بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
1- متى ظهرت الفتاوى بالحيل في الإسلام؟
بين ذلك ابن تيمية فقال: (أما الإفتاء بها وتعليمها للناس وإنفاذها في الحكم، واعتقاد جوازها فأول ما حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المئة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها ولله الحمد حيلة واحدة تؤثر عن أصحاب رسول الله ﷺ، بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سُئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموا وزجروا عنه). "بيان الدليل".
2- لماذا ذم السلف «الحيل» ذمًا شديدًا؟
مثل: حيل إرجاع المطلقة ثلاثا، أو الحيل الربوية، أو غيرهما من أنواع الحيل.
السبب قوله تعالى: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.
وأصحاب الحيل يكتمون قصد مخالفة حقيقة الحكم الشرعي (ولو غالط نفسه وزعم أنه لا يخالف). كأنه لا يعلم أن الله يعلم ما يكتم؟!
وهذا يخالف تعظيم الرب وخشيته، وهذا معنى قول أيوب السختياني:
« يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي». وهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنهم يخادعون.
ولهذا قال ابن تيمية عن أصحاب الحيل الربوية: «وقلوبهم تشهد بأن هذا الذي يفعلونه مكر وخداع وتلبيس».
3- هل يمكن أن يخدع الإنسان «نفسه»؟
نعم، بكل تأكيد، وهو موجود بين الناس بكثرة، وأشارت له السنة.
قال النبي ﷺ: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
قال ابن تيمية معلقا على الحديث: وهذا على نوعين:
أحدهما: أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس.
والثاني: فيما بينه وبين ربه بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسنا وهي خائنة ظالمة لها أهواء خفية قد كتمتها. مجموع الفتاوى (14/ 445).
كثيرٌ من الناس يبرر لنفسه ويدافع عنها ويعتذر لها....والسبب أن نفسه خدعته بسبب الهوى فذهب يجادل عنها بالباطل.
4- أحاديث في إبطال الحيل:
- «من يُخادع الله يخدعه».
صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من يُخادع الله يخدعه".
والمقصود: أن من يستعمل الحيل في تحليل ما حرمه الله فإنما يخدع نفسه؛ لأن عاقبة أمره إلى العقوبة.
- «من روائع فقه البخاري»: قال البخاري: (باب في ترك الحيل): وذكر تحت الباب حديث:
- "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى".
والمعروف أن هذا الحديث في العبادات لكن البخاري عمم دلالته بحيث يشمل المعاملات.
والمعنى: ذم من كانت نيته وقصده الخفي من كلامه على معاملة من المعاملات المحرمة تحليلها بالحيل، وأنه سيحاسب على ذلك.
والخطير في الأمر: أن هذه النية قد تخفى على الإنسان من نفسه أحيانًا.
- في حديث خيار المجلس: "لا يحل لواحد منهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله".
علق الإمام أحمد عليه بقوله: فيه إبطال الحيل.
5- نصيحة لمن يحتال لعدم وجوب الزكاة، بالبيع مثلًا حتى ينقطع الحول.
أقول لهم نصيحة: لا تتعب نفسك بهذه الحيل: (فمَن يحتال لإسقاط الزكاة) يساوي تمامًا (مَن لا يخرج الزكاة بعد وجوبها).
بمعنى أن هذه التصرفات كلها مجرد تعب وجهد لا فائدة منه.
6- (الحيل لا تسقط الواجبات):
قال العلامة الحجاوي: «ولو أكثر من شراء عقارٍ فارًّا من الزكاة، زكَّى قيمته».
قال العلامة المرداوي: «وهو الصواب؛ معاملةً له بضدِّ مقصوده، كالفارِّ من الزكاة ببيع أو غيره».
7- قال الإمام سفيان الثوري -رحمه الله-: «إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، وأما التشديد فيحسنه كل أحد».
كم ظُلمت هذه الكلمة، وحُمِّلت ما لا تحتمل من المعاني التي لا تناسب فقه الثوري ولا مقاصده.
والمعنى الصحيح لهذه الجملة: أن التشديد والمنع احتياطًا بدون تفقه في الشرع، ولا نظر في الأدلة، أمرٌ سهلٌ للغاية وكل يحسنه.
أما العلم النافع فهو الرخصة التي عرفها العالم بعد دراسة النصوص، دراسة علمية حقيقة، تَبين له بعدها وجود رخصة من الشارع لا شبهة فيها، ولا تجر إلى مفسدة، ليخلص بها السائل من ضيق وقع فيه.
وهذا المعنى أبعد ما يكون من تتبع الرخص. وأبعد ما يكون عن الحيل الفقهية.
8- من علامات ضعف طالب العلم وقلة فقهه: كثرة تجويزه للحيل في المعاملات.
قال ابن تيمية: «كلما كان المرء أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره عن الحيل أشدّ».
9- من روائع ضوابط ابن تيمية في المعاملات: قال -رحمه الله -:
وجماع الحيل نوعان:
«إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود». الفتاوى الكبرى (4/ 19).
وهذا الضابط يلخص منهج ابن تيمية في حيل المعاملات، ولو استعملت هذا الضابط في بعض الصور المعاصرة لعرفت حكمها.
10- حقيقة حيل المعاملات المالية: أنها رد للنصوص الدالة على منعها.
ومن هنا تأتي خطورتها على المحتال.
ولهذا قال أبو داود: سمعت أحمد وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقال:
«يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم».
11- قصة طريفة: (حيلة لكن لتحقيق الورع).
حماد ابن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت؛ كان على مذهب أبيه، وكان من الصلاح والخير على قدم عظيم.
ولما توفي أبوه كانت عنده ودائع كثيرة من ذهب وفضة وغير ذلك وأربابها غائبون وفيهم أيتام.
فحملها ابنه حماد إلى القاضي ليتسلمها منه. فقال له القاضي: ما نقبلها منك ولا نخرجها عن يدك فإنك أهل لها وموضعها.
فقال حماد للقاضي: زنها واقبضها حتى تبرأ منها ذمة أبي حنيفة، ثم افعل ما بدا لك. ففعل القاضي ذلك وبقي في وزنها أيامًا، فلما كمل وزنها استتر حماد فلم يظهر حتى دفعها إلى غيره.
12- الخيانة في العلم تورث نسيانه: قال ابنُ القيم رحمه الله:
(سَمِعتُ رجلًا يقولُ لشيخِنا ابنِ تيمية: إذا خان الرجلُ في نقد الدَّراهم سَلَبَه اللهُ معرفةَ النَّقد، أو نَسِيَه. فقال الشيخُ: هكذا مَنْ خان اللهَ تعالى ورسولَه في مسائلِ العلم).
أي: ينسيه الله إياه.
فمن خيانة العلم: عدم النصح لطالب العلم.
ومنه: اتباع الهوى.
ومنه: استعمال العلم تعصبا لعالم لا لنصرة الحق.
ومنه: استعمال العلم في تتبع الرخص.
ونحو ذلك.
13- وجاء في الحديث الذي فيه ضعف: «تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانة في ماله وإن الله سائلكم يوم القيامة».