بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
صادف أن التقيت ذات يومٍ بفتاةٍ في رحاب كلية الحقوق لم تكن كغيرها، بل آيةٌ في التميز والجد. أتقنت لغاتٍ ثلاث، وسارت في دراستها على أكثر من مسارٍ تعليمي، ورغم حداثة سنها، كان هدفُها واضحًا كالشمس، وتماسكُها يُحيلُ دون شكٍّ في صوابِ مسيرتها.
وما إن علمتُ أن لهذه الفتاة سبعة أشقاء آخرين، وأنهم جميعًا يحفظون كتاب الله ويتلقون تربيةً على ذات المنهاج، حتى انقدح في ذهني سؤالٌ عن مُربي هذه العقول وهذه الشخصيات. كانت الرغبةُ مُلحّةً في التعرف على الأم التي أنجبت وربّت هذا النبتَ المبارك.
وحين التقيتُ بها، أدركتُ للحظةِ الأولى أنني أمام نموذجٍ أُسريٍّ فذٍّ في العطاء والإنتاج. لم تكن هذه الأسرةُ وليدةَ الصدفة، بل ثمرةَ جهدٍ ووعيٍ ومنهاجٍ سديد.
تحدثت الأم عن مسيرتها، وكيف كان لتعليمها الأثرُ البالغ في صياغة تجربة تربويةٍ فريدة. لم تتوقف بعد دراستها، بل سلكت دروبًا أخرى في دوراتٍ متخصصةٍ في التربية المبكرة، ونالت شهادةً جامعيةً في الأدب واللغويات. ولم تكتفِ بذلك، بل حضرت ورشةَ عملٍ في منهجيةٍ تعليميةٍ بعينها، كان لها أثرٌ عميقٌ في وعيها بأهميةِ تربية الأبناء الذكور على وجه الخصوص.
لقد قامتْ تربيتُها على دعامتين أساسيتين، ولئن كانتا مهمتين، إلا أن الأساسَ الحق كان شيئًا آخر ستأتي على ذكره:
الأولى: تحفيزُ الطفل. وهذا يبدأ منذ اللحظات الأولى، بل قبلها في رَحِمِ الأم استماعًا وتأثرًا. يبدأ بالقراءة والعدِّ وتحسسِ الأشياء من حوله، والحديثِ إليه بما يُنمّي حواسَه ويدركُ به مُحيطَه.
الثانية: الانخراطُ مع الطفل. فالجلوسُ معه ومشاركته في نشاطاتِه هو سرُّ بناءِ جسرِ التواصل وتقويةِ العلاقة. في تلك اللحظاتِ، تكتشفُ كوالدٍ طبيعةَ طفلِك وقدراتِه وميولِه. وإنْ شُيّدَ هذا الجسرُ في الصغر، بقيَ متينًا في الكبر، وظلّ الأبناءُ يلجأون إليك يستشيرونك ويبثّونك همومَهم حتى في مرحلة الشباب التي يبتعدُ فيها الكثيرون عن آبائهم.
لكنْ وهنا مربطُ الفرسِ كما يُقال، لم تكن هاتان الدعامتان هما كلَّ شيء. فالعقلُ وحده قد يضِلُّ بصاحبِه، وقد يهوي به في مهاويَ سحيقةٍ من الفسادِ والانحراف. إنما الأساسُ المتينُ الذي لا يلين، هو غرسُ الإيمان والتقوى في قلوبِ الأبناء. وهذا ما أدركتُه بفضلِ تعليمي، وإنْ كان إدراكي بأهميةِ الدينِ والتقوى سابقًا على ذلك.
لذا كانت المبادئُ التربويةُ التي طبقتُها جزءًا من منظومتي، أما لُبُّ المنهجِ وروحُه، فهو بذلُ أقصى الجهدِ لتعليمِ الأطفالِ دينَهم وكتابَ ربهم. ولهذا كان لزامًا البدءُ بتعليمِ القرآنِ واللغةِ العربيةِ والدينِ منذ نعومةِ أظفارِهم.
كان دأبي ولا يزال، أن أتحدثَ إليهم وأنا معهم، أزرعُ في قلوبِهم محبةَ اللهِ وكتابِه وأنبيائِه وصحبِه الكرام، وأعلمُهم ما تيسّر من الآدابِ الإسلاميةِ الرفيعة. لديّ اليومَ ثمانيةُ أبناءٍ، أكبرُهم في الرابعة والعشرين وأصغرُهم في الثانية عشرة. أتمّ جميعُهم حفظَ القرآنِ قبل بلوغِ الرابعةَ عشرةَ من العمر!
تذكرتُ أيامي الأولى معهم. كنتُ أرسمُ لهم الأشياءَ وأسمّيها لهم. وحين كبروا قليلًا، ناولتُهم الأقلامَ ليبدأوا رحلتَهم مع الرسم. قد يظنُّ البعضُ أن تكديسَ الألعابِ يكفي لتعليمِ الطفل، ولكن هذا ليس صحيحًا على إطلاقِه. لا بدّ من الجلوسِ مع الطفلِ والمشاركةِ الفاعلةِ معه.
إنّ جلوسَك بجوارِ طفلِك ومشاركتَه في نشاطٍ ما، هو الكاشفُ لحقيقةِ شخصيتِه ومواطنِ قوتِه وضعفِه. تلك اللحظاتُ هي التي تمنحُك فهمًا عميقًا لنفسيةِ طفلِك وتساعدُك في صقلِ قدراتِه وتنميةِ مواهبِه. وإذا ما بُنيتْ هذه العلاقةُ المتينةُ في مرحلةِ الطفولة، بقيتْ صلةُ الأبناءِ بوالديهم قويةً راسخةً في سنّ الشباب، وسيظلُّ الوالدانِ الملاذَ الآمنَ الذي يلجأ إليه الأبناءُ وقتَ الحاجة.
ولكلِّ من يرغبُ في سلوكِ هذا الدربِ في تربيةِ أبنائِه، إليكم نصيحتانِ من واقعِ تجربة:
أولاهما: ركّزْ جُلَّ جهدِك على الطفلِ الأول. ما ترغبُ في غرسِه في أبنائك، ابدأ به مع طفلِك الأول. إنْ استثمرتَ فيه كثيرًا، فإنّ الطفلَ الثاني سيلحقُ به اقتداءً، وستجدُ أنك بحاجةٍ إلى نصفِ الجهدِ الذي بذلتَه مع الأول. والسرُّ في ذلك أن الطفلَ الأصغرَ يتعلّمُ من أخيه الأكبرِ وهو يرى ويسمعُ، وعندما يأتي دورُه في التعليم، يكونُ قد حازَ قسطًا وافرًا من المعرفة.
ثانيهما: اجعلِ القرآنَ محورَ حياةِ أسرتِك. لا تتوقعْ أن يحرصَ طفلُك على تعلّمِ سورةٍ من القرآنِ ووالدُه يشاهدُ التلفازَ وأمُّه منكبّةٌ على جهازِها اللوحي. إنْ لم يرَ الطفلُ من والديهِ نموذجًا حيًا لحبِّ القرآنِ والارتباطِ به، فلن تنبتَ في قلبِه هذه الرغبة.
وقد يسألُ سائلٌ عن كيفيةِ التوفيقِ بين كلِّ هذه المهامِّ وتربيةِ ثمانيةِ أطفالٍ في وقتٍ واحد. دعونا نرسمُ صورةً ليومٍ اعتياديٍّ في منزلِنا. بعد ولادةِ طفلي الأول، أصبحَ الاستيقاظُ قبل الفجرِ عادةً، ربما بسببِ طبيعةِ الإرضاع، وهكذا بدأ يومُنا دائمًا بصلاةِ الفجر.
بعدَ الصلاةِ نتناولُ الإفطارَ ونرتّبُ أمورَنا، ثم نبدأُ الدراسةَ من السادسة والنصفِ صباحًا حتى الحاديةَ عشرةَ تقريبًا. الأمرُ أشبهُ بإدارةِ أوركسترا؛ أحدهم يكتبُ على الطاولةِ، والآخرُ يتجهُ إلى الحمامِ، وأساعدُ الثالثَ في ارتداءِ ملابسِه، بينما أقرأُ للرابعِ كتابًا وأطعمُ الرضيع. هذا هو المشهدُ المتكررُ حتى يصبحَ الجميعُ جاهزًا.
بعدها نجتمعُ جميعًا لأقرأَ لهم كتابًا يختارونَه بالتناوبِ كلَّ يوم. هذه اللحظةُ كانت محببةً لهم، ينتظرونَها بفارغِ الصبر ليبدأوا الدراسةَ معي. كلٌّ منهم يقرأُ ويكتبُ ويتعلّمُ الأرقامَ والقرآن. وفي ختامِ هذه الفترةِ، نخصّصُ وقتًا لنشاطٍ يدويٍّ مُمتع؛ نرسمُ ونلصقُ ونصنعُ أشياءَ بأيدينا.
وهنا نصيحةٌ إضافية: اجعلوا الدراسةَ ممتعةً. كانت الأوراقُ التي أعدّها لهم للكتابةِ أو الحسابِ دائمًا ملونةً ومزينةً بالرسوماتِ والملصقات. بهذا، لم تبدُ المهامُ عملًا روتينيًا مملًا، بل ارتبطتْ بالإبداعِ واللعب. لذا، على كلِّ من يرغبُ في السيرِ على هذا الدربِ أن يكونَ لديهِ مخزونٌ من الأفكارِ للأنشطةِ الإبداعيةِ للأطفال.
في حوالي العاشرةِ والنصفِ صباحًا، يكونُ الأطفالُ قد جاعوا وأصبحوا مستعدينَ للراحةِ، فنتناولُ وجبةً خفيفة. لقد استيقظوا مبكرًا وبذلوا جهدًا في الدراسة، لذا فهم الآن مهيأونَ لقيلولةٍ بعد الطعام. أقودُهم إلى غرفةِ النومِ، يستلقونَ بهدوءٍ، فأقرأُ لهم سورًا من القرآنِ كنتُ أحفظُها في تلك الفترة، وفي ذات الوقتِ أساعدُهم على النوم. هكذا تمكنتُ من حفظِ القرآنِ بينما كنتُ أربي ثمانيةَ أطفال. كانت المسيرةُ بطيئةً، لكنّ الجميلَ أن الأطفالَ كانوا يحفظونَ معي، بل ويسابقونني في الحفظِ في كثيرٍ من الأحيان! كان هذا أيضًا أسلوبي في تنويمِهم مساءً، وفي تهدئةِ من كان بحاجةٍ منهم لذلك.
مرّتْ أيامُنا على هذا المنوالِ حتى بدأَ الأطفالُ يتجهونَ إلى المدرسةِ واحدًا تلوَ الآخر. وفي تقديري، منحَهم هذا الروتينُ شعورًا بالاستقرارِ والتنظيم. لطالما آمنتُ بأنه إنْ لم تُشغلْ أطفالَك، سيشغلونَك هم! سيبدأونَ في إزعاجِك والتدخلِ في شؤونِ بعضِهم البعض. أما عطلاتُ نهايةِ الأسبوعِ فكانت خاليةً من الجدولِ الزمنيِّ المحددِ أو الضغط، نخرجُ للنزهةِ أو اللعبِ في الحديقة.
وفي رحلةِ تعليمِ الأطفالِ القرآنَ واللغةَ العربية، هناك مصادرُ لا تُحصى يمكنُ الاستعانةُ بها. تتكونُ من كتبٍ صغيرةٍ تهدفُ إلى تعليمِ الأطفالِ قراءةَ القرآنِ بأسلوبٍ مُيسّرٍ ومناسبٍ لأعمارِهم.
لا ننكرُ أن التحدياتِ اليوميةَ التي يواجهُها الأهلُ والأطفالُ كثيرة، من مدارسَ وواجباتٍ منزليةٍ وغيرها، وقد تكونُ مُرهقة. لكنّ المعونةَ والتأييدَ يأتيانِ من اللهِ وحده. لذا لا بُدّ من الإلحاحِ في الدعاءِ، وتوجيهِ النوايا الخالصةِ لتربيةِ الأبناءِ على الوجهِ الذي يُرضي الله.
إنّ التعليمَ والتربيةَ ليسا مجردَ سعيٍ للحصولِ على درجاتٍ عاليةٍ أو تحقيقِ نجاحٍ دنيوي، بل يجبُ أن يكونَ هناك هدفٌ أسمى، وهو خدمةُ دينِ اللهِ ومجتمعِ المسلمين. من الضروريِّ أن يدركَ الأطفالُ الغايةَ الحقيقيةَ من طلبِ العلمِ، وأن تكونَ نيتُهم خالصةً لله. متى علمَ الأطفالُ أن ما يقومونَ به من أعمالٍ هو لوجهِ اللهِ، وجدوا فيه معنىً وهدفًا يُشحذُ به الهمم.
وفي نهايةِ المطافِ، يجبُ أن يكونَ الوالدانِ قدوةً حسنةً لأبنائهم، يوجّهونَهم نحو تحقيقِ أقصى ما لديهم من إمكاناتٍ وقدرات، دون الشعورِ بالإرهاقِ أو الضغط. قد يبدو للبعضِ أن تربيةَ ثمانيةِ أطفالٍ وتحقيقَ هذه الأهدافِ أمرٌ أشبهُ بالمستحيل، ولكنّ السببَ الرئيسَ وراءَ هذا النجاح، بعد توفيقِ اللهِ وعونِه هو العزيمةُ والإصرار. فبدونِ العزيمةِ تظلُّ الأحلامُ حبيسةَ الصدور.
إذن فما الذي كان مصدرَ القوةِ في تلك السنواتِ، خاصةً في الأوقاتِ الصعبة؟
المعونةُ والدعمُ كانا ولا يزالانِ من الله، لم أنقطعْ يومًا عن الدعاءِ، ألحُّ على اللهِ أن يجعلَ أبنائي ممن ينفعونَ الأمةَ الإسلاميةَ ويسهمونَ في نهضتِها. هذا الدعاءُ والأملُ في استجابتِه كانا وقودَ المسيرة.
واصلتُ جهدي في حفظِ القرآنِ، ولما كنتُ أقومُ بذلك بنفسي، شعرتُ أنني أستطيعُ أن أطلبَ من أبنائي بذلَ ذاتِ الجهدِ وتحملَ ذاتِ المسؤولية. لقد أصبحَ حفظُ القرآنِ رمزًا للعزيمةِ بالنسبةِ لي.
وأخيرًا فقد كان لديَّ دافعٌ آخرُ للعزيمةِ، وهو رغبتي في تحقيقِ العدالةِ بين أبنائي جميعًا. شعرتُ بأنه من الواجبِ عليّ الاستمرارُ في تعليمِ الأصغرِ سنًا وتقديمُ ما قدمتُه للأكبرِ منهم. هذا الشعورُ دفعني للمضيِّ قدمًا رغمَ الصعاب.
استمرّتْ "مدرستُنا المنزليةُ" حتى التحقَ سبعةٌ من أبنائي بالمدرسة، ولم يبقَ في المنزلِ سوى طفلةٍ واحدة. حتى هذه الواحدةِ اضطررتُ للبحثِ لها عن زميلاتٍ لكي تستمرَّ في التعلمِ بمتعةٍ وتشويق.
قد يميلُ الوالدانِ أحيانًا إلى اتخاذِ قراراتٍ تخدمُ احتياجاتِ الأطفالِ الأكبرِ سنًا على حسابِ الأصغر، وقد يبدو هذا طبيعيًا، لكني كنتُ أذكّرُ نفسي دائمًا بأنّ العدلَ مطلوبٌ حتى في التربية.
كيف تُزرعُ بذورُ الصبرِ والعزيمةِ في النفس، خاصةً لدى الوالدينِ الذين يحملونَ على عاتقِهم هذه المسؤوليةَ العظيمة؟ لا أملكُ وصفةً سحريةً لذلك، ولكني أجزمُ بأنّ القربَ من اللهِ هو السرُّ. إنْ لم تكنْ أحلامُك التربويةُ مرتبطةً بعبادةِ اللهِ وطاعتِه، فقد يفقدُ الصبرُ والعزيمةُ بريقَهما ومعناهما. يجبُ أن تكونَ النيةُ واضحةً، والاعتقادُ راسخًا. إنْ آمنتَ بأنّ واجبَك كوالدٍ مسلمٍ هو تربيةُ أبنائك ليكونوا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلفٍ، فهذا هو الهدفُ الحقيقيُّ الذي يستحقُّ كلَّ بذلٍ وتضحية.
وكما في أيِّ عملٍ صالحٍ آخر، يجبُ أن يقتنعَ الوالدانِ بأنهما يقومانِ بعملٍ يُرضي اللهَ وسينالانِ عليهِ الأجرَ والثواب. هذا الاقتناعُ هو البلسمُ الذي يُداوي جراحَ التعبِ، والوقودُ الذي يُشعلُ جذوةَ العزيمةِ. أما من كانت نيّتُه دنيويةً محضةً، تتبعُ دوافعَ اللحظةِ وزخارفَ الدنيا، فقد يجدُ نفسَه في نهايةِ الطريقِ مُنهكًا مستسلمًا.
وتذكروا دومًا أنّ أبناءَكم الصالحينَ هم من سيدعونَ لكم بعد وفاتِكم. هذا وحده كافٍ لكي لا تفقدوا الأملَ وتستمروا في جهودِكم، فذاكَ هو الاستثمارُ الحقيقيُّ الذي يبقى أثرُه بعد الرحيل.
قد يتساءلُ البعضُ عن هواياتِ الأبناءِ وكيف تمّ توجيهُهم نحو أنشطةٍ نافعةٍ في أوقاتِ فراغِهم. لم يكنْ لديَّ هدفٌ مُسبقٌ لجعلِ كلِّ طفلٍ يمتلكُ هوايةً خاصة. لكنْ وبالاتفاقِ مع زوجي، قررنا ألا يكونَ التلفازُ جزءًا من منزلِنا، وهذا القرارُ دفعنا دفعًا للبحثِ عن بدائلَ تُشغلُ أوقاتَ الأطفالِ منذ الصغر.
قضينا وقتًا طويلًا في الأعمالِ اليدويةِ والإبداعيةِ. في البدايةِ كانت أعمالًا بسيطةً كالنحتِ والرسم، ومع تقدّمِهم في العمرِ، بدأنا في الرسمِ وصناعةِ الأشياءِ من الطينِ والورق، مرورًا بالأوريغامي والرسمِ على الزجاجِ والخشب وغيرها من الفنون. كنا نصنعُ كتبَنا الخاصةَ، نكتبُ القصصَ ونرسمُ أغلفةَ الكتب. لم نفرّقْ بين الأولادِ والبناتِ في معظمِ هذه الأنشطة، بل كان الأولادُ يشاركونَ بسعادة.
ثم بدأتُ في تعليمِ البناتِ بعضَ المهاراتِ البسيطةِ في الخياطةِ والتطريز. وعندما أصبحْنَ في سنّ المراهقةِ، كنّ قادراتٍ على صنعِ الكثيرِ من الأشياءِ بأنفسهنّ، بل وبدأنَ مشروعًا صغيرًا لبيعِ المنتجاتِ التي صنعنَها بأيديهنّ.
واليومَ ما شاء الله، هنّ ماهراتٌ في الحياكةِ والخياطةِ والطبخ. إحداهنّ تميلُ إلى الفنِّ والرسمِ، بينما تهوى الأخرى الهندسةَ المعماريةَ وتصنعُ مجسّماتٍ للمنازلِ من الورق.
بالطبعِ لا أعرفُ كلَّ هذه المهاراتِ، ولكنّ اليوتيوب كان خيرَ مُعينٍ لي في هذه الرحلة. وأؤكدُ أنّ هذه الهواياتِ والمهاراتِ التي اكتسبوها لم تكنْ مجردَ نتيجةٍ لحبِّهم للإبداعِ، بل لكونِهم لم يشاهدوا التلفازَ، مما دفعَهم للبحثِ عن طرقٍ لملءِ أوقاتِ فراغِهم بما هو نافعٌ وممتع. واكتشفوا أيضًا الفرحةَ التي تأتي من امتلاكِ مهاراتٍ تجعلُهم مستقلينَ ويعتمدونَ على أنفسِهم.
بالنسبةِ للأولادِ، هواياتُهم تتنوعُ بين التصويرِ الفوتوغرافيِّ والطباعةِ على القمصانِ والرسمِ على الجدرانِ ونحتِ الخشب. ومع ذلك، يجمعُهم حبُّ كرةِ القدمِ.
حين بدأَ الأطفالُ يملأونَ حياتي، قررتُ التوقفَ عن العملِ كمعلمةٍ وتفرّغتُ لهم. خلالَ تلك الفترةِ تفرّغتُ لتعلمِ القرآنِ الكريمِ وحفظِه. عدتُ بعد ذلك لتدريسِ اللغةِ الإنجليزيةِ في جامعةِ الملكِ سعودٍ بالرياض، وواصلتُ دراساتي لتطويرِ نفسي مهنيًا. لكنّ الأمرَ لم يكنْ سهلًا كما يبدو، وعدتُ للعملِ ليسَ للطموحِ المهنيِّ فحسب، بل لأسبابٍ أخرى.
إنّ التعليمَ والتربيةَ لا يبدآنِ بمجردِ ولادةِ الطفل، بل يمتدّانِ إلى ما قبلَ ذلك بكثير. حين أقولُ إنّ التعليمَ يبدأُ قبل عشرينَ عامًا من ولادةِ الطفل، أعني أن إعدادَ الوالدينِ وتأهيلَهما هو الأساسُ الأول. قبل أن نصبحَ آباءً وأمهاتٍ، يجبُ أن نكونَ قد ملكنا قِسطًا وافرًا من المعرفةِ والقيمِ الصحيحةِ لنتمكنَ من تربيةِ أبنائنا على الوجهِ الأمثل.
لا يكفي أن تكونَ لدينا رغبةٌ في توفيرِ تعليمٍ جيدٍ لأبنائنا، بل يجبُ أن نكونَ نحنُ قد تعلمنا وأعددنا أنفسَنا لهذا الدورِ العظيم. يجبُ أن نؤسسَ في أبنائنا الأساسَ المتينَ في الدينِ والأخلاقِ، ونعلمُهم القرآنَ ونغرسُ فيهم حبَّه وفهمَه. وبهذهِ الطريقةِ فقط نضمنُ أن يكونَ لديهم الرصيدُ المعرفيُّ والروحيُّ الذي يؤهلُهم ليكونوا آباءً وأمهاتٍ صالحينَ ومسؤولينَ في المستقبل.
لا نلتزمُ ببرنامجٍ دينيٍّ خاصٍّ لزيادةِ بركةِ يومِنا، ولكننا نؤمنُ إيمانًا راسخًا بأهميةِ القدوةِ في التربية. قرأتُ في كتابٍ عن التربيةِ أن الأطفالَ يتّبعونَ أفعالَ الوالدينِ أكثرَ من أقوالِهم. لذا من الضروريِّ أن نكونَ مثالًا يُحتذى بهِ في جميعِ جوانبِ الحياةِ، وخاصةً في العباداتِ والقربِ من الله. إنْ كنا متمسكينَ بدينِنا محافظينَ على صلاتِنا وعباداتِنا، فسيقتدي بنا أبناؤنا ويتعلمونَ منا دونَ عناء.
حين لا يُسرق وقت الطفل، يظهر فضوله، ويبدأ في طرح السؤال الكبير: (ماذا يمكنني أن أفعل؟)، وهكذا وُلدت الهوايات من داخل نفوسهم. لم تكن تقرر عنهم، بل كانت تهيئ لهم الأرض فقط.
إذا كنتَ تأملُ في أن تصبحَ والدًا في المستقبلِ إن شاء الله فخذْ بعينِ الاعتبارِ كلَّ ما سبقَ ذكرُه وطبّقْ ما تراهُ مناسبًا لظروفِك. فإن اللهُ لا يكلّفُ نفسًا إلا وسعَها. كلٌّ منا له طريقُه الخاصُّ في الحياةِ، وأنا اخترتُ طريقي وما زلتُ أسيرُ فيهِ بتوفيقِ اللهِ وعونِه.
أتمنى أن تختاروا طريقَكم بتمعّنٍ وحكمةٍ، مع التركيزِ على هدفٍ واحدٍ نبيلٍ وسامٍ: تربيةُ أطفالٍ صالحينَ يكونونَ إضافةً حقيقيةً لمجتمعِهم وأمتِهم. ولا تنسوا أن فهمَ الإسلامِ الصحيحَ هو المفتاحُ الرئيسُ لتمكينِ أبنائكم من خدمةِ الأمةِ بفعاليةٍ وتأثيرٍ في هذا الزمنِ الذي تتلاطمُ فيه الأمواجُ وتتداخلُ فيه المفاهيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين