بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، يوم الأحد: 11 من المحرم 1447 ه الموافق ل 6 من يوليو 2025 م:
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «وفي الاستعارة علمٌ كثير، ولطائفُ مَعانٍ، ودقائقُ فُروق»، قال شيخُنا: قال عبد القاهر إن في الاستعارة علمًا كثيرًا، ولطائفَ مَعانٍ، ودقائقَ فُروق، والذي قاله عبد القاهر في الاستعارة بعد ذلك لا يُساوي الذي ذَكَره فيها في هذا السَّطر؛ لأن الذي قاله فيها بعد ذلك هو: «الاستعارة المكنية والتصريحية» ولا شيءَ أكثر من هذا، إنَّما مسألة أن الاستعارة فيها علمٌ كثيرٌ لا يجوز أن تَمرَّ على طالب العِلم مِن غير أن يَسأل: أيُّ علمٍ كثيرٍ في الاستعارةِ والاستعارةُ إمَّا تصريحية وإمَّا مكنية، والتصريحيةُ إمَّا أصلية وإمَّا تبعية؟ فوقفتُ أسألُ عن العلم الكثير الذي يمكن أن نَجِدَه في الاستعارة، والذي لم يتكلَّمْ عنه العلماءُ الكرامُ ولم يَشرحوه، ووَعَد عبد القاهر بأنه سيتكلَّم فيه ولكنَّه لم يتكلَّم فيه؛ فلم أجدْ في الاستعارة علمًا كثيرًا إلَّا في تَنوُّع الاستعارات في الشِّعر والأدب والكلام العالي، وأن المتكلِّمَ الواحد، والشاعرَ الواحد، والأديبَ الواحد، تَتنوَّع استعاراتُه، وأنني إذا وازنْتُ بين استعاراتِ «النَّابغة» سأجِدُ بينها فروقًا، وسأجِدُ لها تَنوُّعات، وإذا تَركتُ الشاعرَ الواحدَ ووازنتُ بين استعاراتِ «النَّابغة» واستعاراتِ «زُهير» أو استعاراتِ «امرئ القيس» أو استعاراتِ «البحتري» أو استعاراتِ مَن شئتَ من الشعراء، سأجد تَنوُّعاتٍ كثيرةً جدًّا، وإذا مَضَيْتُ مع الزَّمن ووازنتُ بين استعاراتِ الجاهليين واستعاراتِ مَن جاؤوا بعدهم سأجد فيها تَنوُّعاتٍ لا حَصْرَ لها، حتى أصلَ إلى زماننا هذا الذي نحن فيه، وأنظر في قصَّة هذه الاستعارات؛ ما السِّيرة الذاتية لهذه الاستعارات في هذا اللِّسان المُبين.
• تصنيفُ الاستعارة الذي ذكرَه عبدُ القاهر لم يَزِدْ عليه أحدٌ مِن الذين جاؤوا بعده.
• العلماءُ بعد عبد القاهر فيهم رجالٌ في مستوى عبد القاهر.
• عرَفْنا الاستعارةَ التصريحيةَ والمكنيةَ وطبَّقناها، مع أنها عند الشاعر الواحد متنوِّعةٌ جدًّا على حسب المقامات، وعند شعراء الزمان الواحد متنوِّعةٌ جدًّا على حسب المقامات، وعند شعراء الأزمنة المختلفة أشدُّ تنوُّعًا.
• قولُ عبد القاهر: «وفي الاستعارة علمٌ كثير، ولطائفُ مَعانٍ، ودقائقُ فُروق»، هذا السَّطرُ يُوجِب علينا أن نَدْرُسَ الاستعاراتِ عند كلِّ شاعر، وعند كلِّ أديب، وعند كلِّ بليغ، وأن نُلاحِظَ ما نَرى فيها من اختلافٍ وتَنوُّع. هذا السَّطرُ يقول فيه عبد القاهر لنا: ادرسوا الاستعارة في الألسنة المختلفة وفي الأزمنة المختلفة وستجدون علمًا جليلًا جدًّا جدًّا.
• التعريفات العامَّة للاستعارة؛ المكنية والأصلية، التي ذكرَتْها الكُتب، جيدةٌ جدًّا، ولكنْ وراءها تفاصيلُ لا حَصْرَ لها.
• أنا مِن المُحبِّين لمعرفة الاختلافات ومِن أين تأتي، وقرأتُ - فيما قرأتُ - كلامًا راقني جدًّا وهم يتكلَّمون عن تطوُّر الشِّعر في العصور المختلفة؛ ذكَرُوا أن الشِّعر لم يتطوَّر في العصور المختلفة إلَّا لأن الإنسانَ تطوَّر، وأن التغيُّر في الأدب هو نتيجةُ تغيُّرٍ في الإنسان صانع الأدب، وأن شِعر العباسيين ومَن جاءوا بعد العباسيين لم يختلف، وإنَّما صانعُ الشِّعر - وهو الإنسان - هو الذي اختلف؛ فلمَّا اختلف الإنسانُ صانعُ البيان اختلف البيان.
• أغفلنا الرَّبطَ بين البيان والإنسان صانعِ البيان، ودَرَسْنا الشِّعرَ والأدبَ كأنهما شيءٌ وُجِدَ وحدَه، مِن غير أن نربطَه بالبيئة والزَّمان والمكان والإنسان.
• مسألة دراسة تطوُّر الاستعارة فكَّرتُ فيها مِن زمن، وليست الاستعارة وحدَها؛ فالتشبيه كذلك، وفنونُ البلاغة كذلك، وأحببتُ أن أربِّيَ جيلًا يُشغَلُ بهذه التنوُّعات؛ فاخترتُ لفلانٍ دراسةَ تشبيهات امرئ القيس، ولفلانٍ دراسةَ تشبيهات ذي الرُّمَّة، ولفلانٍ دراسةَ تشبيهات البحتري؛ لعلهم يعيشون مع نَمطٍ واحدٍ ثم يُراجعون علاقتَه بغيره من الأنماط، ولكننا نشاء، والله يشاء، ولا يكون إلَّا ما شاء الله.
• كلُّ فكرة لها أصلٌ، وأصلُها هذا يُوجَد في جملة واحدة لو وَعَيْتَها ستَجِدُ ما بعدها تابعًا لها.
• ليس هناك شيءٌ اسمُه «ترتيب الألفاظ»، وإنَّما ترتيبُ الألفاظ تابعٌ لترتيب المعاني؛ فإذا ذَكرْتَ محاسن البيان في أنها للألفاظ تكون قد أخطأت؛ لأن الألفاظ لم تأتِ إلَّا بطلبِ المعاني.. أنت مشغولٌ بالمعاني، والمعاني تُنادي الألفاظ.
• ليس هناك عقلٌ إنسانيٌّ مشغولٌ بالألفاظ، وإنَّما العقلُ الإنسانيُّ مشغولٌ بالأفكار.
• دائمًا وأنا أقرأ في القرآن، أو في كلام سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أو في الشِّعر، أو فيما شئتَ = أجد شيئًا اسمُه: «الجُملة الأمُّ»؛ يبدأ بها الكلام، ثم يكون ما بعدها تحليلًا لها؛ مثل قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّما الأعمال بالنِّيات"، الجُملةُ التي بعدها: "وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى" تابعةٌ لها، وقولُه: "فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسولِه.. إلخ" تحليلٌ للجُملة الأصل التي هي: "إنَّما الأعمال بالنِّيات"، ومِثلُ ذلك سورة «الفاتحة»؛ أصلُها جملةُ: {الحمدُ لله ربِّ العالمين}، لما قُلتَها تَطلَّعت النَّفْسُ إلى أن تَعرِفَ المزيدَ عن ربِّ العالمين، فقُلتَ لها: {الرَّحمنِ الرَّحيمِ مالِكِ يومِ الدِّين}، ثم مَنْ هذا شأنُه أعبدُه وأستعينُه، ومَن أعبدُه وأستعينُه أدعوه.. وهكذا.
• في البيان تجد أن الجملةَ الثانيةَ ما كان لها أن تُوجَدَ هنا إلَّا بعد أن جاءت الجملةُ الأولى قبلَها، وكأن الأولى مهَّدتْ لها طريقَها، ونادَتْها، ودَعَتْها إلى هذا الموضع.
• لا أحدَ يُعلِّم أحدًا.. دُروسُنا وكُتبنا فقط تُساعد من يريد أن يتعلَّم على أن يتعلَّم.
• لن تتعلَّم إلَّا إذا أردتَ أنت أن تتعلَّم، ولن يُعلِّمَك أحدٌ إلَّا أنت.
• عبد القاهر لم يَقلْ: «وفي الاستعارة عِلمٌ كثير» إلَّا لأن لديه محفوظًا كثيرًا من الاستعارة، وتَنوُّعًا كثيرًا من الاستعارة.
• إلحاح عبد القاهر على تصحيح أوهام الواهمين هو رغبةٌ منه في صناعة رجالٍ في الأمَّة ليسوا واهمين، ووراءه حُبٌّ خالصٌ لهذه الأمَّة، واجتهادٌ صادقٌ في أن يَخْلعَ الأوهامَ من نُفوس الواهمين فيها، وهذا معنى جليلٌ جدًّا جدًّا عند العلماء.
• العلماءُ ما قاموا وقَعَدُوا وكَتَبوا وسَهِرُوا وقرأوا وراجَعُوا إلَّا لرغبتهم في صناعة إنسانٍ أفضل، وهذا هو المعنى الذي تَاهَ عنَّا.
• فَرْطُ عناية عبد القاهر بالعِلْم ليس له أصلٌ إلَّا فَرْطُ عنايتِه العُليا بالإنسان المسلم.
• حديثُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ يَدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمَّتي في الآخرة"؛ كأن الله جعل لكل نبيٍّ جائزة، وهي أن له دعوةً مُستجابة؛ فسيدُنا ﷺ ادَّخر دعوتَه واختبأها لأمَّته يوم القيامة، وهذا دالٌّ على حُبِّه ﷺ لأمَّته؛ فكأن فَرْطَ حُبِّ عبد القاهر للأمَّة ما كان إلَّا لأنه استشعر فَرْطَ حُبِّ رسول الله ﷺ لهذه الأمَّة.
• إذا أحببتَ هذه الأمَّةَ لفَرْط حُبِّ نَبيِّها لها كنتَ مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وهذا المعنى ضاع منَّا.
• حُبُّ هذه الأمَّة كان وراءَ جُهد العلماء فيما بذلوا من جهود، ووراءَ جُهد الأطباء فيما بذلوا من جهود، ووراءَ جُهد كلِّ صاحب عملٍ لتغيير أحوال هذه الأمَّة.
• دعا شيخُنا على الأستاذ الذي يقول عن تلميذِه: «فَهِم ولَّا عنه ما فَهِم»؛ فقال: يا أخي، قَطَع الله لسانَك الذي قُلتَ به هذه الكلمة؛ تَقولُها كأنه لا يَعْنِيك!
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «ثمَّ تُفتِّشه فتراه لا يَعرِفُ الأمرَ بحقيقته»، قال شيخُنا: مِثلُ هذا الكلام ليس فيه عِلمٌ مُهمٌّ، إنَّما فيه توجيهك لنفسِك حتى لا تُسْكِنَ في عقلك من العلم إلَّا ما صَحَّ ورُوجِع، وأن عقلَك يجب أن يكون مِصفاةً لما يَدخُل في نفسِك من العلم، وأن تَقتنع وتُراجِع.
• يا سيِّدنا، يا سيِّدنا، لا تأخذْ عن أحدٍ إلَّا عن الله ورسوله، اسمعْ مِن كلِّ مَن كَتب وقال، وفَكِّر في كلِّ ما كُتِبَ وقِيل، إنَّما «سَمِعْنا وأطَعْنا» لا تكون إلَّا لله ورسولِه، ونحن جعلناها للأساتذة ولم نَجعلْها لله ورسوله.
• يا وَلد، العلمُ أمرٌ جيِّد، ومعرفةُ تركيبة العلم، ومتابعةُ التركيبة، والوعيُ بالتركيبة = تَزرعُ فيك عقلًا جديدًا.
• تعليقًا على كلام الإمام عبد القاهر بَدءًا من الفقرة رقم (539)، قال شيخُنا: عبد القاهر يُلحُّ إلحاحًا شديدًا جدًّا على غُموض علم الفصاحة والبيان، ويقول إنك إذا ابتدأتَ في الخطوات الأولى لأيِّ علمٍ من العلوم ستجد كلامَ العلماء الذين كانوا أوَّلَ من تكلَّم في هذا العلم يُمكن أن يُفهَم: أوَّلُ من تكلَّم في النحو كان كلامُه يُمكن أن يُفهَم، أوَّلُ من تكلَّم في الصَّرف كان كلامُه يُمكن أن يُفهَم، أوَّلُ من تكلَّم في الفقه، أوَّلُ من تكلَّم في أيِّ علمٍ من العلوم، حتى لو دخلتَ في علوم الطبِّ والهندسة ستجد أوائلَ علماءِ هذه العلوم كلامُهم يُمكن أن يُفهَم، إلَّا أوَّلَ من تكلَّم في علم الفصاحة والبيان؛ فإنك ستجد كلامَهم في الخطوات الأولى كلامًا غامضًا جدًّا، أو كما قال هو: «كالرَّمز والإيماء والإشارة في خفاء، أو كالتنبيه على مكان الخبيء ليُطلب، وموضع الدَّفين ليُبحثَ عنه فيُخرَج».
هذا أمرٌ، أمَّا الأمر الثاني فهو أن العلومَ بعد أن فُهِمَتْ ودُرِسَتْ لن تجد علمًا يُكرِّر الناسُ فيه كلامًا لا يَفهمونه إلَّا في علم الفصاحة والبيان؛ ستجدهم يتكلَّمون عن «جزالة اللفظ» وهم لا يعرفون معنى «جزالة اللفظ»، يتكلَّمون عن «دقَّة النَّسَق» وهم لا يعرفون معنى «دقَّة النَّسَق»، يتكلَّمون عن «جودة النَّظْم» وهم لا يعرفون معنى «جودة النَّظْم»، يُكرِّرون كلام مَن سبقَهم، ولو سألتَهم عن المراد فلن تجدَ عندهم فَهْمًا؛ فكأن علم الفصاحة والبيان في الأول نشأ غامضًا كالرَّمز والإيماء، وبعد أن صار علمًا حُفِظَ مِن غير وَعْي، ومِن غير تدقيق، ومِن غير فَهْم.
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «إلَّا وإذا تأمَّلتَ كلام الأوَّلين الذين علَّموا الناس»، قال شيخُنا: يا سلام! ليس بعد الأنبياء إلَّا هؤلاء الأوَّلون الذين علَّموا الناس، الأوَّلون في كل علم - في تقديري أنا - في مرتبة {والسَّابقون السَّابقون أولئك المُقرَّبون}، الذين فتحوا أبوابَ العلم هؤلاء هم المُقرَّبون، هم السَّابقون.
• الله - عزَّ وجلَّ - جعلَ مراتبَ، وجعلَ هذه المراتبَ وراءها أبوابٌ مفتوحةٌ لمن أراد أن يَدخُل في هذه المرتبة؛ فجعلَ «السَّابقين» وفتحَ البابَ لمن اتَّبعهم بإحسان، وجعل «المهاجرين» وفتحَ البابَ لمن اتَّبعهم بإحسان.. وهكذا، ليس هناك مرتبةٌ عاليةٌ إلَّا وفتحَ الله مِن ورائها بابًا لمن يَروم أن يَلْحقَ بها، وسمَّى هؤلاء: «التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين».
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «أمَّا البَدِيءُ فهو أنك لا ترى نوعًا من أنواع العلوم إلَّا وإذا تأمَّلتَ كلام الأوَّلين الذين علَّموا النَّاس، وجدتَ العبارةَ فيه أكثرَ من الإشارة، والتصريحَ أغلبَ من التلويح»، قال شيخُنا: لهذا بدأتُ أقرأ في كلام النُّحاة قبل «سيبويه» و«الخليل»؛ كلامِ الطبقة التي تعلَّم منها «الخليل»؛ فوجدتُ كلامًا أفهمُه.
• وضعنا في أذهاننا أن العلومَ التي يرضاها الله ويَدخُل أصحابُها الجنَّةَ هي علومُ الشريعة، يا سيِّدي ليس الأمرُ كذلك، يا سيِّدي أجمعت الأمَّةُ على أن كلَّ عِلمٍ تَحتاج إليه الأمَّةُ هو بهذه المثابة وبهذا الفَضْل، وأن الأمَّة كما تَحتاج إلى علم الفقه تَحتاج إلى علم الدَّواء، وإلى علم الطبِّ، وإلى علم الزراعة.
• قد يكون فَضْلُ العالِم في الطبِّ وثوابُه في الطبِّ أفضلَ مِن ثواب العالِم في التفسير والحديث؛ لأن الثوابَ يُعطَى لِمَا في القلب مِن صِدقٍ وتوجُّهٍ وحُبٍّ لهذه الأمَّة؛ فقد يكون الطبيبُ مُحبًّا لخدمة هذه الأمَّة ويكون الفقيهُ يَعملُ للمال.
• قال عبد القاهر إن علم الفصاحة والبيان كان ملفوفًا بالغُموض في البَدِيء والأخير؛ فما السرُّ في ذلك؟ لم يَشرحْ ذلك عبدُ القاهر؛ لأن المفروض أن يَخطُوَ بك العالِمُ خطوةً ثم يَدعَك لتَخطُوَ أنت الخطوةَ الثانية؛ لأنه لا يربِّي تلميذًا وإنَّما يربِّي عالمًا.
• العالِمُ لا يَكون عالِمًا إلَّا إذا صَنَع عِلمًا، ولن تَكون مُعلمًا إلَّا إذا خرَّجتَ صُنَّاعَ عِلمٍ لا حُفَّاظَ عِلم.
• غُموض علم البلاغة كأنه جاء مِن غُموض مادَّته، ومادَّةُ البلاغة هي البيانُ العالي، والبيانُ العالي هو نتاجُ الإنسان الأعلى الأفضل؛ فكأن هذا البيانَ هو خُلاصةُ عطاء العقل الإنساني والنفس الإنسانية.
• البلاغةُ غامضةٌ، نعم، لكن اسأل أنت نفسَك: لماذا كانت غامضةً؟ تُريد أن تعرف الجوابَ؟ اسأل: ما هي البلاغة؟ هي الكلامُ الإنسانيُّ العالي. طيِّب، لماذا يكون الكلامُ الإنسانيُّ العالي بهذا الغموض؟ لأن كلامَ الإنسان العالي هو القيمةُ العُليا في هذا الإنسان، ولأن أسرار الله في هذا البيان الإنساني كأسرار الله في خَلْق الإنسان.
• قالوا: «أسرار البلاغة»، وكلمة «أسرار» تَعني السِّرَّ الذي سَترَتْه النَّفسُ ولم تُحدِّث به إلَّا صَفْوةَ الصَّفْوة، وكأن البلاغةَ لها أسرارٌ لا تُحدِّث بها إلَّا الذين أطالوا الوقوفَ على بابها، وطال زمانُهم في المراجعة والبحث في هذا العلم؛ فمعاني البلاغة أسرارٌ مخبوءةٌ في البلاغة، لا تَبوح بها إلَّا لخاصَّتِها.
• دخولُ البلاغة في تحليل النُّصوص مهمٌّ جدًّا، لكن بشرط أن تُقدِّم بها شرحًا للنصِّ يُرضِي طالبَ العلم ويُقنعه، ولا تُزهِّدْه في البلاغة؛ لأنك لو قدمتَ له شرحًا للنصِّ بلاغيًّا غيرَ جيِّد فسينصرف عن البلاغة.
• بطُول ملازمتي للعلم وللبلاغة وللكلام أقول إن «جزالة اللفظ» هي الكلمةُ التي أَفْعَمَها سياقُها بالمعنى؛ لأن الكلماتِ ليس أحدٌ يَملِكُ أن يُضيف إليها معنًى؛ لأن معانيَ الكلمات مِن وَضْع العرب، وهذا لا نَملِك فيه زيادة، ولكنَّ ترتيبَ الكلام ونَسْجَ الكلام.. إلخ، يُضْفِي على الكلمات خفايا ودقائقَ ومعاني.
• عبد القاهر قال في الإعجاز سطرًا لم أعرفْ أحدًا نَقَضَه ولا أضاف إليه، قال: الإعجازُ أن تَجدَ كلماتٍ معدودةً تُنْسَقُ نَسَقًا خاصًّا فتُفيدُ معانيَ لا تَدخُل في حَصْرٍ ولا في عَدٍّ.
• تعقيبًا على كلام الإمام عبد القاهر عن تَناقُل المعرفة من غير إدراك معناها، قال شيخُنا: أُحِسُّ أن هناك أنظمةً سياسيةً تُحبُّ هذا اللَّوْن؛ لأنه لا يُريدك أن تفكِّر فيما تسمع؛ لو قال لك: «السَّماءُ تحتَنا والأرضُ فوقَنا» صَفِّقْ وقُلْ: «نَعمْ»، إنَّما تفكِّر وتقول: «لا، السَّماءُ ليست تحتَنا» سيقول لك: أنت إرهابي، أنت خطرٌ على الأمن القومي.
• خَتَم شيخُنا الدرسَ بقوله: أنا حريصٌ على أن أُنْهِيَ الكتابَ؛ لأن الكتابَ في آخرِه كلامٌ جيِّدٌ جدًّا لم يتكلَّم فيه البلاغيون بعد عبد القاهر، والله المستعان، وعليكم أنتم أن تجتهدوا.