من أخلاقيات الصحفي المسلم

172
14 دقيقة
8 ذو القعدة 1446 (06-05-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الصحفي كأي مسلم فرض عليه أن يلتزم بالخلق الإسلامي قولا وفعلا كما أن متطلبات مهنته من وجهة نظر الإسلام تفرض عليه أن يكون أشد التزاما وأكثر تمسكا بالخلق الإسلامي وأقل تهاونا وتفريطا فيه من غيره. والمسلمون جميعا قدوتهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد كان خلقه القرآن كما قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد مدحه الله سبحانه وتعالى في قوله {وانك لعلى خلق عظيم} (سورة القلم آية 4) ومن أهداف بعثته ما قال عليه الصلاة والسلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وفي ربطه الأخلاق بالإيمان قال: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا" (1).

والصحافة كمنبر من منابر الدعوة الإسلامية وكمرآة للمجتمع تنقل عيوبه ومميزاته، يجب على أبنائها أن يتحلوا بأخلاق الدعاة المخلصين وعلماء الدين الصالحين وبأخلاق المطلع على أحوال الناس وعوراتهم المؤتمن عليها صاحب الدواء لكل داء وما يتصف به من تقوى وصدق، فإذا كان المريض يسلم جسده للطبيب وهو مطمئن وآمن ليكشف عليه ويشخص حالته ثم يبدأ مرحلة العلاج فإن المجتمع يسلم كيانه كله بكل ما يشمل للصحفي وهو مطمئن آمن، يطلع على ما به ويشخص أزماته ويشير إلى مواقع الخطر وبؤر الفساد فيه ثم يبدأ مرحلة العلاج بواسطة متخصصين وخبراء. وقلمه ترمومتر الأمة ومقياس لنبضها، تتغير قراءته تبعا لمشاكلها وأزماتها ولكنه لا يكذب فهو خير دليل على صحة الأمة أو مرضها.

لذلك فالصحفي هنا لابد أن يكون أمينا صادقا في كل كلمة أو خبر ينقله لا يزيد ولا ينقص منه بما يغير معناه أو مضمونه والغرض منه، ولا يتخير كلمات يصوغ بها موضوعه تكون أخف وطأة من التي تستحق أن تطلق على الواقع، بما يهون المشاكل والأزمات على أصحابها فتتفشى وتتفاقم آثارها، فتصيبهم السلبية واللامبالاة والتقاعس عن حلها.

ولا يشتد في وطأتها بما يثير النفوس ويشعل روح التمرد والعصيان فيها فتخرج الجماهير معبرة عن ذلك بطريقة تهورية تصيب الحياة بالشلل وتسبب عجزا لأهل الحل والقيادة في اختيار القرار المناسب.

وقد أمرنا الإسلام بتحري الصدق والبعد عن الكذب قال عليه الصلاة والسلام:

"تحروا الصدق وإن رأيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة وتجنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فان فيه الهلكة"(2) وقال: "كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب" (3).

وروى صفوان بن سليم قوله: قيل للنبي علية الصلاة والسلام: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: "نعم" قيل: أفيكون بخيلا؟ قال: "نعم" قيل: أفيكون كذابا؟ قال: "لا" (4).

أي نفى صفه الإيمان عن الكاذب قال تعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} (سورة النحل آية 105) ويرخص بالكذب في الحالات الآتية روى عن أم كلثوم قالت ما سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: "الرجل يقول القول يريد به الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها" أخرجه مسلم (5).

والصحفي المسلم يتريث عند سماع أية واقعة أو حدث ويتأكد من صدقها ومصدرها قبل إعلانها على الناس حتى لا يساهم في نشر الإشاعات وما تلحقه بالمجتمع وأفراده من أضرار، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى منها في (سورة النساء آية 83) {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} وهذه الآية تتحدث عن كل من يتناول الشائعات فيذيع بها وتتناقلها الألسنة من بعده من شخص لآخر ومن مكان لآخر، فمن الناس من يساهم في ترويج ونشر الإشاعة بدون وعي أو قصد منه، وبذلك يكون عاملا إيجابيا لمن يهدف إلى ذلك وله نية مبيتة لإحداث بلبلة ونشر الذعر والاضطراب داخل أي كيان، فأية كلمة عابرة أو فلتة لسان قد تجر من العواقب على الشخص ذاته وعلى أفراد جماعته ما لا يخطر له ببال وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف، فكل منهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة من قبل التثبيت منها، والقرآن الكريم يدلنا على الطريق الصحيح في مواجهه مثل هذه الشائعات قال تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} أي لو إنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إن كان معهم أو إلى ولاة أمورهم في أي مكان لعلموا حقيقتها لأنهم هم القادرون على استنباط الحقيقة واستخراجها من ثنايا الأنباء كما أنهم يملكون تقدير المصلحة في إذاعة الخبر أو عدم إذاعته حتى بعد ثبوته (6).

وقال تعالى في (سورة الحجرات آية 6 ) {يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ومدلول الآية عام وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبيت من خبر الفاسق فلا نتعجل في أي تصرف بناء على خبر فاسق فنصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع فنندم على ما ارتكبناه مما يغضب الله، وأما الصالح فيؤخذ بخبره لأن هذا هو الأصل وخبر الفاسق استثناء والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبيت لأنه أحد مصادره، أما الشك المطلق في جميع المصادر وجميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروضة بين أبناء المجتمع ومعطل لسير الحياة، والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها (7).

والصحافة بقدرتها على إعادة تشكيل أخلاقيات وسلوكيات بل ومعتقدات الناس يجب على أبنائها ألا يعملوا على نشر الأفكار الهدامة والمعادية للدين أو إشاعة الفاحشة، فعلى الصحفي أن يعلم أنه يعيش ويعمل في مجتمع إسلامي له قيمه ومبادئه التي يستمدها من الإسلام والتي من ضمنها سد أي باب يؤدى إلى مفسدة أو فاحشة، وبالتالي يحرم نشر الصور العارية أو المثيرة وكتابة القصص الجنسية والغرامية والتي من شأنها إشعال الشهوات والنزوات لدى الشباب مما يؤدى بهم إلى الوقوع في المعصية.

والصحفي المسلم وقته ثمين يمضيه في البحث عن مشاكل الناس ومتاعبهم وهكذا الصحافة فلا يشغل الناس بما لا يعنيهم قال عليه الصلاة والسلام: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" (8) ولا يهدر صحيفته بالخوض في الباطل والحديث باستحسان عن اللهو والبدع والكلام في المعاصي كالإعلان عن الملاهي الليلية وما يحدث فيها من موبقات بطريقة تشجع على ارتيادها والحياة الماجنة لأهل الفن وتصويرها كبطولات ليقتدي بها شبابنا، كل هذا لا يحل الخوض فيه وهو حرام ولا مخلص منه إلا بالاقتصاد على ما يعني من مهمات الدين والدنيا قال عليه الصلاة والسلام: "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل".

وعندما يتساءل أهل اليمين عن المجرمين وسبب تواجدهم في سقر يكون ردهم كما قال تعالى في (سورة المدثر آية 45 ) {وكنا نخوض مع الخائضين} أي كنا نخالط أهل الباطل وأهل المعاصي والبدع والكبائر في باطلهم ولم نكن ننكر عليهم ذلك، والرضا بالمعصية أو الكفر معصية وكفر، قال عز وجل: {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} (سورة النساء آية 140) (9).

كما يراعي عدم ذكر قصص الخيانة الزوجية والمشاكل الأسرية بصوره توحي بأنها أصبحت ظاهرة عامة تتكرر باستمرار مما يفقد أفراد الأسرة و أبناء المجتمع ثقتهم بعضهم ببعض، وهؤلاء الذين يعملون على زعزعة ثقة الناس بالخير والعفة وعلى إزاحة التحرج من ارتكاب الفاحشة وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة في المجتمع (10). بتعويد الأفراد على قراءتها أو مشاهدتها في الجرائد والمجلات أو غيرهما من وسائل الإعلام فتألفها نفوسهم، وبذلك تشيع الفاحشة في النفوس، ومن ثم يضعف إنكارهم لها عند رؤيتها في الواقع، لتشيع بعد ذلك في الواقع ذاته، وبذلك تنتقل النفوس من كره المنكر ورفضه إلى الرضا به وقبوله، إلى أن ينتهي الأمر بإقراره بل واستحسانه.

هؤلاء قال الله تعالى فيهم: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون} (سورة النور آية 19) كما أن الفحش من الأمور المذمومة والمنهي عنها قال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والفحش فان الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش" فهذه مذمة الفحش أما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات والصور الصريحة وأكثر ذلك يجرى في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به (11).

والصحافة بما لها من قوه تأثير على الرأي العام، عليها أن تهدف إلى جمع ولم شمل الأمة الإسلامية، وبث روح الألفة بين الدول الإسلامية بعضها البعض وفي داخل كل دولة على حدة بين فئاتها وطبقاتها وأحزابها السياسية في الدول التي تعتمد في سياستها الداخلية على التعدد الحزبي، والبعد عما يثير البغضاء والكراهية لأن هذه الروح هي ذخيرتنا أمام المشاكل والأزمات، فكلنا أبناء هذه الأمة نعمل لصالحها ونتكاتف من أجلها ومن أجل رفعة شأنها وعلو مكانتها، ولا مجال لتفريق الصف وتشتيت الكلمة وتقسيم الوحدة، ولا مكان للصحافة ذات اللون الأصفر أو غيره من الألوان، أو ذات الأهداف المشبوهة والتي لا تجد لها مكانا إلا بالخوض في أعراض الناس والتشكيك في ذمتهم، فأبناء الصحف الحكومية الذين يتناولون زعماء حكومات ودول أخري، وأبناء الصحف الحزبية الذين يتناولون أبناء ورؤساء الأحزاب الأخرى، يتناولون ذكر نقائصهم وعيوبهم وأخذها مادة للتسلية وإرادة السوء للمحكي عنه وإظهار الحب للمحكي له وكشف وذكر ما يكره كشفه وذكره (12).

هؤلاء وهؤلاء قد وقعوا في محظور الغيبة والنميمة التي حذرنا منها الإسلام، روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "هل تدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقوله؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته".

قيل في منثور الحكم: لا تبد من العيوب ما ستره علام الغيوب. وقد نص الله سبحانه وتعالى على ذم الغيبة في كتابه الكريم وشبه صاحبها بأكل لحم الميتة، قال تعالى {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} (سورة الحجرات آية 12). يعني أنه كما لا يحل لحمه ميتا، لا تحل غيبته حيا، ويستثنى من ذلك ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ثلاثة ليست غيبتهم بغيبة الإمام الجائر وشارب الخمر والمعلن بفسقه"، ولا يكون الإنكار على هؤلاء غيبه لأنه نهي عن منكر، وفرق بين إنكار المجاهر وغيبة المساتر(13).

قال عليه الصلاة والسلام: "من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له" وقال عمر رضي الله عنه: ليس لفاجر حرمة. أراد به المجاهر بفسقه دون المستتر (14). وقد روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ألا أخبركم بشراركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام "شراركم المشأوون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون العيوب" (15).

قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة نمام" وقال أبو ذر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة"، ويقال إن ثلث عذاب القبر من النميمة، وينبغي على الإنسان أن يسكت على كل ما رآه من أحوال الناس مما يكره، إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية (16) ومن أخلاقيات الصحفي المسلم أيضا البعد عن السخرية والاستهزاء قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} (سورة الحجرات آية 11) ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل أو القول وقد يكون بالإشارة أو الإيماء (17).

ومن الواضح والمعروف أن رجال الصحافة هم أكثر فئات المجتمع تقربا لرجال السلطة وأصحاب النفوذ، وقد يتقرب بعضهم أكثر ليصل إلى أعلى مستويات القيادة والرياسة وصناع القرار، لذا فيتحرز الصحفي المسلم من الوقوع في السعاية سواء على صفحات الجرائد والمجلات أو في حياته اليومية، فقد روى ابن قتيبه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الجنة لا يدخلها ديوث ولا قلاع"، والديوث هو الذي يجمع بين الرجال والنساء سمي بذلك لأنه يدث بينهم، والقلاع هو الساعي الذي يقع في الناس عند الأمراء، سمي بذلك لأنه يأتي الرجل المتمكن عند الأمير فلا يزال يقع فيه حتى يقلعه.

وقبول السعاية شر منها لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، فاتقوا الساعي فإن كان في سعايته صادقا كان في صدقه آثما إذ لم يحفظ الحرمة ويستر العورة (18). والصحفي المسلم لا يتخذ من استقراء الناس لجريدته وسيله للنفاق، فالنفاق والتزلف للحكام وأصحاب روؤس الأموال ورجال السياسية والسلطات العامة، هو أفيون الصحفيين الغير شرفاء ومناخهم الفاسد الذي يعيشون فيه يتنفسون هوائه الملوث ويرتوون ماءه العفن، وبه يسترزقون ولولاه ما علت مناصبهم ولا كبرت مراكزهم، والنفاق هو عربون استمرار الصحفي الغير شريف في العمل يغض طرفه عن عبثهم بمقدرات هذه الأمة، وهم يغضون بصرهم عن عدم كفاءته لهذا الموقع أو غيره، قيل لابن عمر رضي الله عنه: أنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره. فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

كما أن المدح وهو ظاهرة منتشرة بكثرة في صحافتنا منهي عنه في بعض المواضع، فالمادح قد يفرط فينتهي به إلى الكذب أو أنه قد يدخله الرياء فانه بالمدح يظهر الحب وقد لا يكون مضمرا له ولا معتقدا لجميع ما يقوله فيصير به مرائيا منافقا، وقد يقول ما لا يمكنه أن يتحقق منه أو يطلع عليه كأنه يقول فلان متق وورع وزاهد. قال عليه الصلاة والسلام: "إن كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب فلانا ولا أذكي على الله أحدا حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك".

وقد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق".

وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح، كما أن المدح يضر الممدوح، فهو يحدث فيه كبرا وإعجابا وهما مهلكان، كما انه إذا أثني عليه بالخير فرح به ورضي عن نفسه، فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوبا إليه، قال عليه الصلاة والسلام: "أحثوا التراب في وجه المادحين"(19).

والصحافة بما لها من باع طويلة في كشف كثير من الحقائق والجرائم وإعلان المذنب من البريء، وإن كان لها أن تشير إلى متهم أو تعلن عنه، فليس لها أن تحاكمه أو تقاضيه، ولذا فعليها ألا تقذف بريئا وألا تتهم مظلوما حتى تثبت إدانته، فالقذف بمعناه العام كبيرة من الكبائر فسق الله فاعلها وأسقط عدالته وأوجب عليه الحد، بقوله تعالى في (سورة النور الآيات 4-5 ): {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}(20).

كما أن معاملة الناس وأخذهم بسوء الظن حرام، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (سورة الحجرات آية12) وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فان القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقق فينشغل بالتجسس وهو أيضا منهي عنه، قال تعالى: {ولا تجسسوا} (سورة الحجرات آية 12) والغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنهم في آية واحدة.

كما على الصحفيين إلا يجعلون جرائدهم ومجلاتهم منتدى أدبيا، يتبارون ويتجادلون فيه بأساليبهم الرفيعة وفصاحتهم اللغوية وبراعتهم البلاغية، ولا يجعلونها حلبة يتراشقون فيها بالألفاظ والكلمات، ولا ساحة للمناقشات البيزنطية والسفسطة، ولا يكثرون في الإطناب واللغو، ولا يخاطبون العامة بلغة المتخصصين ولا يتحدثون إلى المتخصصين بلغة العامة، ولا يستخدمون بيانات وإحصائيات لوغاريتمية يصعب تفسيرها وتحليلها وبعيدة عن منطق العامة وفهمهم، فمن المأمور به مخاطبة العامة على قدر عقولهم، ومن المنهي عنه المراء والجدال.

قال عليه الصلاة والسلام: "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه" وقال عليه الصلاة والسلام: "ما ضل قوم بعد أن هداهم الله إلا أوتوا الجدل".

وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث لا تتعلمه لتمارى به ولا لتباهي به ولا لترائي به، ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ولا رضاء بالجهل منه.

وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعني وإما في قصد المتكلم، وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه، ولا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهيج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل ويقدح في قائله بكل ما يتصور فيثور الشجار بين المتمارين (21).

كما حذرنا الرسول عليه الصلاة والسلام من التكلف الممقوت بقوله: "أنا وأتقياء أمتي براء من التكلف" فينبغي على الكاتب الصحفي أن يقتصر في الكلام على مقصده، ومقصود الكلام التفهيم للغرض، وما وراء ذلك تصنع مذموم ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الكتابة (22).

وعلى كل صحفي أن يكتب ويقول كلمته وأن يساند الحق ويقف للباطل لوجه الله، لا يبتغي أية مصلحة دنيوية أو أطماع شخصية غير وجه الله ومصلحة الدين والدنيا، لأن الرياء حرام، والمرائي ممقوت عند الله، قال تعالى في (سورة الماعون الآيات 4-6 ): {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}، والرياء هو طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس بايرائهم خصال الخير، وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات، ولكنه بحكم العادة فان اسم الرياء مخصوص بطلب المنزلة في القلوب، بالعبادة وإظهارها، فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله.

قال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس. قال: لا شيء لك. فسأله ثلاث مرات، في كل مرة يقول: لا شيء لك. ثم قال في الثالثة: إن الله يقول: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك".

وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتابه كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع، كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ، فأخبر عليه الصلاة والسلام إنهم لم يثابوا وإن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء".

يقول المولى عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء) وكل عمل لم يكن لله خالصا فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي (23) هذه بعض من الأخلاقيات التي يجب على الصحفي المسلم وكل صحفي أن يتحلى بها ويجعلها ميثاقا ودستور عمل له في حياته الوظيفية وفي سائر علاقاته بمن حوله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1) منهاج المسلم أبو بكر جابر الجزائري الطبعة الثانية القاهرة دار الكتب السلفية ص141

(2) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي البصري الماوردى، بيروت لبنان دار مكتبه الحياة ص263

(3) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص127

(4) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي البصري الماوردى، بيروت لبنان دار مكتبه الحياة ص261

(5) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص130

(6) في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت دار الشروق، الجزء الثاني ص723و724

(7) في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت دار الشروق، الجزء السادس ص3341

(8) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص107

(9) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص110

(10) في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت دار الشروق، الجزء الرابع ص2503 بتصرف

(11) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص115و116

(12) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص135و136

(13) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي البصري الماوردى، بيروت لبنان دار مكتبه الحياة ص266و267

(14) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص145

(15) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي البصري الماوردى، بيروت لبنان دار مكتبه الحياة ص267

(16) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص146و147

(17) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص124

(18) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي البصري الماوردى، بيروت لبنان دار مكتبه الحياة ص268

(19) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث من ص151 إلى 153

(20) منهاج المسلم أبو بكر جابر الجزائري الطبعة الثانية القاهرة دار الكتب السلفية ص494

(21) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص111و112

(22) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث ص114و115

(23) إحياء علوم الدين، الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، الطبعة الأولى بيروت لبنان دار القلم، الجزء الثالث من ص 274إلى 278


مقالات ذات صلة


أضف تعليق