اغتراب روح تائهة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

كانت روحًا معلقة في فضاءات الحيرة، تتقاذفها أمواج مشاعر متناقضة وغريبة، وتعتري روحها في لحظة ضياع عن الطريق، ويزيدها الحزن المجنون ضياعًا، فرح عابر يضيء كالبرق، وحزن غارق يتلوى كدوامة بلا قاع، وتستفزها الوحدة كعاصفة تنزع عنها استقرارها الهش وتدفعها بألم ولهفة إلى التفتيش بلهف عن شيء تجهله، فتنهض مسرعة ثم تتعثر تبحث عن شيء لا تعرفه، شيء يبدو كطيفٍ يعبر أفق الوعي، يغريها بحضوره الخفي ويهرب في اللحظة التي تقترب فيها، تمني روحها أن تصادفه وهو يعرفها ويقدم نفسه إليها، أو هو يبادرها فيعرفها بنفسها حين تتعرف إليه!

وتظل تبحث وتبحث، تقف وتتعثر وتقوم وتجري، ثم تتوقف وتبكي، ثم تنهض من جديد، وأملٌ يلامس أطراف قلبها ملامسة الأحلام للنائم المستغرق في حلمه الجميل، يوحي إليها أن هناك شيئًا ينتظرها، ويوهمها أن ما تبحث عنه قريبٌ، وفجأة تستيقظ من أوهامها لتلتفت إلى الوراء، فيتبدد الحلم الواعد كفقاعة ما إن تحاول الإمساك به، وتكتشف أن العمر قد مضى وهي لا تزال تبحث في مساحات المكان نفسه منذ اللحظة الأولى، وأنها كلما نظرت خلفها أدركت أنها لم تبرح مكانها، لقد كانت تدور في حلقة مفرغة، مفرغة من كل شيء سوى الضياع وإهدار الوقت وتدمير الأحاسيس المنظم، وكان العمر ينساب من بين يديها كالرمل دون أن تشعر، وهي عالقة في دوامة تدور فيها ذاتها، فراغ يلتهم فراغًا، وأيام تتكرر بلا جديد سوى الحيرة والهشاشة.

وعندما لاحت لها استحالة الوصول ويئست من البحث، عبثًا حاولت أن تخدع قلبها فبدأت ترسم أحلامًا لم ترها من قبل، أحلام لم تكن سوى أوهامٍ مبتكرة، وفي قلبها غصة أنها ألقت بثقل ثقتها كله على قلب تخولت فيه الجدارة بحبها، ثم اكتشف أنه مجرد خرافة وظلٍ وذكرى لبقاء أشياء تحبها لم تعد موجودة، وفي داخلها غصة وصرخة تقول: "كيف أزرع ورودًا في صحراء قلبي وأنا أعرف أنها لن تزهر؟".

قبضت على القلم بيدها بشدة، ودموعها تتساقط على الأوراق، وذهبت في موجة غضب وحزن ترسم المزيد من الأحلام، ترسم وتمسح، ورجعت ترسم مرة أخرى، ثم تشخبط بالقلم في أرجاء الصفحة وكأن القلم سيف تصول وتجول فيه تخوض به حربها مع الخذلان، في معركة بين إرادة البقاء ورغبة الانهيار.

وفي ونهاية المطاف وجدت الصفحات قد التهمها السواد، فمزقت كل أوراقها التي كان تريد أن ترسم عليها أحلامها، مزقتها واحدة تلو الأخرى، ومزقت معها أحلامها المعلقة بخيط رقيق من أمل موهوم، وصرخت بصمتٍ غاضب وهي ترمي القلم بعيدًا، مثقلة بغربة روحها ووحدتها التي ما تنفك تعزلها عن أجمل الأشياء التي ترغب فيها، ولكنها تجهلها، ومن شدة جهلها برغباتها صارت تجهل نفسها من هي؟ ولماذا هي هنا؟ وعن أي شيء تبحث! وهل تطارد في حياتها مجرد شبحٍ لم يوجد إلا في خيالها!

كانت تلك اللحظة الأخيرة والنادرة التي واجهت فيها الحقيقة، وأدركت أن ضياعها لم يكن في المكان ولا في الأشخاص، بل في ذاتها التي لم تتعلم كيف تنظر في المرآة دون أن ترى انعكاسًا غريبًا عنها. ربما، كان الشيء الذي تبحث عنه طوال هذا الوقت ينتظرها في الداخل، خلف ظلال الألم التي أغرقتها في الغربة والخذلان، واكتشفت أنها حين ستعثر على نفسها ستعرف من كان بالفعل يحبها لذاتها، وكان معها، قريبًا أو بعيدًا، بصبر وحكمة ومعاناة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply