فضل شهر شعبان وأوقات رفع الأعمال إلى الله

9 ذو القعدة 1446 (07-05-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ، ولا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ.

عباد الله: اتقوا الله وتذكَّرُوا أنَّ انقضاءَ رَجَبٍ وقُدُوم شعبان، وانصرامَ الشُّهورِ وتَكرار الزَّمان: تُناديكم بلسانِ الحالِ والاعتذارِ، ألا فأَكثرُوا ذِكْرَ هاذمِ اللذات، وتذكَّرُوا ما ذهَبَ مِن أعماركم وفاتَ، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلمَ: ("أكثرُوا ذكْرَ هَاذمِ اللَّذاتِ"، يعني: الْمَوْت) رواه الترمذي وحسَّنه.

وقال صلى الله عليهِ وسلمَ: "نِعْمَتانِ مَغبُونٌ فيهِما كَثيرٌ من الناسِ: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ" رواه البخاري.

وقال صلَّى الله عليهِ وسلمَ: "بادِرُوا بالأعمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ الليلِ الْمُظلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمنًا ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مُؤمنًا ويُصبحُ كافرًا، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ من الدُّنيا" رواه مسلم، ورُويَ عنه أنه قالَ: "بادِرُوا بالأعمالِ سَبعًا، هل تُنظرُونَ إلاَّ إلى فَقْرٍ مُنْسٍ، أو غِنًى مُطْغٍ، أو مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أو هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أو مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ، أوِ الساعةِ فالساعةُ أَدْهَى وأَمَرُّ" رواه الترمذي وقال: (حَسَنٌ غريبٌ).

عباد الله: احمَدُوا الله أنْ مَدَّ في أعماركم، فإنكم اليومَ في أول يومٍ مِن شَهْرٍ عظيمٍ، كان نبيُّكم يُكْثرُ صيامَهُ، فبادرُوا باغتنام صيامهِ.

فعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: "لَم يَكُنِ النبيُّ ﷺ يَصُومُ شهْرًا أكثرَ مِن شعبانَ، فإنهُ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ" رواه البخاري، وفي روايةٍ: "قالت رضيَ اللهُ عنها: لم يكُن رسُولُ اللهِ ﷺ في الشهرِ مِن السَّنَةِ أكثَرَ صيامًا منهُ في شعبانَ" رواه مسلم.

وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: "ما رأيتُ النبيَّ ﷺ يَصُومُ شهرَيْنِ مُتتابعينِ إلاَّ شعبانَ ورمَضَانَ" رواه الترمذيُّ وحسَّنه، وعنها رضيَ اللهُ عنها: "عنِ النبيِّ ﷺ أنهُ لَم يَكُن يَصُومُ مِن السَّنةِ شَهْرًا تامًَّا إلاَّ شعبانَ يَصِلُهُ برَمَضانَ" رواه أبو داود وصحَّحه الألباني.

وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: "كانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَصُومَهُ: شعبَانُ ثُمَّ يَصِلُهُ برَمَضَانَ" رواه الإمام أحمد وصحَّحه ابنُ خزيمة، وعنها رضيَ اللهُ عنها: "كانَ رسولُ اللهِ ﷺ يَصُومُ حتى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، ويُفطِرُ حتى نقولَ لا يَصُومُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ استَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلاَّ رَمَضَانَ، وما رأيتُهُ في شَهْرٍ أكثَرَ منهُ صيامًا في شعبانَ" رواه مسلم.

وعن أبي سَلَمَةَ قالَ: "سَألتُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها عن صِيَامِ رسولِ اللهِ ﷺ فقالت: كانَ يَصُومُ حتى نَقُولَ قد صامَ، ويُفْطِرُ حتى نقُولَ قد أفطَرَ، ولم أَرَهُ صائمًا من شَهْرٍ قَطُّ أكثَرَ من صيامِهِ من شعبانَ، كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ، كانَ يَصُومُ شعبانَ إلاَّ قليلًا" رواه مسلم، قال ابنُ العطَّار: (وقد أجمعَ العلماءُ على جوازِ صَوْمِهِ كُلِّه، بل على استحبابه) انتهى، وقال الشيخ ابنُ باز: (كان النبيُّ ﷺ يصومُ شعبان كُلَّه، ورُبَّما صَامَهُ إلا قليلًا، كما ثبتَ ذلكَ من حديثِ عائشةَ وأُمِّ سلمةَ رضي الله عنهما.. أمَّا مَن صامَ أكثرَ الشهرِ أو الشهْرَ كُلَّه فقد أصابَ السُّنة) انتهى.

عبادَ اللهِ: لقد بيَّن نبيُّنا الحكمة في تخصيصه شعبان بالصيام، وهو غفلةُ الناسِ عنهُ كما في حديث أسامة، وأنه شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى اللهِ تعالى، وأنه شهرٌ يُكْتبُ فيهِ الْموتُ على كُلِّ نفْسٍ تلكَ السَّنةِ، فعن عائشةَ رضي الله عنها: "أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ، قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ أَحَبُّ الشُّهُورِ إليكَ أنْ تَصُومَهُ شعبَانُ؟ قالَ: إِنَّ اللهَ يَكتُبُ على كُلِّ نَفْسٍ مَيِّتَةٍ تلكَ السَّنةَ، فأُحِبُّ أنْ يَأْتِيَني أَجَلِي وأنا صائمٌ" رواه أبو يعلى وحسَّنه المنذري والبوصيري.

قال ابنُ رجبٍ: (وقد ذكرَ النبيُّ في حديثِ أُسامةَ معنيينِ:

أحدُهُما: أنه شهرٌ يَغفُلُ الناسُ عنه بينَ رَجَبٍ ورمضانَ، يُشيرُ إلى أنه لَمَّا اكتنَفَهُ شهرانِ عظيمانِ، الشهرُ الحرامُ وشهرُ الصيامِ اشتغلَ الناسُ بهما عنهُ فصارَ مَغفولًا عنه.. وفي إحياءِ الوقتِ المغفولِ عنه بالطاعةِ فوائدُ: منها: أنه يكونُ أخفى، وإخفاءُ النوافلِ وإسرارُها أفضلُ، لا سيَّما الصيامُ، فإنه سِرٌّ بينَ العبدِ وربِّه، ولهذا قيل: إنه ليسَ فيهِ رِياءٌ، وقد صامَ بعضُ السلفِ أربعينَ سنةً لا يَعلَمُ به أحدٌ.. ومنها: أنه أشقُّ على النفوسِ، وأفضلُ الأعمالِ أشقُّها على النفوسِ، وسببُ ذلكَ أن النفوسَ تتأسَّى بما تُشاهِدُه مِن أحوالِ أبناءِ الجنسِ، فإذا كثُرَت يقظةُ الناسِ وطاعاتُهم كَثُرَ أهلُ الطاعةِ لكثرةِ الْمُقتدينَ بهم، فسَهُلَت الطاعاتُ، وإذا كَثُرَت الغَفَلاتُ وأهلُها تأسَّى بهم عُمومُ الناسِ، فيَشُقُّ على نفوسِ الْمُتيقِّظينَ طاعاتُهُم، لقلَّةِ مَن يقتدون بهم فيها.. ومنها: أن المنفردَ بالطاعةِ بينَ أهلِ المعاصي والغفلةِ قد يُدفَعُ به البلاءُ عن الناسِ كلِّهِم، فكأنه يَحميهِم ويُدافعُ عنهم. انتهى.

قال ابنُ الجوزي: (قالت لُؤْلُؤَةُ مَولاةُ عَمَّارٍ رضي الله عنه: كانَ عَمَّارٌ يَتَهَيَّأُ لصومِ شعبانَ كَمَا يَتَهَيَّأُ لصومِ رمَضَانَ) انتهى، رَزَقنا الله حُسْن العَمَلِ، وحُسْنَ الأَجَلِ، آمين.

أما بعد: فلقد دلت السُّنة النبوية على أن أعمالك يا عبدالله تُرفَعُ للعَرْضِ على اللهِ عزَّ وجلَّ في كُلِّ يومٍ مرتينِ، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ‌اللهَ عزَّ وجلَّ ‌لا ‌يَنَامُ ولا يَنْبَغِي لهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إليهِ عَمَلُ الليلِ قبلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قبلَ عَمَلِ الليلِ" رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "‌يَتَعَاقَبُونَ ‌فيكُمْ مَلائِكَةٌ بالليلِ ومَلائِكَةٌ بالنَّهارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ العَصْرِ وصَلاةِ الفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الذينَ باتُوا فيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهوَ أَعْلَمُ بكُمْ، فَيَقُولُ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبادِي؟ فيقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ" رواه البخاري ومسلم.

ولأنَّ اللهَ توَّابٌ رحيمٌ يُحبُّ أن تتوبَ إليهِ، فلو أذنبتَ ذنبًا بالنهارِ فتُبتَ بالليلِ قبلَ اللهُ توبتكَ، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ‌يَبْسُطُ ‌يَدَهُ ‌بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" رواه مسلم.

ودلَّتِ السُّنةُ على أنَّ أعمالَكَ كُلَّ أُسبوعٍ تُعْرَضُ أيضًا مرتينِ على اللهِ سُبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: "تُعْرَضُ ‌أعمالُ ‌الناسِ في كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتينِ، يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ، فيُغْفَرُ لكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إلاَّ عَبْدًا بينهُ وبينَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فيُقالُ: اتْرُكُوا أوِ ارْكُوا هذَيْنِ حتَّى يَفِيئَا" رواه مسلم، وسُئل عن صيامهِ يومي الاثنينِ والخميسِ، فقالَ: "ذانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِما الأَعْمَالُ على رَبِّ العالَمِينَ، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ ‌عَمَلِي ‌وأنا ‌صائمٌ" رواه النسائيُّ وصحَّحه ابنُ خزيمة، قولهُ صلى الله عليه وسلم: "فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ ‌عَمَلِي ‌وأنا ‌صائمٌ"، قال الْمُناويُّ: (أيْ: ‌طَلَبًا ‌لِزِيَادَةِ ‌رِفْعَةِ الدَّرَجَةِ) انتهى، وقال ابنُ رجب: (وكانَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ يَبكي إلى امرأتهِ يومَ الخميسِ وتبكي إليهِ ويَقولُ: ‌اليومَ ‌تُعْرَضُ ‌أعمالُنا على اللهِ عزَّ وجلَّ) انتهى.

ودلَّتِ السُّنةُ على أن أعمالَكَ كُلَّ عامٍ تُرفعُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ جُملةً واحدةً في شهرِ شعبان، فعن أُسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنهما قال: "قُلتُ يا رسُولَ اللهِ: لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شهرًا من الشُّهُورِ ما تَصُومُ من شعبانَ؟ قالَ: ذلكَ شَهْرٌ يَغفُلُ الناسُ عنهُ بينَ رَجَبٍ ورَمَضَانَ، وهُوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى رَبِّ العالَمِينَ، فأُحِبُّ أنْ يُرفَعَ عملي وأنا صائمٌ" رواه النسائيُّ وصحَّحه ابنُ خزيمة.

قال ابنُ القيِّم رحمه الله: (وإذا انقَضَى الأَجَلُ ‌رُفِعَ ‌عَمَلُ ‌العُمْرِ كُلِّه، وطُوِيَتْ صَحِيفَةُ العَمَلِ، وهذهِ الْمَسائلُ مِن أسرارِ مَسَائِلِ القضاءِ والقَدَرِ) انتهى.

وتذكَّر عبدالله أنَّ اللهَ سيُقَرِّرُ الْمُؤْمِنَ بذنوبهِ، قال صلى الله عليه وسلم: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ عليهِ كَنَفَهُ، ‌فَيُقَرِّرُهُ ‌بذُنُوبهِ، تَعْرِفُ ذَنبَ كَذَا؟ يَقُولُ: أَعْرِفُ، يَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، مَرَّتَيْنِ، فَيَقُولُ: سَتَرْتُها في الدُّنيا وأَغْفِرُها لكَ اليومَ، ثمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَناتهِ، وأَمَّا الآخَرُونَ أوِ الكُفَّارُ فَيُنَادَى على رُؤُوسِ الأشهادِ: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}" رواه البخاري ومسلم.

وفَّقنا اللهُ جَميعًا لِما يُحبُّه ويرضاه، وخَتَمَ لنا ووالدينا وأهلينا بالحُسنى، آمين.

اللَّهُمَّ {رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار}.

اللهُمَّ وأَعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأَذلَّ الشركَ والمشركين، واحْمِ حَوْزةَ الدِّين، وانصر عبادك الموحِّدين، واحفظ حدودنا، وانصُر جُنودَنا.

اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا خادِمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليَّ عهدِه وجميع وُلاةِ أُمورِ المسلمين، وخُذ بنواصيهم للبرِّ والتقوى، وارزقهم البطانةَ الصالحةَ الناصحة.

اللهُمَّ وارحَمْ موتانا، واشفِ مرضانا، وأَغنِ فُقرائَنا، وأصلِح ذُريَّاتِنا.

اللهُمَّ وادفع عنَّا الغلا والوبا، والرِّبا والزنا، والزلازلَ والْمِحَنِ، والفواحشَ والفِتَنَ ما ظَهَرَ منها وما بطَنَ، (يا اللهُ، يا رَحْمَنُ)، يا (رَبّنا رَبّنا)، يا سِتِّيرُ، (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِنا، وآمِنْ رَوْعَاتِنا، واقْضِ عَنّا دُيوننا، اللهُمَّ واغفِر لنا ولوالدينا وأهلينا وارْحَمْنا واهدِنا وعافِنا وارْزُقنا، آمين، اللهُمَّ صَلِّ وسلِّم على نبينا محمد، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، لا إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إلَيْكَ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق