيم، وإصلاح بين الناس وغيرها، بات اليوم نفسُه كمؤسسة من مؤسسات الدولة التي تدافع عنها؛ ذلك بدفاعه وتحصينه للجبهة الداخلية عقيدة وفقها وسلوكا، فقد جعَلَ اللهُ الخَيْرَ باقيًا في هذه الأُمَّةِ، لا يَنقطِعُ حتَّى تَقومَ السَّاعةُ، وذلك بفَضلِ عُلمائِها ومُجاهِديها، بوعد رسول الله القائل: "يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ".

وإن هذا الشرف وهذا الوسام ونحن في يوم ذكراه الثالثة، أراه من النعم المغدقة، والرزق المساق، والفضل المُفْرِح، {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا...}. وهذا يوجب علينا بذل الجهد في تحصين الجبهة الداخلية للأمة والمحافظة على المرجعية الدينية للوطن، وأرى- كعيِّنة لا حصرا- أن يكون ذلك منا بما يلي:

1- أن نتشبع بثقافة احترام المخالف وإنصافه، ومحبته والثناء عليه بما هو أهله، فلا يصف أحد منا مخالفه بضلال، أو ابتداع، وليسعْنا قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "الأنبياءُ إخوةٌ لِعَلَّاتٍ؛ أُمَّهاتُهم شَتَّى، ودِينُهم واحدٌ"، والمعنى: أنَّ شَرائعَهم مُتَّفِقةٌ مِن حيثُ الأُصولُ، وإنِ اختَلَفت مِن حيثُ الفُروعُ حَسَبَ الزَّمنِ، وحَسَبَ العُمومِ والخُصوصِ، ولنا في هذا قياس.

2- أن نتمثل في ذواتنا شمولية الاقتداء بنا، وتجسيد الترابط واللحمة فيما بيننا، وأن يكون لنا وعيٌ بفقه الفقه حال توظيفه لحفظ المرجعية الدينية، وفقه المقاصد والأولويات حين توظيفها لحفظ الجبهة الداخلية الوطنية.

3- أن ندرك أن الحفاظ على حماية الجبهة الوطنية إرث تركه لنا علماءُ ورجالُ وفقهاءُ وشيوخُ هذا البلد، فلنحفظْه بحفظ الأمانة والوديعة، ونورِّثه لغيرنا بتوريث الوفاءَ للوظيفة، والصدقَ مع الأمة، والإخلاصَ للبلد والوطن.

4- أن نؤسس في الأمة ونعمق فيها واجب البر بالوطن والبلد، برا نراه لا يقل قدرا عن بر أهل البر، ذلك أن حب الوطن والبلد بالفهم الصحيح السليم للمرجعية فطرة وجبلة مهما كان العيش فيه.

فما أبغي سوى وطني بديلا                ***      فحسبي ذاك من وطنٍ شريفٍ.

وأن حُب الوطن دِينٌ وعقيدة وإيمان     ***      وحُبَّ الوطن غنىً وشفاءٌ ودواءٌ.

وللأوطان في دم كل حرٍ                   ***       يدٌ سلفت ودَيْن مستحق.

5- تعلمون – أيها السادة الأئمة - أن الأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة عسيرة، قد تعددت وتداخلت مخاطرها، وأمام هذه المخاطر الواقعة أو المتوقعة، وجب علينا أن نتحلى بالوعي واليقظة والحذر، وأن نتهيأ للمحافظة على وطننا، فهو بيتنا، وفيه مستقرنا، وإليه مأوانا، وفيه نبتنا وعلى حبه ثبتنا، ومن نباته غُذِّينا، وفي سبيله أوذي الآباء والأجداد، ولقد فدَوْه بمليونٍ ونصفِ مليونٍ من الشهداء أو يزيدون.

إن بالمحافظة على المرجعية الدينية يتحقق التماسك بين القيادة والشعب، ويُؤسس للوحدة وعدم الافتراق، ويُطبَّق مبدأ الوقاية والحمية من زعزعة الصف الداخلي، ويُرسَّخ مقصد الأمن الديني والمعيشي {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.

لذا إن من أهم ما يجب علينا تحقيقه، أن نعمل على ترسيخ الوحدة الوطنية، فهي الأساس في المحافظة على قدرات الأمة وبنائها، وهي السبيل إلى تمكينها من الوقوف في وجه أي خطر محتمل.

ولن تتحقق تلك الوحَدة في كيان أمتنا ونسيج مجتمعنا، إلا بوجود مرجعية دينية موحدة، والتي تتجلى حقيقتها وأهميتها في جوانب عدة أذكر منها:

1- إن المرجعية الدينية هي تلك الهيئة والمؤسسة التي يجمعنا سقفها، فنكون تحتَه درعا واقيا للأمة من ذرائع التفكك والشقاق، وأداةً لجمع كلمتها وتوحيد صفوفها، والدرع الذي يقطع الطريق أمام مُروّجي الفتاوى الشاذة، التي تفضي في غالب الأحوال بالإخلال بمرجعية الأمة، وفصم وحدتها وتمزيق صفوفها، والتي لا تزال الكثير من المجتمعات تدفع ثمنَها إلى اليوم!

2-إن المرجعية الدينية تشكل مصدرَ قوَّةٍ وتوحيدٍ وتكاملٍ لتماسك الجزائريين، بجميع مكوناتهم وأطيافهم واتجاهاتهم، بل وتعمل على ترسيخ فكرة انتساب كلِّ جزائري إلى شعبه ووطنه، من خلال الروابط والمبادئ المشتركة التي تجمعنا جميعا.

3-إن المرجعية الدينية تعتبر القاعدة والمقصد المجمع والمتفق عليه، بحيث يُرجع إليها في حسم الأمور وفق مبدأ {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.

بهذا فإن مما ينبغي علينا أيها السادة الأئمة، أن نكون خير خلف لخير سلف؛ وأن نعمل على ترسيخ المرجعية الدينية والوطنية في المجتمع الجزائري، كل في حدود استطاعته وقطره، فإن الأمة قد ائتمنتنا عليها {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. وعلينا أن نمثلها أحسن تمثيل، فقهًا وسلوكًا، بل حتى في الهندام والزيِّ واللباس المغاربي المعهود، الذي يدل على اعتزازنا بانتمائنا الحضاري.

أخيرا أقول:

إن من تبادل الواجب بالحق فإنه مع السعي في تفعيل دور هذه المرجعية كي تبقى الجزائر محفوظة في وحدتها وتماسكها، وفي تراثِها الفقهي والعقدي والسلوكي، وكما أن على الأئمة واجب بذل الجهد في تحصين الجبهة الداخلية للأمة، والمحافظة على المرجعية الدينية والوطنية، فلهم- وذلك من باب: {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض}- حق حماية الجبهة الداخلية لهم، عرفانًا لهم - أعني الأئمة- بالفضل وقداسة مقامهم، فإن الأمة التي تبجِّل وتحترم وتوقر علمائها، وتُعلي قدرهم، وتحيطُهم من ورائهم وتحتفل بذكراهم، وتهتم بعلومهم ومآثرهم، هي أمة جديرة بالتوقير والتبجيل، وحَرِيَّةٌ بأن تحظى برعاية الله وحفظه، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

هذا ما جمعته اقتضابًا، أسأل الله أن نكون به قد انتفعنا، آمين.

مداخلة علمية على شرف: اليوم الوطني للإمام في الذكرى الثالثة. يوم الأحد/ 15/09/2024م، الموافق ل: 11ربيع الأول1446ه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply