بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد كان نبيُّنا ﷺ إذا خَطبَ يقولُ: "فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرُ الهُدَى هُدَى مُحمدٍ، وشرُّ الأُمُورِ مُحدَثاتُها، وكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ" رواه مسلم.
فاتقوا الله عبادَ اللهِ واحذرُوا الأهواءَ والبدعَ والذنوب فإنها تُورِدُ الْمَهَالِكَ والْمَذَامَّ، واغتنموا بقيَّةَ شهرِ شعبان، فقد قارَبَ على ذَهَابِ ثُلُثِهِ الأوَّل، وقد كان رسولُكم ﷺ يُكثرُ مِن صومهِ، فعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: "لَم يَكُنِ النبيُّ ﷺ يَصُومُ شهْرًا أكثرَ من شعبانَ، فإنهُ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ" رواه البخاري.
عبادَ اللهِ: عن أبي نَجيحٍ (العِرْباض بن سَارِيَةَ قالَ: وعَظَنَا رسولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا بعدَ صلاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنها العُيُونُ، ووَجِلَتْ مِنها القُلُوبُ، فقالَ رَجُلٌ: إنَّ هذهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فماذا تَعْهَدُ إلينا يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: "أُوصِيكُمْ بتَقْوَى اللهِ، والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، وإنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فإنهُ مَن يَعِشْ مِنكُم يَرَى اخْتِلافًا كثيرًا، وإيَّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمُورِ، فإنها ضَلالَةٌ، فمَنْ أَدْرَكَ ذلكَ مِنكُم فعَلَيْهِ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الراشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ") رواه الترمذيُّ وقال: (حَسَنٌ صحيحٌ).
فقولُه صلى الله عليه وسلم: "وإيَّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمُورِ فإنها ضَلالَةٌ" مِن جوامع الكَلِمِ لا يَخْرُجُ عنه شيءٌ، وهو أصلٌ عظيمٌ مِن أُصولِ الدِّينِ، ألا وإنَّ مِن الْمُحْدَثات: تخصيصُ ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ بالقيامِ أو الاحتفالِ أو الدُّعاءِ فيها بأدعيةٍ مخصوصةٍ، واعتقادِ أن الدُّعاءَ فيها مُستجابٌ، أو تخصيصُ نهارِها بالصيام، وقد رُويت أحاديثٌ في فضلها، فعَنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ (عنِ النبيِّ ﷺ قالَ: "يَطَّلِعُ اللهُ إلى خَلْقِهِ في ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ فَيَغْفِرُ لِجميعِ خَلْقِهِ إلاَّ لِمُشْرِكٍ أوْ مُشَاحِنٍ") رواه ابنُ حبان وقال الدار قطني: (الحديث غير ثابتٍ)، وقال أبو حاتِمٍ: (حديثٌ مُنكرٌ بهذا الإسنادِ).
و(عن أبي بكرٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "إذا كانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِن شعبانَ يَنْزِلُ اللهُ تبارَكَ وتعالى إلى سَمَاءِ الدُّنيا فَيَغْفِرُ لعِبَادِهِ إلاَّ ما كانَ مِن مُشْرِكٍ أوْ مُشَاحِنٍ لأَخِيهِ") رواه البزَّارُ وقال ابنُ الجوزي: (حديثٌ لا يَثبُتُ ولا يَصحُّ).
و(عن عوْفٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "يَطَّلِعُ اللهُ تباركَ وتعالى على خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّهِمْ إلاَّ لِمُشْرِكٍ أوْ مُشَاحِنٍ") رواه البزَّارُ وقال ابنُ حبَّان عن راويه الأفريقي: (يروي الموضوعات عن الثقات).
و(عن أبي مُوسَى الأشعرِيِّ عن رسولِ اللهِ ﷺ قالَ: "إنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ في ليْلَةِ النِّصْفِ مِن شعبانَ، فَيَغْفِرُ لِجَميعِ خَلْقِهِ إلاَّ لِمُشْرِكٍ أوْ مُشَاحِنٍ") رواه ابنُ ماجه وقال ابنُ الجوزي: (حديثٌ لا يَصحُّ)،
و(عن عبدالله بنِ عَمْرٍو أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "يَطَّلِعُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِن شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاَّ لاثنَيْنِ: مُشَاحِنٍ وقاتِلِ نَفْسٍ") رواه الإمام أحمد وقال عن راويه المعافري: (أحاديثهُ مناكير).
و(عن أبي أُمامةَ الباهِليُّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "يَهْبطُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا إلى عِبَادِهِ في لَيْلَةِ النِّصْفِ مِن شعبانَ فَيَطَّلِعُ إليْهِمْ، فَيَغْفِرُ لكُلِّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ، وكُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ، إِلاَّ كافِرًا أوْ كافِرَةً، أوْ مُشْرِكًا أوْ مُشْرِكَةً، أوْ رَجُلًا بيْنَهُ وبينَ أَخِيهِ مُشَاحَنَةٌ، ويَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ لِحِقْدِهِمْ") رواه الخلاَّل وقال الإمام أحمد عن راويه سيف الثوري: (كذاب).
و(عن أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَغْفِرُ اللهُ لِعِبَادِهِ إلاَّ لِمُشْرِكٍ أوْ مُشَاحِنٍ") رواه ابنُ سَمْعُون وقال ابنُ الجوزي: (لا يَصحُّ وبه مَجاهيل).
و(عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ عنِ النبيِّ ﷺ قالَ: "إذا كانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِن شعبانَ اطَّلَعَ اللهُ إلى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ للمُؤمنينَ ويُمْلِي للكافرِينَ، ويَدَعُ أهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حتَّى يَدْعُوَهُ") رواه البيهقيُّ وقال الدار قطنيُّ: (الحديثُ مُضطربٌ غيرُ ثابتٍ).
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنْزِلُ ليلَةَ النِّصْفِ مِن شعبانَ إلى السماءِ الدُّنيا، فيَغْفِرُ لأَكْثَرَ مِن عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ" رواه الترمذي وضعَّفه الإمامُ البخاري.
وعنها رضي الله عنها قالت: (قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "إنَّ اللهَ يَنْزِلُ في النِّصْفِ مِن شعبانَ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا، فَيُعْتِقُ مِن النَّارِ عَدَدَ مِعْزَى كَلْبٍ، أوْ قالَ: شَعْرِ مِعْزَى كَلْبٍ، ويُنْزِلُ أَرْزَاقَ السَّنَةِ، ويَكْتُبُ للْحَاجِّ، ولا يَتْرُكُ أَحَدًا إلاَّ غَفَرَ لَهُ، إلاَّ قَاطِعَ رَحِمٍ أوْ مُشْرِكًا أوْ مُشَاحِنًا") رواه الإسماعيلي وقال الدار قطني عن راويه العرزمي: (متروك)، فَعُلِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الأحاديثَ المروية في فضلِ ليلةِ النصفِ مِن شعبان حَكَمَ عليها الكثيرُ مِن النُّقَّادِ بالضعفِ، قال الحافظُ أبو الخطَّابِ بن دحية: (قالَ أهلُ التعديلِ والتجريحِ: ليسَ في حديثِ ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ حديثٌ يَصحُّ) انتهى، وقال ابنُ بازٍ: (وقد وَرَدَ في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها) انتهى.
وأيضًا: فقولُه صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقهِ إلاَّ لِمُشركٍ أو مُشاحن"، ليس فيه دليلٌ على تخصيصِ ليلة النصف من شعبان بفضلٍ من دُون الليالي الأُخرى.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَنزِلُ ربُّنَا تَبَاركَ وتعالى كُلَّ ليلَةٍ إلى السماءِ الدُّنيا حينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَن يَدْعُوني فأَسْتَجيبَ لَهُ، مَن يَسْأَلُني فأُعْطِيَهُ، مَن يَستغفرُني فأَغْفِرَ لَهُ" رواه البخاري ومسلم، فاطِّلاعُه سبحانه وتعالى على خلقه وغُفرانه لهم، ليسَ متوقفٌ على ليلةٍ مُعيَّنةٍ في السَّنةِ أو لياليَ معدودة، واللهُ أعلم.
أما بعد: ومن الْمُحْدَثاتِ المتعلِّقةِ بليلة النصف من شعبان: تخصيصها بقيامٍ مِن بين سائر الليالي، وقد وَرَدَ في فضلِها أحاديث حَكَمَ عليها الْحُفَّاظُ بأنها موضوعةٌ.
فعن (عليِّ بنِ أبي طالبٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "إذا كانتْ ليلةُ النِّصْفِ مِن شعبانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وصُومُوا نَهَارَها، فإنَّ اللهَ يَنْزِلُ فيها لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إلى سَمَاءِ الدُّنيا فيَقُولُ: أَلا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلا مُسْتَرْزِقٌ فأَرْزُقَهُ، أَلا مُبْتَلًى فأُعَافِيَهُ، أَلا كَذا أَلا كَذا، حتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ") رواه ابنُ ماجه، وقال الإمامُ أحمدُ عن راويهِ ابن أبي سَبْرَةَ: (كان يَضَعُ الحديثَ ويَكْذب) انتهى.
وعن (عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه: رأَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِن شعبانَ قامَ فَصَلَّى أَرْبَعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثمَّ جَلَسَ بعدَ الفَرَاغِ فَقَرَأَ بأُمِّ القُرآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مرَّةً، و{قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أَرْبَعَ عَشْرَةَ مرَّةً، و{قُلْ أَعُوذُ برَبِّ الْفَلَقِ} أَرْبَعَ عَشْرَةَ مرَّةً، و{قُلْ أَعُوذُ برَبِّ النَّاسِ} أَرْبَعَ عَشْرَةَ مرَّةً، وآيةِ الكُرْسِيِّ مرَّةً، و {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} الآيَةَ، فلَمَّا فَرَغَ مِن صلاتِهِ سَأَلْتُ عَمَّا رأَيْتُ مِنْ صَنِيعِهِ فقالَ: "مَنْ صَنَعَ مِثْلَ الذي رأَيْتَ كانَ لهُ كَعِشْرِينَ حَجَّةً مَبْرُورَةً، وكَصِيَامِ عِشْرِينَ سَنَةً مَقْبُولَةً، فإنْ أَصْبَحَ في ذلكَ اليَوْمِ صَائِمًَا كانَ كَصِيَامِ سَنَتَينِ، سَنَةٍ ماضِيَةٍ وسَنَةٍ مُسْتَقَبَلَةٍ") رواه البيهقيُّ وقالَ: (هذا موضوعٌ)، وقال الأسديُّ عن راويه ابن المهاجر: (هو أكذبُ خَلْقِ اللهِ) انتهى.
ولم يثبت عن رسول الله ﷺ دُعاءٌ مُعيَّنٌ يُقالُ في ليلةِ النصفِ مِن شعبان، وكذا لم يَثبُت عنه ﷺ قراءة سورة يس ثلاث مرات في ليلة النصف من شعبان.
وقالَ عبدالرحمن بنُ زيدِ بنِ أَسْلَمَ: (لم أُدْرِكْ أَحَدًا مِن مَشْيَخَتِنا ولا فُقَهَائِنا يَلْتَفِتُونَ إلى ليلةِ النِّصْفِ مِن شعبانَ) رواه ابنُ وضَّاحٍ بإسنادٍ صحيح، وقال الإمامُ ابن القيم في ذكرِه لأنواعٍ من الأحاديث الموضوعة: (ومنها أحاديث صلاة النصف من شعبان) انتهى، وقال النووي عن صلاة النصف من شعبان مائة ركعة: (بدعةٌ ومُنكرٌ قبيحٌ)، وقال ابنُ بازٍ: (ما وَرَدَ في فضل الصلاة فيها فكُلُّه موضوعٌ) انتهى.
وأيضًا: فرسولُ الله ﷺ يقولُ عن خيرِ يومٍ طَلَعَتْ عليهِ الشمس: "لا تَختَصُّوا ليلَةَ الجُمُعةِ بقيامٍ من بينِ اللَّيَالي، ولا تَخُصُّوا يومَ الجُمُعَةِ بصيامٍ مِن بينِ الأيامِ، إلاَّ أن يكونَ في صَوْمٍ يَصُومُهُ أحدُكُم" رواه مسلم، فلو كان تخصيصُ يومٍ من الأيَّامِ أو ليلةٍ من الليالي بشيءٍ مِن العبادةِ جائزًا، لكان يومُ وليلةُ الجمعةِ أولى مِن غيره، لأنَّ يومَها هو خيرُ يومٍ طَلَعَت عليه الشمس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ يومٍ طَلَعَت عليهِ الشمسُ يومُ الجُمُعَةِ" رواه مسلم، فلمَّا حذَّر النبيُّ ﷺ مِن تخصيص يومِ الجمعة بصيامٍ من بين سائرِ الأيام أو ليلتها بقيامٍ مِن بين الليالي، دلَّ ذلكَ على أنَّ غيرَهُ مِن الأيامِ والليالي مِن باب أولى لا يجوزُ تخصيصُ شيءٍ منهُ بشيءٍ مِن العبادةِ، إلاَّ بدليلٍ صحيحٍ يدلُّ على التخصيص.
فَعُلِمَ يا عبدالله مِمَّا تقدَّم: أنَّ تخصيصَ ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ بالصلاةِ أو الدُّعاءِ، أو تخصيصِ يومِها بالصيامِ بدعةٌ مُحْدثةٌ، وليسَ له أَصلٌ في الشرع الْمُطهَّر، بل هو مما حَدَثَ في الإسلامِ بعد عصرِ الصحابةِ رضي الله عنهم، ويكفي طالبَ الحقِّ في هذا البابِ وغيرِه قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، وما جاء في معناها من الآيات، وقولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهو رَدٌّ" متفقٌ عليه، وما جاء في معناه من الأحاديث.
جنَّبنا اللهُ ووالدينا وأهلينا الْمُحْدَثاتِ في الدِّين، ورَزَقَنا التمسُّكَ بسُنةِ سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم، آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين