بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.
يوم الأحد: 28 من شوال 1446ه الموافق لـ 27 من إبريل 2025م:
• ثبتَ عن رسول الله ﷺ أنه أخبرَ أن مَلَك الموت وهو يَقبض رُوحَ الميِّت يُعْلِمُه بمنزلته ومكانته عند الله، وهو في حالة الغَرْغَرة يَعْلَمُ مِن مَلَك الموت مكانتَه ومنزلتَه عند الله؛ فإن عَلِم خيرًا قال لمن يحملون جنازته: "قدِّمُوني قدِّمُوني"، وإن عَلِم شرًّا قال لمن يحملون جنازته إلى قبره: "وَيْلي، أين تذهبون بي؟!"، ولا بُدَّ لكلِّ واحدٍ منَّا إمَّا أن يقول: "قدِّمُوني قدِّمُوني"، أو يقول: "وَيْلي، أين تذهبون بي؟!"؛ فلنَحرصْ حرصًا شديدًا على ألا نقول: "وَيْلي، أين تذهبون بي؟!"، والحرصُ على ذلك لا قيمةَ له ما لم يكن مصحوبًا بعملِ الطيِّبات الصَّالحات، وعملِ ما أمرَ الله به - وما أمرَ الله إلَّا بعمل الطيِّبات الصَّالحات - والانتهاءِ عمَّا نهى الله عنه؛ فإذا قصَّرتَ فيما أمرَ الله وارتكبتَ ما نهى الله فأنت لا محالةَ من الذين سيقولون: "وَيْلي، أين تذهبون بي؟!".
• لا بُدَّ مِن كثرة ذِكْر الله؛ قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}؛ فمَن حَبَّب الله إليه الإيمان حَبَّب إليه ذِكْرَه؛ فاذكروا الله حتى يكون ذِكرُ الله حبيبًا إليكم.
• أفضلُ الذِّكر أن تقرأَ القرآن؛ فاحذروا أن تَتخذوا القرآن مهجورًا.
• ربُّنا قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}؛ فأيُّ مكانةٍ، وأيُّ مَقامٍ، وأيُّ سُموٍّ، وأيُّ رِفْعةٍ لك بعدَ أو فوقَ أو تُقارِبُ أن يَذكُرَك الله.
• قضيةُ رُجوع مزيَّة الكلام إلى المعنى كانت شُغْلَ عبد القاهر مِن أوَّل ما بدأ يَكتب في البلاغة؛ لأنه بدأ البلاغةَ بكتاب «أسرار البلاغة»، وبعد مقدِّمة «أسرار البلاغة» التي ذكر فيها فَضْلَ اللِّسان وفَضْل البيان، وأنه يَنقل إلى القلب والعقل العلمَ والفكرَ.. إلخ - بدأ يتكلَّم أوَّلَ كلامٍ له في البلاغة في بيانِ أن فَضْلَ الكلام يَرجع إلى معناه، ويبدو - والله أعلم - أن البيئة التي كان فيها عبدُ القاهر كان القولُ بأن فضيلةَ الكلام ترجع إلى لفظه قولًا شائعًا جدًّا ومنتشرًا جدًّا، وقد نبَّه عبدُ القاهر إلى ذلك، وذكر أن مِن الكُتَّاب مَن يَكتب ليُبيِّن لنا قُدرتَه على إنتاج الجناس وإنتاج السجع، وكأنه لم يَكتب ليُبِينَ عن مَعانٍ، وإنَّما يَكتب ليُبِينَ عن مهارةٍ في استعمال الألفاظ، وكذلك بدأ أوَّلَ كلامٍ في «أسرار البلاغة» في بيانِ أن الجِناس - الذي يوشك الإجماعُ أن يقول إنه مُحسِّنٌ لفظي - مُحسِّنٌ معنوي، وله عبارةٌ في ذلك حَفِظتُها منذ النشأة؛ هي أنَّ الجِناسَ يَحْسُنُ لمعنًى «يَقعُ مِن المرءِ في فؤاده»، لا يَقعُ في أُذنِه وإنَّما يَقَعُ في الفؤاد.
• كيف يُوقِعُ الجِناسُ معنًى في فؤادي؟ يقول لك عبد القاهر: لأن الجِناسَ إذا تَكرَّرت الكلمةُ الثانيةُ ظننتَ أنت أنها لا معنى لها، وأن معناها هو ما وقعَ في نفسِك مِن لفظها الأول، فإذا تدبَّرتَ وجدتَ لها معنًى جديدًا، فجاءك المعنى الجديدُ مِن غير أن تَتوقَّعَه، فيَحْسُن عندك، وهذا هو الذي يَقعُ مِن المرء في فؤاده.
• لغةُ العِلم في مستوى العلم، ومَن يَحفظ العِلمَ عليه أيضًا أن يَحفظ لُغتَه.
• الأسرارُ الدَّقيقةُ للكلام الذي يُساويها في قيمتها هو العقلُ الذي يتغلغل إليها حتى يُخرِجَها.
• لا تقرأ الكُتبَ الجليلةَ لتأخذَ ما فيها مِن عِلمٍ فقط، وإنَّما هي فيها طاقاتٌ فكريةٌ جليلةٌ؛ فاجعل عقلَك يَبحث عن هذه الطاقات الفكرية.
• أذهلني المُزَنِيُّ - وهو رجلٌ في طبقة الشافعيِّ أو في الطبقة التي تَلِي الشافعيَّ - لمَّا قال إنه قرأ رسالة الشافعيِّ خمسمائة مرَّة، لو كان المُزَنِيُّ يريد تحصيلَ ما في «الرِّسالة» مِن علمٍ لقرأها مرَّتين أو ثلاثًا، إنَّما أن يقرأهاخمسمائة مرَّة فهذا معناه أن كلَّ قراءةٍ كَشفتْ له عن سِرٍّ مِن خفايا «الرِّسالة»، ثم ترك «الرِّسالة» بعد الخمسمائة مرَّة وهي تُعطيه؛ فالمهمُّ هو التدبُّر.
• قيمةُ العِلم أن يُنمِّيَ أفكارًا، وأن يَصنعَ منك عقلًا جديدًا، وأن يَصنعَ لك فكرًا جديدًا، لا أنْ تَحفظَ ما قاله الناسُ مِن غير تدبُّر.
• كلُّ كلامِ عبد القاهر هو في رَفْضِ أن تُكرِّرَ ما يقوله الناسُ مِن غير أن تُعمِلَ عقلَك فيه، أَعْمِلْ عقلَك لتُدرِكَ حقيقةَ وصوابَ ما يُقال، ولتُدرِكَ التساهُلَ والتسامُحَ فيما يُقال، إنْ كان الذي قِيلَ فيه تَساهلٌ وتَسامح.
• يا سيِّدي، أنا لا أقرأ «دلائل الإعجاز» لأُلخِّص مَعانِيَه التي لخَّصها المُلخِّصون بعدَه، وإنَّما أنا أقرأ كلامَ الكرام لأن كلامَ الكرام يَصنعُ كِرامًا.
• قلتُ لكم كثيرًا: إذا لم نُخرِّج لأجيالنا ولأيَّامنا ولأوطاننا مَن هُم أفضلُ منا نكون نحن الخَونةَ الحقيقيين.
• إذا لم يُخرِّج الطبيبُ طبيبًا أفضلَ منه، والمُعلِّمُ مُعلِّمًا أفضلَ منه، والباحثُ باحثًا أفضلَ منه، والسياسيُّ سياسيًّا أفضلَ منه - فنحن نَخونُ أوطانَنا، وهذه هي الخيانةُ الحقيقية.
• الوفاءُ الحقيقيُّ للأوطان هو أن تُخرِّج مَن هو أفضلُ منك.
• في بيان الفرق بين درس الجامعة ودرس المسجد، قال شيخُنا: دُروسُ المساجد قيمتُها العُليا أنَّ آفاقَها الفكريةَ لا حدود لها، وهذه الدروسُ هي التي خرَّجتِ العلماءَ وربَّتِ الأجيال.
• يا أولاد، لا تتعلَّموا ظواهرَ المعرفة، إن الله نهى عن الخطأ ما ظَهَر منه وما بَطَن؛ فلا تَقِفْ عند ما ظَهَر؛ لأن الوقوفَ عند ما ظَهَر وقوفٌ سطحيٌّ لا قيمة له، إنَّما انْسَلَّ وانْغَلَّ وتَغلغلْ لتَعرِفَ ما بَطَن.
• إذا انتظرتَ مِن مُعلمٍ أن يُحدِّثك عن كل شيء فلن تجدَه، إنَّما يُحدِّثك عن شيءٍ ويَتركُ لك شيئًا، حتى سيدُنا رسولُ الله ﷺ حين جاءته الصَّحابيةُ تسألُه هل تَحجُّ عن أُمِّها التي نَذرتْ أن تَحجَّ ثم ماتت قبل أن تَحجَّ؛ فأراد سيدُنا أن يُفقِّهَها ويُعلِّمَها القياسَ والاستنباطَ؛ وذلك بأنْ قال لها: "أرأيتِ إنْ كان على أُمِّك دَينٌ، أكُنتِ قَاضِيتَه؟".
• التعليمُ أن تَقِيسَ ما لا تَعلَم على ما تَعلَم.
• مِن مُخلَّفات الزَّمن أننا نقول: «كلامُ الكبار كبيرُ الكلام»، لا يا سيِّدنا، كلامُ الصِّغار قد يكون كبيرَ الكلام، إنَّما أنتم تَربَّيتُم تحت عرش فرعون، ولا يزال عرشُ فرعون مسيطرًا عليكم، ولا يزال فرعونُ فيكم؛ فتُعظِّمون كلامَ الكبار.. عَظِّمُوا الكبارَ إنْ شئتم، لكنَّ الكلامَ لا يُعظِّمه إلَّا عقلُ المتدبِّر.
• في زماننا أنا شخصيًّا لا أهتمُّ بمن يقولون كلامًا لا قيمةَ له؛ كهؤلاء الذين يقولون إن القرآن ليس فيه دليل على الحجاب، أو الذين يقولون إن القرآن مكانُه المسجد وليس له مكانٌ في الشارع.. أنا لا ألتفت إلى هؤلاء ولا أناقشهم؛ لأنه كلامٌ لا قيمةَ له.
• مَن يقول كلامًا لا قيمةَ له اترُكْه؛ لأن فُقدانَ كلامِه للقيمة سيُسقِطه.
• إلحاحُ عبد القاهر على تفنيد قول القائلين إنَّ مَزِيَّةَ الكلام راجعةٌ إلى اللفظ يَدلُّني على أن هذا الرأيَ الفاسدَ كان مُسيطرًا على عقول الناس سيطرةً كاملةً، وأن المسألةَ قديمةٌ، حتى قالوا إن أبا تمَّام كان يَحتالُ ليأتيَ بجِناس، وأبو تمَّامٍ شاعرٌ مِن كبار شعرائنا وكِرامِهم، وبَقيت المسألةُ بعد إلحاح عبد القاهر، وبَقِينا نحن نقول إن البديع ينقسم إلى قسمين: مُحسِّنات معنوية ومُحسِّنات لفظية، مع أن عبد القاهر أوَّل ما بَيَّنَ بَيَّنَ أن الجناسَ حُسْنُه يَرجع إلى أمرٍ يَقع من المرء في فؤاده.
• ما أروعَ الفؤادَ الذي تَقعُ فيه مَعانٍ فيَستحسِنُها ويَبتهِجُ لها.
• قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}؛ أفضلُ نِعمةٍ ليست هي أن تؤمن، إنَّما أن يُحبِّبَ الله إليك الإيمان، وليست أن يُحبِّبَه إليك فقط، إنَّما أن يُزيِّنَه في قلبك؛ حتى تبقى المَحبَّةُ ما بَقِيت هذه الزِّينة، وهكذا العِلمُ: إذا رزقك الله حُبَّ العِلم وزَيَّنه في قلبك فلن تَدعَ الكتابَ مِن يَدِك.
• سيدُنا عُمر رضي الله عنه كان جليلًا حين قال: إذا حَبَّب الله إليك الدعاءَ فأبشرْ بأنه لا يُحبِّبُ إليك الدعاءَ إلَّا وقد أرادَ أن يَستجيبَ لك، وكذلك العِلمُ، وسأَسْمَعك تقول لي: «لقد شَغلَتْني شواغلُ الدُّنيا عن العِلم»، وسأقول لك: أنت صادقٌ؛ لأنها ما شَغلَتْك عن العِلم إلَّا لأنها عندك أهمُّ مِن العِلم، ولو أحببتَ العِلمَ ما شَغلَك شاغلٌ عنه، وإنَّما ستَجِدُ العِلمَ يَشغلُك عن كلِّ شاغل.
• قلتُ لكم قبل ذلك: انشغلوا بالعِلم وسيُسهِّل الله لكم أمرَ دُنياكم.
• يُعجِبني العالِمُ الذي يَنهمِكُ في طلب العِلم، ويَنهمِكُ معه مَن يَنهمِكُون مِن طُلاب العِلم في طلب العِلم، ولنَدَعْ «حلقة الطبَّالين» ونُغلقْ هذا البابَ؛ لأنه لا يأتي منه خيرٌ، وإذا تَكلَّمْنا فيه بما نرى فلن نُكلِّم الطلابَ في العِلم.
• أعجبني «مَالكٌ» جدًّا جدًّا، لا لأنه فقيهٌ مِن أكبر فقهائنا، وإنَّما لأنه عاشَ زمنَ بني أُميَّة وزمنَ بني العبَّاس، وكان الصِّراعُ بينهم شديدًا؛ فأغلقَ «مالكٌ» بابَه على نفسِه وكتب «المُوطَّأ»، ولو كان دخلَ في هذه المَعْمَعة لكان مصيرُه إمَّا أن يَضعَه بنو أُميَّة في السِّجن ويقولوا إنه إرهابيٌّ وخطرٌ على الأمن القومي، وإمَّا أن يَضعَه بنو العباس في السِّجن ويقولوا إنه إرهابيٌّ وخطرٌ على الأمن القومي، لكنه قال: «لا، الأُمَّة غيرُ مُحتاجةٍ إلى هذا الصِّراع، الأُمَّة مُحتاجةٌ إلى عِلم»، والشافعيُّ كان كذلك، وكثيرٌ من كبار علمائنا عاشوا في زَمنِ صراعاتٍ سياسيةٍ وابتعَدوا عنها.
• «المُوطَّأ» كان أفضلَ للأُمَّة مِن كلِّ حُكْمِ زَمَنِ بني أُميَّة ومِن كلِّ حُكْمِ زَمَنِ بني العبَّاس.
• تعليقًا على نَقْل الإمام عبد القاهر عبارةً عن أبي إسحاق الزَّجَّاج، قال شيخُنا: لمَّا تَجِد عبد القاهر بحَجمِه وغزارةِ عِلمِه يَرجع إلى أبي إسحاق الزَّجَّاج، ويُغرِي بقوله، تَعرِفْ أنتَ قيمة أبي إسحاق، ولاحِظْ أن هذا مِن صَميمِ تربيتك، أنا قلتُ لك: «لا بُدَّ أن تُخرِّج مَن هو أفضلُ منك»، ولن تُخرِّجَ مَن هو أفضلُ منك إلَّا إذا دَلَلْتَه على مَن هو أفضلُ منك، وهكذا عبد القاهر؛ يَدلُّنا على أبي إسحاق، وأنت إذا لم تكن تَعرِفُ عن أبي إسحاق شيئًا فيَكفيك كلمةُ عبد القاهر، ويَكفيك أن تتدبَّر كلمةَ أبي إسحاق.
• لا تَستهِنْ بثناء عبد القاهر على أبي إسحاق وتَظنَّه كلامًا عاديًّا، إنَّما الأمرُ أن عبد القاهر لو لم يُردْ لك أن تكون أفضلَ منه لما دَلَّك على مَن هو أفضلُ منه، وهذا إخلاصٌ للعلم وليس إخلاصًا للذَّات، ولذلك في هذه الأُمَّة لم أجِدْ أنانيًّا انتُفِعَ بعلمه؛ لأن الأثَرَةَ تُفسِد العلم، وإنَّما أجِدُ كلَّ مَن نَفعَ اللهُ بعلومهم قومًا أنكروا ذَوَاتهم، ولو لم يُنكرْ عبدُ القاهر ذاتَه لمَا دلَّك على مَن هو أفضلُ منه.
• «أنا ومِن بعدي الخرابُ»، «أنا أعلمُ أهلِ مصر»، «ليس في البلاد مَن يَشغَلُ مكانَ زيد بن عمرو».. هذا كلامٌ فاشلٌ نَعيش فيه مُنتَمٍ إلى التخلُّف.
• الذي يقول: «أنا ومِن بعدي الخرابُ» هو الخَرابُ عَينُه.
• البلادُ لا بُدَّ أن تكون عامرةً، وكلُّ قيمةٍ عاليةٍ لا بُدَّ أن تكون لها بدائلُ لا بديلٌ واحد؛ في الحرب، وفي السِّلْم، وفي الصِّناعة، وفي الزِّراعة، وفي الطبِّ.. إلخ.
• الانكفاءُ على الذَّات إرثُ المُتخلِّفين.
• عَزْلُ سيِّدنا عُمرَ رضي الله عنه سيِّدَنا خالد بن الوليد رضي الله عنه - وقولُه لمن حدَّثه في ذلك: «هَبْهُ ماتَ» إنَّما أراد بذلك أن يَنزعَ من الأُمَّة الشجرةَ الخبيثةَ التي تقول: «ليس في البلاد مَن يَشغَلُ مكانَ زيد بن عمرو»؛ حتى يَستحْيِيَ مَن يُحبُّ أن يُقال له: «ليس في البلاد مَن يَشغَلُ مكانَ زيد بن عمرو».
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين