لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة

128
3 دقائق
5 صفر 1447 (31-07-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

مباحثة في نوع المخصِّص لعموم حديث: "لا يصلّين أحدكم العصر إلا في بني قريظة":

قال ابن النجار رحمه الله:

وفعل الفريقين من الصحابة إذ قال النبي لهم لما فرغ من الأحزاب، وأمَرَه جبريل عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني قريظة: "لا يصلينَّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة". يرجع إلى تخصيص العموم بالقياس وعدمه؛ فإنه لما ذُكِر له: أنّ طائفة صلت في الطريق في الوقت، وطائفة صلت في بني قريظة بعد الوقت: لم يعب طائفة منهما.

فمن أخَّر الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة، أخذ بعموم قوله: "لا يصلِّينَ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة".

ومن صلّى في الوقت قبل أن يصل إلى بني قريظة، أخذ بأن المراد بقوله ذلك: التأكيد في سرعة المسير إليه، لا في تأخير الصلاة عن وقتها... انتهى من (شرح الكوكب المنير).

أقول:

ظاهر كلام ابن النجار أنّ تخصيص عموم الحديث هنا وقع بالقياس، فهل ذلك كذلك أم في الكلام تجوُّزٌ ما؟ وإن كان فما هو؟

هذا يشبه أن يكون وهمًا من المؤلف رحمه الله في التمثيل، أي في أن يكون هذا الحديث مثالا على تخصيص العموم بالقياس، فإنه لا يطابق صورة المسألة.

وصورة مسألة تخصيص العموم بالقياس:

أن يرد عموم النصِّ بحكم، ثم يُخرِج المجتهد من العموم صورةً بقياسها على نصٍّ آخر.

مثاله:

قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة... }.

فقوله: (الزاني) اسمٌ عامٌّ يشمل الحر والعبد.

و(الزانية) اسمٌ عامٌّ يشمل الحرة والأمة.

لكن خرجت الأمة من العموم بدلالة نصٍّ آخر هو المخصِّص، وهو قوله تعالى: {فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.

فصار حد الأمة إذا زنت على نصف حد الحرة.

فهذا تخصيص عموم نصٍّ بنص آخر.

ثم قسنا العبد على الأمة في تنصيف الحد؛ فأخرجناه من عموم اسم (الزاني) في الآية، بدليل القياس.

فهذا تخصيص عموم النصِّ بالقياس.

- فالأمة خرجت من عموم لفظ (الزانية) بالنص.

- والعبد خرج من عموم لفظ (الزاني) بالقياس على المنصوص وهو الأمة.

فهذه صورة التخصيص بالقياس.

وبهذا يتبيّن أنه ليس في هذا الحديث -حديث صلاة العصر في بني قريظة- تخصيصٌ للعموم بالقياس.

ويبقى كلام المصنّف مشكلا:

- فإما أن يكون هذا وهما محضًا من المؤلف، كما يجري هذا للمصنفين.

- وإما أن نحمله على التوسُّع؛ فنحمله على أنه أراد التخصيص بالعلة وعبَّر عنها بالقياس، كما يجري التوسُّع في مثل هذا؛ لأن التخصيص في هذه الواقعة راجع إلى معنى الخطاب ومقصده ومخرجه، وسياق شرح ابن النجار للمسألة دالٌّ على أنَّ التخصيص إنما وقع بالعلّة؛ فإنه قال:

(ومن صلّى في الوقت قبل أن يصل إلى بني قريظة، أخذ بأن المراد بقوله ذلك التأكيد في سرعة المسير إليه، لا في تأخير الصلاة عن وقتها)؛ فهذا معنى راجع إلى فهم الخطاب وتعليله.

ومعنى التخصيص بالعلة:

أن يرد نصٌّ عام، فيستخرج منه المجتهد علة، تعود عليه بالتخصيص، فيخرج من عمومه بعض الصور؛ بدلالة العلة.

مثاله:

قوله : "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".

فهذا النهي نهي عام يدخل فيه عموم الأسفار؛ لكون السفر نكرة في سياق النفي فيعم، فيدخل فيه السفر الآمن وغير الآمن.

فيأتي بعض المجتهدين فيعلل الحديث، فيقول: للحديث معنى وعلة، وهو حفظ المرأة وصيانتها من التعدي على عرضها في السفر؛ وهذا المعنى إنما يوجد في نوع معين من السفر، وهو السفر المخوف دون الآمن؛ فيخرج من عموم الأسفار: السفر الذي لا تخاف فيه على نفسها، فيباح لها السفر فيه بغير محرم.

فهذا تخصيص للعموم بمعناه المستفاد منه، أي علته (=الحكمة المقصودة).

وهذا الذي وقع في حديث: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فإنَّ من صلَّى في الطريق من الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الخطاب معنى ومقصودا وهو: التعجيل وسرعة المسير؛ وكان عموم النهي عن الصلاة إلا في بني قريظة يحتمل صورتين:

- الصلاة في بني قريظة قبل خروج الوقت.

- والصلاة في بني قريظة بعد خروج الوقت.

فكلُّ أحد عليه أن يصلي العصر في بني قريظة، سواءٌ أدرك الوقت أم لم يدركه.

فأخرجوا من العموم صورة الصلاة في بني قريظة بعد خروج الوقت لمن لم يدرك، وقالوا: ليست هذه الصورة مرادة، بل المراد التعجيل، وأما الصلاة فإنها على وقتها، فلو أمكن أداؤها في وقتها في بني قريظة؛ حصل الوفاء باللفظ والمعنى، وإن لم يمكن أداؤها في الوقت في بني قريظة؛ فإنها تؤدى في وقتها قبل الوصول إلى بني قريظة؛ تقديما للمعنى على اللفظ؛ لأن المعنى هو التَّعجيل، وهذا حاصلٌ بالإسراع، والصلاةُ في وقتها قبل بلوغ بني قريظة لا تخل بحكمة التَّعجيل.

فالأقوى: أنهم فهموا التخصيص من سياق الخطاب وتعليله ومقصده. والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق