بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين الكرام: ليتخيل كل منا أنه لم يخلق ولم يمر على هذه الدنيا أبداً، فماذا كان، وما ذا سيكون؟. ألم تمض أزمانٌ طويلة قبل وجودنا، والكون هو الكون، والناس هم الناس؛ وهكذا الحال أيضاً بعد موتنا.
فلا افتقرت الموجودات إلى وجودنا سابقاً، ولن يختل نظامها بموتنا لاحقاً. وهذه الحقيقة نص عليها القرآن بقوله: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}.
وقد جاء في الحديث القدسي الصحيح، قال الله تعالى: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ". ولذلك فإنّ لذة الحياة، ومتعةَ الدنيا، وبركةَ العمر، وجمالَ العيش، وراحةَ النفس، وطمأنينةَ القلب، إنما تكون في شعور الإنسان بفقره إلى خالقه ومولاه، ودوام احتياجه إليه في حال وحين، ومتى ما غُرس هذا في القلب فهو بداية الغنى، وحلول الرضا، وحصول التوفيق والهدى.
ولا شك أنَّ جميع الخلق مفتقرون إلى الله في كل شؤونهم وفي جميع أحوالهم، وفي كل أوقاتهم. وفقرهم إلى الله فقرٌ عامٌّ تامٌّ من كل الوجوه، فهم فقراء في إيجادهم ابتداءاً, وفقراء في إمدادهم بكل ما يُصلح أحوالهم، وفقراءُ إلى الله في هدايتهم وتوفيقهم، وفقراءُ إلى الله في تعليمهم ما ينفعهم وفقراءُ في تربيتهم وتزكية أخلاقهم، وفقراء إلى الله في دوام أمنهم واستقرارهم، وفي سلامتهم وحفظهم من كل سوء، وفقراءُ إلى الله في تفريج كرباتهم، وإزالة عسرهم؛ وفقراء إلى حبهم له وحبه لهم، وفي عبادتهم إياه، وعصمتهم من إضلال الشيطان وإغوائه، {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا}.
فجميع الناس فقراءُ إلى الله من كل وجه وبكل معنى، وقد نادى الله جميع الناس وأخبرهم بأنهم بذلك؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}. وكثيرة هي الآيات التي تثبت افتقارنا إلى الله عز وجل. فلنتأمل: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}.
وقال تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً}، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ *وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}. فالضعف والافتقار جبلة في أصل الإنسان.
وحقيقة الافتقار إلى الله تعالى أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظه وأهوائه، ويُقبِل بكليته على ربه جل وعلا متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، معلقاً قلبه بمحبته وطاعته.
فالإنسانُ مهما ملكَ فهو فقير، ومهما تعاظمَ فهو ضئيل، ومهما تطاولَ فهو هزيل، ومهما طال عمرهُ فهو قصير، ومهما قويت حيلته فهو كليل، ومهما أوتي من العلم فهو قليل.
يقول الامام الحسن البصري رحمه الله: *مسكينٌ ابن آدم، محتومُ الأجل، مكتومُ الأمل، مستورُ العلل، يتكلمُ بلحم، وينظرُ بشحم، ويسمعُ بعظم، أسيرُ جوعَة، مُطيعٌ بطنه، تؤذيهِ البقة، وتنتنهُ العَرقة، وتقتلهُ الشرقة، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً*.
يقول الامام ابن القيم رحمه الله: *أكمل الخلق عبوديةً: أكملهم ذلاًّ لله، وانقياداً وطاعة لله، والعبدُ ذليلٌ لمولاه الحقَّ بكل وجهٍ من وجوه الذل، فهو ذليل لعزِّه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه، وإنعامه عليه؛ وذليلٌ لحاجته إليه على مدى الأنفاس، في جلب كل ما ينفعه، ودفع كل ما يضره*.
فمن لم يتشْرب قلبه حقيقة الفقر، ويشعرُ بشدة الحاجةِ وعظيمِ الفاقةِ لخالقه ومولاه, فلن يعرف للعبوديةٍ معنى، ولن يجد للسعادةٍ طعماً، وهو عن البصيرة أعمى.
يقول يحيى بن معاذ: *العبادة هي: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز وجلَّ من القلب*. فمتى أقرَّ الإنسان بضعفه وعوزه، وافتقاره وحاجته، كان من الموفقين، ولئن أعلن فقرهُ واحتياجه لخالقه الغني الحميد من كل وجه, فسيكفيه ويهديه، ويرشده، ويحميه ويرزقه ويكفيه. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَام}.
ألا فما أفقرنا إلى الله تعالى في هدايتنا وصلاح قلوبنا، واستقامة أحوالنا، وزكاء أعمالنا، وصلاح أبنائنا، وسلامة أبداننا، واستتباب أمنا، واستدامة أرزاقنا. وما أفقرنا إلى عفو ربنا ورحمته؛ لنعتق من النار، ويكتب لنا الرضوان، وسكنى الجنان.
فاعرفوا يا عباد الله لهذا الإله العظيم حقه، وأقروا بإحسانه وفضله، وافتقروا إليه، وتبرئوا من كل حول وقوة إلا بالله تعالى؛ فما استُجلبت رحماتُ الله، ولا استمطرت خيراتُه بمثل الافتقارِ إليه، والانكسارِ بين يديه، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أرحم الراحمين، رَؤُوفٌ بِعِبَادِهِ، لطيف خبير، سميعٌ بصير، يناديهم وهو غني عنهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}. ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون}.
اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب}.
معاشر المؤمنين الكرام: سعادة العبد في قوة لجوئه إلى ربه، واستغنائه به عن غيره. فكلما استغنى العبد بربه كمُل فقره إليه. وما هو الفقر الحقيقي، قال ابن القيم يجيب عن هذا السؤال: هو أن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ومولاه، ومَنْ بيده صلاحه وفلاحه وهداه، وسعادته في دنياه وأخراه.
والافتقار إلى الله، هي أقرب الطرق إلى الله: قال سهل التستري: ليس بين العبد وبين ربه طريقٌ أقربَ إليه من الافتقار.
ويقول أحد العارفين: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجهٍ حلال.
وإن في الانكسار بين يدي الرب ومناداته ودعائه لذة لا توصف.
قال بعض العارفين: إنه لتكون لي حاجة إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح عليَّ من مناجاته ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه: ما أحب أن يؤخر عني قضاءها وتدوم لي تلك الحال. ولنسمتع إلى أبيات جميلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، يعلن فيها حاجته وافتقاره إلى ربه ومولاه، يقول رحمه الله:
أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلومُ لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلبَ منفعةٍ *** ولا عن النفس لي دفعُ المضراتِ
وليس لي دونه مولىً يدبرُني *** ولا شفيعٌ إذا حاطت خطيئاتي
والفقر لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبدًا *** كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
وهذه الحالُ حالُ الخلقِ أجمعِهم *** وكلُهم عندهُ عبدٌ له آتي
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه *** فهو الجهولُ الظلومُ المشركُ العاتي
والحمدُ لله ملأ الكونِ أجمعه *** ما كان منهُ وما من بعدُ قد يأتي
والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار إلى الله, هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، يشهد لذلك قول الرسول ﷺ: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
فالافتقار إلى الله تعالى منزلةٌ في الدين عظيمة، ولها عند الله مكانة خاصة. ولها علامات ودلائل كثيرة، من أبرز علامات الافتقار إلى الله: التذلل التام لله جل في علاه مع غاية الحب: ففي الحديث الصحيح، قال ﷺ: "لا يؤْمِنُ أحَدُكم حتى يَكونَ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه ممَّا سِواهما".
ومن علامات الافتقار إلى الله: التعلق بالله تعالى وبمحبوباته: في الصحيحين أن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. "رجل قلبه معلَّق في المساجد".
ومن علامات الافتقار إلى الله: مداومة الذكر والاستغفار: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
ومن علامات الافتقار إلى الله: الوجل من عدم قبول العمل: في الحديث الصحيح، أن عائشة رضي الله عنها قالت: "سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات".
ومن علامات الافتقار إلى الله: خشية الله في السرَّ والعلن، قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وقال تعالى: وقال:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون}.
ومن علامات الافتقار إلى الله: تعظيم أوامر الله ونواهيه. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب}.
وقال جل وعلا: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
ومن علامات الافتقار إلى الله: كثرة التوبة والاهتمام بها، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وفي الحديث الصحيح: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ".
فيا أيها المسلمون: فرغوا قلوبكم لربكم، وعلقوا قلوبكم بربكم، ونادوا مولاكم يهب لكم: فإن أصابك ضر فقل يا الله، وإن نابك همٌّ فقل يا الله، ن تعسَّر عليك أمرك فقل يا الله، وإن تراكمت ديونك فقل يا الله، وإن زادت ذنوبك فقل يا الله، وإن كثرت أمراضك فقل يا الله، وإن أصابك همّ أو غمّ أو كربٌ فقل يا الله: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}. {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ}، ومن لك غير الله، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين