بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من الرياض دعس صاحبي الوقودَ صباحًا إلى المطار حذرَ الفَوت، وصلنا المطارَ لا دلالات واضحة للقاعات الداخلية والخارجية ؛ فأخذتنا ضيعةٌ حتى بلغنا المراد.
أشعرني الجوالُ برسالة، نظرتُ فإذا هو الخبر بتأخر موعد الرحلة، تسنَّت بذلك لي الفرصة أن أشرب قهوةً، ثم جاءنا إفطار يُنادى عليه باعتذار باسم شركة الطيران التي أخَّرت موعدَها. أكلتُ الإفطارَ، وقضيتُ في قراءة أدبيةٍ الانتظارَ، حتى نُودي أن اصعدوا، فصعدنا ؛ فنادى أصحابُ الطائرة: خلل فني يوجب علينا التأخير قليلا، وكان قليلُهم نصف ساعة ولله الحمد.
هبطتُ إلى القصيم بسلامٍ في أول رحلة جوّية إليها، في طائرة كأنها تسير فوق رمال عالِج، ولو كان مِلْؤها شرابًا غازيًّا لطاش في السماوات.
مضيتُ مرتجِلًا كعادتي في الأسفار، قصدتُ مكاتبَ تأجير السيارات ؛ فقيل لي: نحتاج إلى الفيزا كارد لتأمين المخالفات حتى تؤجّر، وما كان لي من فيزا، فسألتُهم حلولا فما أرشدوا، فانطلقتُ إذن بسيارة أجرةٍ إلى أحياء بريدة في حرِّ الهجير، وكانت كقريةٍ هجَرَها ناسُها. هذا هو الموقع أرسله إليَّ صاحبي، وقفتُ عند مسجد حيِّهم المجاور حين أذان العصر ولا مؤذِّن، المسجدُ مقفلٌ، أسمعُ الأذانَ النجديَّ الذي أطربُ له مِن هنا وهناك. لعل المسجدَ مهجور!، مشيتُ لذاك المسجد الذي يَبعد عنه خطوات! ؛ فإذا بي أسمع المسجدَ الذي حسبته مهجورا ينادي ؛ فعدت إليه.
بعد السلام والأذكار انفتلتُ عن يميني فإذا بصاحبي الذي أراه أولَّ مرةٍ، ظننته هو ؛ فعرفني إذ رآني مِن قبلُ فسلّم وحيّاني ثم قال: جئت على موعدك.
- نعم أنا دقيق في المواعيد عادة.
أخذني إلى مكتبته العامرة ذات الكتب المتنوعة والنادرة، هذه لأبي، هذه لجدي، وهذه التوسعة.
شربنا قهوتَه في حديثٍ لطيفٍ ثم قال: لعلك تاخذ في المكتبة نظرة ؛ فقلت له: كنت أرتقب هذه الفقرة، فجوّلني فيها وأطلعني على بعض محاسنها التي يُغبط عليها، ثم عدنا إلى مجلسنا وحديثنا وأخبرته بموعدي بعد المغرب في عنيزة ؛ فأخذ بي إليها وأخبرني: لا أعرف من طرقاتها إلا القليل.
وصلنا إلى مسجد صاحبنا الآخر في عنيزة على موعدنا مع أذان المغرب، صلينا فأمتعنا بحسن تلاوته، ثم تلقّفني مُرحِّبًا بي في أول لقاء يجمعنا، ثم قال: إذن معك فلانٌ؟ خطر في بالي أنه هو لما أخبرتني أن معك صاحبا من بريدة! فسلّما ورحَّبا ببعضهما. مشينا إلى منزله جوارَ المسجد، دخلنا معه، قال له البريدي: أنغلق الباب أم أن عنيزة أمان؟ ؛ فقلتُ محرِّشًا: الخوف في بريدة. ضيَّفنا صاحبنا فأحسنَ ضيافتنا أيّما إحسان، واستغرقنا في حديث مؤنس حتى سمعنا نداء العشاء. فأخبر صاحب بريدة بارتباطه واستأذن، فقلت له: كتابي، كتابي أهم شي ؛ وكنت تركته في سيارته، فضحك وقمنا، أخذت الكتابَ، ودعناه ثم مضينا إلى الصلاة وكان قد بلغني إشعارٌ بتأخرِ الرحلة ساعة، وزِيد عليها نصف ساعة بعد وصولي المطار إذ أخذني إليه صاحب عنيزة اللطيف بعد أن عرّفني على ابنه الودود وأهداني خيرَ ما يُهدى: كُتُبًا.
ها أنا في الطائرة بعد التأخُّرَين، أَنْحُتُ اقتضابَ هذه الرحلة جالسًا بين رجلين عن اليمين وعن الشمال، كأن الذي عن يميني يخاف من الطيران، وأمامنا امرأةٌ اجتمعوا عليها تهذي وتختنق من خوفها يحاولون تهدئتها وتعينها غيرها بالأكسجين، ها هي الطائرة ترجف بلا استقرار .
كانت هذه الرحلة النجدية في زيارة اثنين ما عرفتهما إلا في وسائل التواصل، ونعم الرجلان كانا، معرفتهما غبطة، ومجلسهما لا يمل حديثه. وقد طَوَيت من التفصيل ما طويتُ، مقتضى الحال. وها أنا أسمع نداء الهبوط. كان يومًا قصيميا بين صباحٍ ومساء، وإلى لقاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين