اتقوا فتنة هذا العصر


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

قال تعالى في كتابه الكريم {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (سورة الأنفال آية 25) تشير الآية الكريمة إلى أن هناك فتنة أي ابتلاء سيصيب الظالم وغير الظالم أي الصالح والطالح ولشدة هذا الابتلاء فهي تحذرنا بلغة الأمر، وانه لعقاب الهي في الدنيا نتيجة لظلم الظلمة وتهاون غير الظلمة في منع الظلم والفسق.

قال ابن عباس رضي الله عنه: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم الله بالعذاب. وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال عليه الصلاة والسلام "نعم إذا كثر الخبث" وفي صحيح الترمذي "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا علي يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده". وقال عمر: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلوا عقوبة الله كلهم.

وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فان يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وستظل هذه الآية تنذر وتحذر، وقد قال فيها الزبير بن العوام يوم الجمل وكان سنه ست وثلاثين: ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت0000(1) وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع الله عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا ختر أي غدر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو0000(2).

وسنة الله في خلقه لم تتوقف بعد وستظل قائمة إلى يوم الدين والعقاب الإلهي للبشر أفرادا وجماعات في الدنيا لم يمض بعد ولن ينتهي بل يتم في أي لحظة وفق مشيئته سبحانه وتعالى ولكن تتغير صوره بما يلائم واقع كل فترة ومقتضياتها فقد يكون بالخسف والزلازل والبراكين وانهيار العمارات السكنية أو الفيضانات والغرق أو الجفاف ونقص المياه والتصحر أو الريح والحرائق التي تقضي على اليابس والأخضر أو الصيحة أو بأمطار حجارة من سجيل منضود أو بالرجفة أو بالسنين ونقص الثمرات أو المرض وانتشار الأوبئة وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم أو ببعث عباد أولي بأس شديد أو بالتيه في الأرض. والابتلاء إن لم يكن عقوبة فهو تربية أو امتحان أو ترقية لمقام، قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (سورة الأنبياء آية 35).

وقد اختلفت العقوبات الإلهية في الدنيا لمرتكبي الممارسات الجنسية المحرمة موضوع مقالنا هذا فعاقب الله عز وجل قوم لوط جزاء فعلهم اللواط حيث خسف بهم الأرض وأمطر عليهم حجارة من سجيل، وجعل ذلك قرآنا يتلى ليكون درسا وعبرة لنا ولغيرنا، قال تعالى في سورة (الأعراف آيات 80 - 84 ){ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل انتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}.

وقال تعالى في سورة (هود آيات 77 - 83 ){ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وانك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}0000(3).

ومن صور العقاب الإلهي أيضا لتلك الفوضى الجنسية بالإضافة إلى ما سبق ذكره، انتشار الأمراض التناسلية الفتاكة وكان أسبقها انتشارا مرض الزهري في القرنين الخامس والسادس عشر واستمراره إلى منتصف القرن العشرين مع ظهور آثاره في جميع أجهزة الجسم وانتقاله إلى الأطفال الأبرياء من ذويهم واستمراره في المريض لسنوات عشر أو عشرين أو ثلاثين وموت المريض المؤكد بعد عذاب وجنون.

ثم كان انتشار مرض السيلان خلال القرنين أو القرون الثلاثة الأخيرة الذي يعذب مرضاه اقسي العذاب بإصابات المسالك البولية ويقتلهم في النهاية شر قتلة بالفشل الكلوي، وينتقل من الأم المريضة إلى أطفالها الأبرياء فيصابون بالعمى من أول يوم في حياتهم. ثم ظهرت في القرن الحالي أمراض تناسلية عجيبة مثل حمة فيروس الحلأ "هربس" وهي البثرات التي تظهر على الشفاه تصبح حمات تناسلية والمتدثرات "كلاميديا" التي كانت فقط تسبب الحثر "تراكوما" أي الرمد الحبيبي أصبحت هي أيضا تسبب الأمراض التناسلية0000(4).

وأخيرا كانت الطامة الكبرى نتيجة الإباحية الجنسية المطلقة والممارسات الشاذة التي تعيشها دول أوربا الغربية وأمريكا ومن يسير علي دربهم، فيروسا يصيب جهاز الدفاع الطبيعي في جسم الإنسان ويضعف مقاومته للأمراض والجراثيم مسببا لمرض الإيدز أو فقدان المناعة، وبالرجوع إلى السجلات الطبية القديمة وكذلك إلى عينات الدم المخزونة في أمريكا وأوربا الغربية أتضح أن مرض الإيدز جديد ولم يكن موجودا من قبل0000 (5) أي أنه صورة حديثة للعقاب الإلهي تلائم العصر الحالي كما أنه مرض بشرى فقط إذ لم يظهر عند أي من الحيوانات، أما الفيروسات التي وجدت عند بعض القرود الأفريقية كانت قريبة من فيروسHIIIV)) ولم تؤد إلى ظهور الإيدز0000(6). وهذا المرض الملقب بطاعون العصر هو أخطر مرض في القرن العشرين وقد هلك بسببه الآلاف بالإضافة إلى الملايين الحاملة للفيروس وللوقوف على شدة هذا البلاء وبيان مدى خطورته، فلنعلم أن هذا الفيروس الذي لا يستطيع العيش إلا لمدة قصيرة خارج خلايا جسم الإنسان فإنه في حالة الإصابة به فهو مميت في جميع الحالات وليس هناك في الوقت الحاضر أو المستقبل القريب أي بوادر لشفاء المريض منه وقد يكون الشخص حاملا للفيروس وينقل العدوى للآخرين دون أن يدرى هو ولا من حوله نتيجة لطول الفترة بين الإصابة وظهور الأعراض ثم الوفاة.

وإذا كان هذا المرض تنتشر العدوى به مباشرة عند كل إيلاج مهبلي أو شرجي والمرة الواحدة تكفي لالتقاط العدوى، وكثره الجماع وتبديل الأشخاص من غير وقاية تزيد من نسبه الخطر، وكذلك يصيب فئة أخرى من المنحرفين هم مدمني المخدرات عند استعمالهم للحقن والإبر الملوثة عند حقنها في الوريد، فالمشاركة في استعمال الحقن يؤدي حتما إلى التقاط الفيروس.

إلا انه ولبيان صدق آيات الله في امتداد البلاء ليشمل العامة مع الخاصة نلمس ذلك في ارتفاع نسبه المصابين في غير الممارسين لهذه الفواحش والموبقات، فالجنين في بطن أمه لم يرتكب أي إثم يستحق عليه العقاب إلا أن والده أو أمه أو كلاهما مصاب بالإيدز فينتقل الفيروس عن طريق المشيمة *أنسجة الرحم* أيام الحمل وأحيانا عند الولادة والرضاعة، ففي عام 1990م ولد حوالي 200 ألف طفل إفريقي مصاب بالفيروس في منطقه وسط إفريقيا، وخلال التسعينات من القرن الماضي قدر عدد المواليد المصابين بهذا الفيروس بحوالي مليون طفل0000(7).

أما إذا ولد طفل غير مصاب فإن إصابة الأم أو انتقال العدوى إليها عن طريق الأب المصاب فسيعرض الطفل إلى التيتم *فقد أحد أبويه*. ويصيب هذا الفيروس أيضا إنسانا لم يرتكب أي علاقة جنسية غير مشروعة ولكنها سنة الله في أن يعم عقابه العامة مع الخاصة الظلمة وغيرهم حيث تنتقل العدوى من أقصى بلاد الغرب إلى أقصى بلاد الشرق من خلال دم ملوث أو عضو مصاب ينقل إليه عبر هذه المسافة الطويلة ليكمل له شفاء من مرض ويقضي عليه بهذا المرض الجديد.

تقول مصادر منظمة الصحة العالمية انه في بعض بلدان الشرق الأوسط تم فحص 3ملايين و22648 شخصا للكشف عن المصابين بهذا المرض خلال الفترة ما بين 87-1989م فعثر على 1068 شخصا تأكد أنهم مصابون بالعدوى وذلك بمعدل 33 في الألف، مع العلم أن نسبه الإصابة في الولايات المتحدة تقدر بمعدل 2 إلى 6 في الألف، ويرى مدير المكتب الإقليمي للمنظمة في شرق البحر المتوسط أن السبب الرئيسي لانتشار العدوى في المنطقة يرجع إلى استيراد كميات من الدماء الملوثة في أوائل ومنتصف الثمانينات قبل تطور الوسائل الفعالة في فحص بنوك الدم والمتبرعين لها0000(8).

وهكذا تمضي سنه الله وتصدق آياته فعقابه يعم العامة والخاصة كلما شاعت الفاحشة وظهر المنكر وكما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل".

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1) الجامع لأحكام القرآن لأبى عبدالله محمد بن احمد الأنصاري القرطبي ج3ص391-392

(2) مختصر الترغيب والترهيب ابن حجر العسقلاني ص154

(3) فقه السنة السيد سابق ج2 ص427-428

(4) مجلة التوحيد العدد 1السنه 19 محرم 1411ه

(5) جريده الأهرام الصادرة بتاريخ 10/6/1990 مقال للدكتور علي محمود حب الله بعنوان (الايدز0 مرض جديد)

(6) جريده الحياة اللندنية العدد 9990 الصادرة بتاريخ 17/5/1990

(7) جريده الأهرام الصادرة بتاريخ 3/7/1990

(8) مجلة المجلة العدد 541 الصادرة بتاريخ 26/6/1990 الموافق 4/12/1410 ه ص11

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply