بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحاط علمه بكل خفيّ، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
هل تظن أن ما فاتك كان خيرًا؟
هل تُخفي في قلبك أمنية لو أن الأمر جرى على غير ما كان؟
هل شعرت بوخز الندم على ما جرى، وتساءلت: "لماذا حدث هذا؟"، وراودك خاطر خفي: "لعل غيره كان أصلح؟"
إنه سوء ظن بالله، وإن لم تتلفظ به، وإن لم يطّلع عليه غيرك، فإن الله يعلم ما توسوس به نفسك.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾.
فلا تظن أن تلك الخواطر تمرُّ مرور الغيم، بل تُكتب وتوزن، وتؤاخذ إن لم تُبادر إلى الاستغفار والتوبة.
أحدهم سُئل: ما تشتهي؟ فقال: "أشتهي ألا أشتهي."
كأنما أراد أن يكون قلبه صافيًا من الإرادة، ساكنًا بين يدي قدر الله، لا يعترض ولا يتمنى غير ما كان.
وابن القيم رحمه الله يقول: "والمحب لا يُريد مع محبوبه شيئًا، بل إرادته تابعة لإرادته، ومشيئته مسلّمة لمشيئته."
هذا هو مقام الإحسان في الظن، أن ترى كل ما يقضيه الله خيرًا، حتى وإن تألمت، حتى وإن بكيت، حتى وإن لم تفهم.
ثم تأمّل هذا الحديث العظيم: ((أنا عندَ ظَنِّ عَبدي بي ؛ فَلْيَظُنَّ بي ما شاء)).
الله جلّ وعلا، رب السماوات والأرض، يعرّفك بنفسه، يقول لك بلسان القرب: أنا عند ظنك.
فما ظنك؟
هل تظن أن الله يبتليك ليكسر قلبك فقط؟
هل تظن أن التأخير في الرزق، أو الزواج، أو الشفاء، أو الفرج... مجرد عبث؟
وأصل الظن عمل قلبي، خفيّ دقيق، لا يطلع عليه أحد، لكنه عند الله معلوم من لحظة نشأته، قبل أن تهمس به، قبل أن تصوغه في جملة.
أبو سفيان يوم فتح مكة، قبل أن يدخل الإيمان إلى قلبه تمامًا، نظر إلى كتائب النبي ﷺ تدخل مكة، الكتيبة تلو الكتيبة، في موكب مهيب لم تشهد له مكة مثيلًا.
فجال بخاطره خاطر... فقط خاطر!
"لو جمعت رجالًا وقاتلت محمدًا... "
لم ينطق، لم يُسرّ، لم يُشاور، بل فكّر فقط.
فإذا برسول الله ﷺ يضع يده على كتفه ويقول:
((إذًا يخزيك الله يا أبا سفيان)).
فقال مذهولًا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك أحد قط!"
فمن أخبره؟ من أطلعه؟
إنه الله الذي يعلم خفايا النفوس، وخبايا الصدور، وخطرات القلوب.
فلا تستهِن بخاطرةٍ تُخفيها عن الناس، ولا تقُل: "هو مجرد تمني"، أو "أنا لا أقصد"، فإن سوء الظن بالله يبدأ بخاطر، ثم ينمو حتى يصير شكًا، ثم اعتراضًا، ثم شقاءً لا يُرى سببه إلا من عرف الطريق.
علاج ذلك أن تُعيد ترتيب قلبك، أن ترجع إلى أصل الحديث:
((أنا عندَ ظَنِّ عَبدي بي؛ فَلْيَظُنَّ بي ما شاءَ)).
فأحسن الظن، يأتك الخير، واطمئن لقضاء الله، تنل السكينة، ولا تكن ممن يُعطى فيُسخط، ويُمنع فيغضب، ويُبتلى فيتأفف.
بل كن عبدًا إذا قال الله له: "كن"، قال: "رضيت."
وإذا أماته الله عن أمر، علم أن الحياة فيما أبقاه له، وإذا حرمه، فهم أن العطاء في المنع.
كن عبدًا يقول كما قال أهل الإيمان: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾.
لا علينا، بل لنا... في الخير، في البلاء، في التأخير، في كل شيء.
فيا عبدالله، لا تسُئ الظن بمن لا يأتي منه إلا الخير.
وإياك أن تُبقي في قلبك ظنًّا يكسوه الاعتراض، فإنك بين يدي الله، والله لا يخفى عليه شيء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين