بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يعيش المسلمون اليوم في حالة استثنائية لم يسبق لها نظير، فكثير منهم انصهر في الفكر العالمي الذي يُشكِّله الغرب بعضلاته المنتفخة، وسطوته الإعلامية والعسكرية، فلم يأتِ يومًا سيطر فيه الكفار على المسلمين مثل هذا العصر.
وتعود سيطرته في أساسها إلى الهيمنة العسكرية والاقتصادية والتقنية والإعلامية والسياسية، ولكن ليس هذا هو السبب الأعظم في تماهي كثير من المسلمين معه، فهناك ثمة أسباب أخرى جعلت المسلمين يعيشون حالةً من الرق الفكري مع الفكر الغربي وتجلياته ومنجزاته الثقافية.
فالقابلية للاسترقاق والاستعداد النفسي هو السبب الرئيسي في هذه الظواهر السيئة، فالشعور بالحضارة المتغلِّبة يجعل الآخرين ينقادون بوعي أو بلا وعي نحو التماهي والاندماج فيها.
وهذا الرق ليس رقًّا بالإكراه مع الرفض الداخلي له، كما هو حال الرقيق الذي يُباع ويُشترى، ولكنه رقٌّ من نوعٍ آخر؛ يظُنُّ صاحبه أنَّه حرٌّ مستقل، وواقع الأمر أنَّه أسيرٌ مقيَّد، وعبدٌ منقاد لمنتجات الأعداء وهو لا يشعر.
ويتجلَّى هذا الرق الفكري في: تبنِّي الأفكار الغربية في صناعة الحياة على أساس دنيوي، وانتقلت المذاهب الفكرية كالعلمانية والنِّسوية والليبرالية من أروقة الفكر الفلسفي إلى الحياة الاجتماعية في البلاد الإسلامية، والتعامل اليومي باللغة الإنجليزية، ومحاكاتهم في اللباس والموضة والزينة، والمتابعات الدقيقة لسينما هوليوود والمغنين واللاعبين.
وهذا النوع من الرق من أعظم أشكال التحدي الذي تواجهه الأمة اليوم، ففتْنتُه وأثره دخَل في كل بيت مدر ووبر من خلال الإعلام والأجهزة الذكية بعد وصلوها إلى أيدي الأطفال دون رقيب أو حسيب.
والشباب والفتيات الذين يقضون وقتهم في العوالم الافتراضية، ويستغرقون في استخدام هواتفهم لمتابعة الأفلام والمقاطع كما لو كانوا يعيشون في مدينة الخطايا «لاس فيغاس»، يُعتبرون صيدًا ثمينًا للاسترقاق.
ومن أشكال الرق: ربط كل شيء بالتاريخ الميلادي حتى الأنشطة الدعوية، ورأيتُ بعض البادية يُؤرِّخ الأمطار بيناير وفبراير، وتقلُّبات المناخ بأغسطس وديسمبر، ولا يدري أنَّه تاريخٌ دينيٌّ لأمة مشركة، وأنَّ أسماء الشهور نسبة إلى آلهة اليونان، أو بعض الاحتفالات الدينية.
ولم يقتصر الرق للثقافة الغربية بل تجاوزه إلى الثقافة الشرقية من خلال الفرق الغنائية الكورية، والأنمي الياباني، وكأننا أمة خالية من أي معطى فكري وثقافي، ونتسوَّل على موائد عُبَّاد الشهوات والملاحدة وأرباب الفكر المنحرف، وشذوذه الأخلاقي.
وأمام هذه الفتنة التي لم تترك بيتًا إلا دخلته؛ فإنَّ من الواجب توعية الأسر المسلمة بمخاطر هذا الاسترقاق، وإقامة التحصين بالمفاهيم الإسلامية، والإنكار على التوسع في استعمال الموضة الغربية أو الشرقية، والاهتمام المبالَغ فيه باللُّغات الأجنبية، وتجنُّب مفرداتها دون حاجة، والإنكار على من يُؤرِّخ بالميلادي دون ضرورة، والعمل على توسيع الخصوصية الثقافية، وتمييزها عن الثقافة الغربية.
والعناية بالأبناء الذين سُلِّمت لهم أدوات القتل الفكري وتدمير القيم؛ وهي: الجوالات الذكية، وتركهم يتلقَّون فكرًا إلحاديًّا وأخلاقًا شاذةً، ومسخًا للعقول والنُّفوس، والأبناء أمانة يجب رعايتها.
إنَّ الانعتاق من الرق الفكري يحتاج إلى تظافر جهود كبيرة تَبني في الأمة خصوصيتها، وتكشف مخاطر الانسياق وراء الغرب، وهي جهود ينبغي أن يُشارك فيها الجميع بحسب موقعه، تبدأ من أصحاب القرار إلى أقل فردٍ في الأمة.
والأعداء الحقيقيون هم المندسون في صفوفنا، ويغذُّون هذا الاسترقاق والتبعية، فهؤلاء يسُوقُون الأمة إلى حتفِها، سواء كان ذلك بعلم أو بجهل.
ومن المؤسف أن يشارك بعض الصالحين في ترسيخ الرق الفكري وهو لا يشعر، ويتعاون في نقل الأفكار، أو اللغة، أو التاريخ، أو تشجيع الاندماج في الفكر العالمي، وقد وقفتُ على دُعاة إلى الله يشاركون في هذه الأزمة من خلال نقل الأفكار الإنسانية إلى المجتمع الإسلامي بحجة الاستفادة من كل أحد إذا لم يكن فيها محرَّم! وفيها من المنكرات أمور عظيمة لكنه لا يشعر بها، وذلك أنَّ الأفكار والبرامج غير منعزلة عن بيئتها، بل هي تتشكَّل من خلال ثقافة تلك البيئة الدينية والفكرية والأخلاقية، والعزل بينها مستحيل إلا في الأمور المادية الصرفة، أمَّا الأمور الإنسانية والاجتماعية فلا يمكن ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد