بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يدعونا الله تعالى إلى توحيده وتمجيده، إلى عبادته وقربه، إلى شكره وذكره: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: ٢٠٠].
يرشد عباده إن حادوا، وينبههم إن غفلوا، ويذكرهم إن نسوا. لماذا؟! لكي يستقيموا إلى ربهم، ويتطهروا من ذنوبهم، وينصروا دينهم، ويستمروا في طريق إيمانهم الذي رسمه الله لهم: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
ويقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾ [القصص: ٨٣].
أي: لا علو إلا بالطاعة، ولا تفاخر إلا بالتقوى، ولا إصلاح إلا بالاتباع.
إن التحصن بالقوة من دون الله ضعفٌ، والتحصن بالمال من دون الله فقرٌ، والتحصن بالعزوة من دون الله عزلةٌ. أما التحصن بالله عز وجل فهو القوة والغنى والعزوة...!!
أعداء للدين والإنسانية غرتهم قوتهم في التطاول على الشعوب المستضعفة، فهوت بهم في وَحْلِ الانكسار وطين الخبال. و«فيتنام» وغَزَّةٌ منا ببعيد!!
والمختال الفخور يخرج من حب الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: ١٨].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد".
إن العجب والتفاخر والمباهاة من الآفات الخطيرة التي يمكن أن تصيب نفس الإنسان، فتصرفه عن الثناء على المنعم عز وجل إلى طلب الثناء من الناس بما لا يستحق، وتشغله عن الانكسار والخضوع لله الخالق الرازق بالتكبر والتعالي على خلق الله. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات: شُحٌّ مُطاعٌ، وهوىً متَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه". وفي بيان خطورة تلك الآفات على الفرد والمجتمع...
والمسلم الحق لا يتفاخر بالأنساب، ولا يتنابز بالألقاب، ولا يتذاكر بالأحساب، كلا!! وإنما يتجه إلى ربه فيعبده وحده لا يشرك به شيئًا. إذا أمره ينفذ، وإذا ناداه يسمع، وإذا نصحه ينتصح. وما حدث في أعقاب فريضة الحج؛ عندما فرغ الناس من أعمال الحج تفاخروا بأنسابهم وألقابهم؛ هذا يقول: أنا ابن فلان، وهذا يقول: أنا من قبيلة فلان، وهذا يقول: عشيرتي فلان. وذلك ما يمقته الدين ويبغضه الإيمان، وهذا ما يغضب الرحمن!
يجب أن يعتز الناس بإسلامهم، ويتذاكروا بعقيدتهم، ويفتخروا بخالقهم ورازقهم: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: ٢٠٠].
ورحم الله تعالى من قال:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ
إن افتخروا بقيسٍ أو تميمِ!
أما المفاخرة بغير الله:
دَعُوكم منها! اترُكوا هذه المنابذات، تجنبوا المناوشات، وعودوا إلى ربكم فاذكروه واعبدوه. ادعوه وترسموا طريقه من جديد ولا تحيدوا عنه. الله هو الراشد الهادي، هو المانع المانح، هو الخالق الرازق، هو المحيي المميت، هو المعز المذل. لا تطيب الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الحياة إلا بشكره، ولا تطيب الآخرة إلا برؤيته.
لا تجدي تكنولوجيا دون الله، ولا تنفع قوة بدون الله، ولا تبقى حياة ناعمة أو طاعمة مطمئنة بدون الله..!!
هؤلاء اغتروا بقوتهم وتفاخروا بأموالهم وجماعتهم فكان السقوط مصيرهم!!
١– هذا مشركٌ (الوليد بن المغيرة) رزقه الله تعالى مالًا وولدًا: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا﴾ [المدثر: ١١–١٥].
بدلًا من أن يسمع لربه وينقاد لنبيه، سمع لأصدقاء السوء. فكان يغتر بماله ويتفاخر بأولاده وأحفاده. ماذا كانت النتيجة؟!
توعده الله تعالى وأنزل فيه: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: ٢٦–٣٠].
أي: سأدخله جهنم كي يصلى حرَّها ويحترق بنارها، فهي لا تبقي لحمًا ولا تذر عظمًا إلا أحرقته.
٢– هؤلاء (عاد قوم هود) افتخروا بقوتهم: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: ١٥].
استعلوا في الأرض على العباد بغير حق، وقالوا في غرور: مَن أشد منا قوة؟!
لغرورهم وجهلهم نسوا قوة الله الذي خلقهم ورزقهم، وكانوا بآياته الدالة على قدرته ووحدانيته يجحدون، ويعاندون وينكرون الحق الذي جاءتهم به رسلهم.
استكبروا في الأرض بغير الحق. اغتروا بما بين أيديهم من نعم، وقالوا على سبيل التباهي والتفاخر والتكبر: «مَن أشد منا قوة؟»!.
فرد الله عليهم بصفعة قوية ولطمة شديدة: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: ١٥].
ماذا كانت النتيجة؟! عذاب في الدنيا وعقاب مخزٍ في الآخرة: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ﴾ [فصلت: ١٦].
٣– وهذا (صاحب مؤمن الكهف) أعطاه الله جنتين من أعناب وأحاطهما بسياج من نخيل وجعل بينهما نهرًا. وعندما كان له ثمر ولم ينقص منه شيء، لم يؤمن بخالقه ولم يشكر رازقه، وإنما قال لصاحبه (المؤمن التقي) وهو يحاوره: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: ٣٤].
اغتر بماله واعتز بولده، بل كفر باليوم الآخر: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ [الكهف: ٣٦]. وفوق ذلك ظن أن غناه في الدنيا سيلحقه في الآخرة: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٦]. ماذا كانت النتيجة؟! ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٢].
الذي يتبعك في الآخرة هو إيمانك لا كفرك وجحودك. كيف؟! ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: ٢١].
٤– وهذا أجهل الجاهلين (أبو جهل اللعين)، في موقعة بدر تفاخر بالعدد والعدة، بل افتخر بالأكل والشرب والغناء المبتذل والرقص – كحال الكثيرين الغافلين المفتونين في كل وقت وحين – وقال: «لا بد أن نرد بدر فننحر الجزور ونشرب الخمور ونسمع القيان، ولا تزال تهابنا العرب!».
وخرجوا من ديارهم بطرًا وشرًّا وحقدًا ورئاء الناس: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: ٤٧].
هم يومئذ أكثر من ألف، اغتروا بعددهم. والمؤمنون ثلاثمائة أو يزيدون قليلًا، اعتزوا بربهم. ماذا كانت النتيجة؟! إحقاق الحق وأهله، وقطع دابر الباطل وأهله: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ٧]. إنهم هزموا شر هزيمة، ونصر الله المؤمنين المتواضعين أول نصر وأعظم نصر: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: ١٢٣].
وهكذا يكون الهلاك والبوار من نصيب المغترين بغير خالقهم، المفتخرين بغير رازقهم، الكافرين بربهم. أما العبد الذاكر لربه، المسبح بحمده، المتوجه إليه، المتوكل عليه – يكون عند ربه مذكورًا، ويكون سعيه مشكورًا، ويكون عمله مبرورًا. وكلما زاد في ذكره زاد الله في أجره، وشَدَّ من أزره، وكان إليه بكل خير أسرع. كيف؟ قال الله تعالى: "إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإذا تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولةً" (رواه السيوطي في الجامع الصغير).
في غزة الأبية اعتزوا بدينهم، وافتخروا بالانتساب لربهم. أحدثوا بفضل الله معجزات تطاول السماء، ويتعجب منها أهل الأرض أمام الغطرسة الأمريكية الرخيصة، والصلف الصهيوني المقيت، والخذلان العربي الفَجّ، والصمت الإسلامي المعيب. بلا عدد ولا عتاد استطاع أبطال غزة أن يوقفوهم عند حدهم، يفرضون عليهم شروطهم، كسفوهم عند شعوبهم. عامين تقريبًا من الحرب الطاحنة والدمار الشامل، لكن لم يحققوا هدفًا من أهدافهم أمام صمود الأبطال في غزة الأبية وفلسطين الوفية.
إن الفخر الحقيقي والشرف العالي والانتماء العميق أن تكون من دعاة الخير وحماة الدين ورعاة الإسلام: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣].
اللهم خُذْ بنواصينا إليك، أخذ الكرام عليك. اللهم اهدنا سبيلك، وقنا عذابك، واجعلنا لك ذاكرين شاكرين منيبين مخبتين، وبك معتزين مفتخرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين