الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كثيرًا ما يُواجه العالمَ وطالبَ العلم والمربّيَ مواقفُ من الناس، وفي بعضها إساءةُ أدب، وكثيرًا ما يسمع من بعضهم كلامًا بذيئًا، ويلقى معاملةً فيها حدّة وعجلة وغضب.
وطالب العلم ينبغي له أن يكون متأدّبًا قبل أن يؤدّب غيره، وآمرًا نفسَه بالمعروف وحسْن الأخلاق قبل أن يأمر غيره.
وإذا لم يحتمل سوءَ أخلاق الناس فلماذا تعلّم العلم؟
وسأذكر موقفًا لأحد طلاب العلم، تعامل فيه مع من أساء إليه، لعله يكونُ نافعًا وهادفًا.
أرسل له سائلٌ درَس العلم الشرعيّ في إحدى الجامعات سؤالا، يطلب منه مالا لمساعدة بعض المحتاجين.
فأجابه: لا أستطيع، وليس لي تواصل مع التجار، وفّقك الله لكل خير.
ولا ينبغي الإلحاح في المكالمات الصوتية وتكرارها وفقك الله.
فردّ عليه السائل: والسبب ماذا؟ ألست داعية الإسلام؟
لا مانع من الإلحاح إذا كان للحاجة والاستفسار.
ولن أرسل لك بعد اليوم رسالة، وسأمسح رقمك.
فأجابه: لكني لن أمسح رقمك ولو مسحت رقمي، ولن أقاطعك ولو قطعتني..
لأنك أخي في الإسلام، وأنا لا أنتقم لنفسي، ولا أنتصر لهواي، بل أجو - وأسعى - أن أنتقم لله، وأنتصر لله..
ونصيحتي لك يا أخي: إيّاك أن يستفزك الشيطان.
نحن إخوةٌ في الإسلام، والإخوةُ في الإسلام قد يقع بينهم ما يقع بين الإخوة في النسب، وأنا قد تأدّبت معك، فلم أُخاطبك بقسوة، ولم أقل: إنك قليل الأدب، وإنما طلبت طلبًا بهدوء ورفق، ودعوت لك، فقلت: أرجو ألّا تُلِح، وفقك الله لكل خير.
فهل في هذا إساءة إليك؟
انتبه من الشيطان يا أخي، واللهُ تعالى يكره الغضبَ والانتصارَ للنفس بغير حقّ، ويحب مكارم الأخلاق محبةً عظيمة، ويأمر بها كثيرًا، ويأمر بها النبي ﷺ، يقول الله تعالى: {خُذِ العَفْوَ}: أي خذ ما عفا من أخلاق الناس وما تيسّر.
ويقول سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}.
ويقول بعدها: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.
ثم يقول: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
يعني: لو فُرض أنني أسأت إليك، فإن الله يحب أن تُحسن إليّ، فكيف وأنا لم أُسئ إليك أصلًا! إنما طلبت منك طلبًا، ودعوت لك، فأنا أحسنت إليك، ولم أُسئ، فهل جزاء من أحسن إليك أن تُسيء إليه وتُقاطعه؟
هل يجوز لك شرعًا أن تُقاطع أخاك وتمسح رقمه لأنه طلب منك طلبًا؟
يا أخي، أين العمل بالعلم؟
نحن نتعلّم العلم لنعمل به، ونتعامل مع الناس برفق، وأنا طلبت هذا لأن هذا هو السنّة، والنبي ﷺ أمرنا: إذا طرق أحدنا الباب، أن يطرقه ثلاثًا فقط، ولا يزيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع". [رواه مسلم: 2159].
وأنت الآن اتّصلت بي أكثر من مرة، وأرسلت لي رسالة، ثم رسالة أخرى، ثم مكالمة صوتية، وهنا وفي التليغرام أكثر من مرة، وهذا خلاف السنّة.
إذًا، أنا آمُرك بهذا لأن هذا هو سُنّة رسول الله ﷺ، والمفترض أن تقول: جزاك الله خيرًا أن ذكّرتني ونبّهتني.
إني لك ناصح، يا أخي، الله الله بمكارم الأخلاق، الله الله باللين والعفو والتماس الأعذار، الله الله بالأدب.
يقول ابن القيّم: *الأدب هو الدين كله*.
ولو مسحت اسمي يا أخي، فلن يضرّني شيء، لكني أترفّع عن هذا، لأن الإسلام هو الذي يحكمني، أنا لا أحكم نفسي، ولو كنتُ أحكم نفسي، لقلت: امسح رقمي، ولا يهمّني شأنك، لأني لن أخسر شيئًا، فأنا لا أحكم نفسي، إنّما أنا محكوم، يحكمني ربّي، فربّي يأمرني الآن أن أُنبّهك وأُناصحك، *الدينالنصيحة*، فنصحتُك الآن.
لا تفعل مثل هذه الأخلاق، لا معي ولا مع غيري.
كن لينًا، اعفُ عن الناس، والتمس الأعذار لهم، ولا تكن منتقمًا لنفسك، ولا غضوبًا، فهذه صفات يكرهها الله.
والأخلاق الحسنة عند الله عظيمة.
وقد ذكر النبي ﷺ أنه ضامنٌ للرجل ببيت في أعلى الجنة، لمن؟ لمن حسُن خُلقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".
فأين الأخلاق الحسنة، يا أخي؟
الأخلاق الحسنة هي: كفّ الأذى، واحتمال الأذى، وبذل المعروف، وطلاقة الوجه.
ولا تسمح للشيطان أن يستولي عليك، وأنت طالب علم، أنت قدوة، والدعوة إلى الله ليست بأقوالنا فقط، وإنما بأفعالنا وأخلاقنا، إني لك ناصحٌ أمين، أخي الحبيب.
فأرسل له السائل: كلماتك دخلت إلي قلبي، جزاك الله خير الجزاء شيخي الكريم.
فأجابه: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
ذلك من فضل الله عليّ وعليك.
فضل الله علي لأنه وفقني للنصيحة.
وفضل الله عليك لأنه وفقك لقبولها والعمل بها.
وبهذا أرضينا ربنا، وأغضنا عدونا، وهو الشيطان الرجيم.
انتهت القصة.
وأقول: إنّ الإنسان عندما يُوجهه أحدُ الناس بمثل هذه الإساءة فإنّه يشعر بالغضب، وتؤزّه نفسه أن ينتقم لها أزًّا، ويُجلب عليه الشيطان ويحثّه على أن ينتقم لنفسه ويردّ على المسيء بغلظة.
لكنه يقول لنفسه: إنّ ربي يحبّ مني أن أحسن إلى من أساء إليّ، وأنت تحبين أن أنتقم لك، فمن أطيع؟
لن أطيع إلا ربي، ولن أرضيكِ وأخالف ما يُحبه ربّي..
إنه يرجو من الله أن يكون ممن قال فيهم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
أسأل الله أن يجعلنا منهم بمنّه وكرمه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين