فساد القلب بين القسوة والسواد

225
7 دقائق
13 صفر 1447 (08-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فقد قال ﷺ: "... آلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله آلا وهي القلب" رواه الشيخان، وفساد القلب له أسباب كثيرة ومنها القسوة والسواد فالقسوة متعلقة بأمور الدين والسواد متعلق بأمور الدنيا، قال تعالى {... فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} الزمر (21).

وقد جاء في تفسير الجلالين (أي عن قبول القرآن) ص (461)، فالقسوة خاصة بالكفار والمشركين وأما بعمومها فهي لكل من لا يرحم غيره وأما السواد فهو خاص بالعصاة والمعاندين وأهل البدع من المسلمين ومنه الحسد والبغضاء أيضا فالقلب يسوَّدُ من كثرة الذنوب فالقلب القاسي هو فاسد والقلب الأسود هو فاسد أيضا ومن أسباب الفساد للقلب أيضا هو ضُعف الدين ونُقص الإيمان واتباع الشيطان وحب الدنيا وكذلك الرياء والنفاق وقد قال تعالى {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} البقرة (77) والسِر هو من باب الغيب بين إخلاص المرء ورياء يُذيب الحسنات كما تُذيب النار الحديد وأما عن سواد القلب فهي الذنوب مهما كانت أنواعها وقد قال ﷺ: "إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب واستغفر صُقل قلبه وإن عاد إلى الذنب عاد السواد حتى يسوَّد قلبه" رواه النسائي والترمذي.

ولهذا قال بعض السلف (فإن الذنوب تُميت القلوب) الصبر وأثره في حياة المسلم للشيخ جار الله رحمه الله ص (37)، أي بالإقامة فيها دون توبة منها، قال الشيخ جار الله رحمه الله (فالأغاني من أكبر ما تطرق به إبليس إلى فساد القلوب) أمراض القلوب له ص (56)، واليوم شباب الأمة الإسلامية أكثرهم تسبح عقولهم في الأغاني دون راحة منها ويتضايقون عند سماع القرآن الكريم ويطمأنون في سماع الأغاني والله المستعان.

وقال أيضا (وأما أسباب مرض القلوب فمنها أكل الحرام....فعل المعاصي....استماع ما لا يجوز إستماعه من الكلام المحرم واستماع الملاهي من الأغاني والمزامير....النظر المحرم....مطالعة الكتب الفاسدة...) المصدر السابق ص (55 إلى 58)، وما يقصده *بالكتب الفاسدة* أي الكتب التي يكتبها العلمانيين وأهل البدع فيُفسدون قلوب الناس بالشكوك والشُبه في الإسلام وما أكثر ذلك في بلاد العرب خاصة وبلاد المسلمين عامة والله المستعان.

وقال أحد المشايخ (قسوة القلب هي نتيجة طبيعية للمعاصي والخطايا بشكل عام) ويقال أيضا (إن الكراهية تُلوث القلب) نَعم هذا صحيح فهي تلوثه بالحقد والغل وأشد أنواع الكراهية هي كراهية الحق واتباعه فهذه تلوث القلب بالنفاق والجهل وربما بالكفر كمن يكره السُنة وهذا ما نراه اليوم ممن يزعم بأنه ينصر الحق ويطعن في السُنة علنا فكره الشيء يُعمي ويَصم فيُعمي صاحبه من معرفة الحقيقة واتباع الحق فبعض القلوب مُصددة وتظهر صدادتها في ألسنة أصحابها من قُبح الكلام وسوءه بالجهر به دون حياء ولهذا يقال (وقِلة الحياء من موت القلب) وكذلك من فساد القلوب وقساوتها وسوادها هو الشح والبخل عفانا الله منهما واياكم قال ﷺ: "... واياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالقطيعة فقطعوا أرحامهم وأمرهم بالفجور ففجروا وأمرهم بالبخل فبخلوا" رواه أحمد وغيره، وقد قال تعالى {... وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ... } النساء (127).

وجاء في تفسير الجلالين في معنى الآية (شدة البخل أي جُبلت عليه فكأنها حاضرته لا تغيب عنه) ص (99)، وجُبلت أي بمعنى الفطرة وقال الشيخ ابن ناصر السعدي رحمه الله في معنى الآية (أي جُبلت النفوس على الشح وهو عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان والحرص على الحق الذي له فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا أي فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلق الدنئ من نفوسكم وتستبدلوا به ضده وهو السماحة وهو بذل الحق الذي عليك والإقتناع ببعض الحق الذي لك فمتى وُفق الإنسان لهذا الخُلق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة لأنه لا يُرضيه إلا جميع ما لَه ولا يرضى أن يُؤدي ما عليه فإن كان خصمه مثله إشتد الأمر) تيسير الكريم الرحمان ص (186).

وقال تعالى {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ... } النساء (37)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله (فالبخيل جحود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تُبين لا في أكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله) تفسير ابن كثير (853/1)، قال : "وأي داء أدوأ من البخل" رواه البخاري في الأدب المفرد، وهذا الداء يُصيب القلب أولا ثم يظهر على البدن فإن لم يُعالج قلبه من داء البخل والشح عاش اليُتم في حضور والديه وعاش الفقر في حضور ماله وأملاكه وعاش الضُعف في حضور قوته وسلطته وعاش بقلب دون إحساس وقد قال فضيل بن الحارث (النظر إلى وجه البخيل يُقسي القلب) النوادر والنتف للأصبهاني ص (85)، يقصد نظرة الإعجاب به لأن هذه النظرة تفتح باب المنافسة فيكون مثله في الفعل وهذا لا يكون إلا من باب التقليد الأعمى وسببه التأثير السلبي الذي جاء من طريق نظرة الإعجاب به وكذلك مما يُفسد القلب هو كما قال الفضيل (شيئان يُقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل) المصدر السابق ص (102).

وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله (وقسوة القلب من أربع أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة الأكل والنوم والكلام والمخالطة) أمراض القلوب للشيخ جار الله رحمه الله ص (61)، أي الإكثار منها بشكل دائم وقد نُسب للإمام علي رضي الله عنه أنه قال (من كثر كلامه كثر خطؤه ومن كثر خطؤه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه ومن مات قلبه دخل النار) وموت القلب أي بأن يرى الحق في صورة الباطل ويرى الباطل في صورة الحق فيعمل بالباطل ويترك الحق ففي البداية يكون من باب الجهل لكن في النهاية يكون من باب العناد فلا يقبل النصيحة ممن كانت ويُجاهر بذنبه علنا فهذا هو معنى موت القلب.

ومما يُميت القلب ويفسده أيضا هو الإكثار من الضحك لقوله ﷺ: "إياك وكثرة الضحك فإنه يُميت القلب ويذهب بنور الوجه" رواه أحمد وغيره، فتجد بعضهم يضحك في أمور لا تستحق الضحك فهذا لا قلب له وهذا لا يعني أن الضحك لا يجوز بل إنه يجوز لكن الإكثار منه فهو المنهي عنه لأنه يوِّلد الغفلة عن الآخرة ولهذا قال أحمد بن أبي الحواري (ما ابتلى الله عبدا بشيء أشد من الغفلة والقسوة) وصية ابن قدامة المقدسي رحمه الله ما تحت الخط ص (42).

وقد قال ابن عياض (خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب وجمود العين وقِلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل) الحياء للشيخ جار الله رحمه الله ص (35)، والشقوة هنا أي في يوم القيامة وكل ما ذُكر هنا هو نتيجة فساد القلب فالعين لا تدمع لخشية الله والقلب فاسد والحياء لا يكون أو لا يكتمل والقلب فاسد والرغبة في الدنيا هذا سببها الأول هو فراغ القلب من محبة الله عزوجل وطول الأمل سببه الأول هي الغفلة عن الآخرة فالقلب هنا تجده يهيم في أودية الأحلام والأماني ناسيا حقه في طاعة الله خالق الأكوان قال الإمام ابن القيم رحمه الله (والقلب الميت يكون صاحبه أحط من البهائم ويكون مآله إلى جهنم....فيُصبح هذا القلب مطموسا منكوسا مختوما عليه لا ينتفع به صاحبه بسبب أنه أعرض عن الحق ورضي بالباطل فصار الباطل غذاءه والضلال طريقه والجحيم مصيره نعوذ بالله من الخذلان) أمراض القلوب للشيخ جار الله رحمه الله ص (53/54) وقال أيضا (ما عوقب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبُعد عن الله وما خُلقت النار إلا لإذابة القلوب القاسية فإذا قسا القلب قحطت العين) المصدر السابق ص (61).

ولعلاج هذه القلوب من القسوة والسواد ومن آثار الفساد هناك بعض الخطوات الناجحة ومنها كما رُوي عن النبي أنه قال: "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد" قيل، فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: "كثرة تلاوة كتاب الله تعالى وكثرة الذكر لله عز وجل" رواه البيهقي وغيره وهو ضعيف، ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله (أطلب قلبك في ثلاثة مواطن):

(1) عند سماع القرآن.

(2) وفي مجالس الذِكر.

(3) وفي أوقات الخلوة فإن لم تجد في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك.

أمراض القلوب للشيخ جار الله رحمه الله ص (65) ففي سماع القرآن هل هو يخشع أم لا؟ وفي مجالس الذِكر هل يطمئن أم لا؟ وفي أوقات الخلوة هل يذكر الله أم لا؟ وهناك موطن رابع لم يذكره الإمام آلا وهو حضور وقت الصلاة هل يفرح أم لا؟ ولهذا قال أحدهم (القلوب تجوع كما تجوع البطون وغذائها هو ذِكر الله وإلا ستموت في الأبدان).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (فأي شيء يُحرك القلوب؟ قلنا يُحركها شيئان أحدهما كثرة الذِكر للمحبوب....والثاني مطالعة آلائه ونعمائه) المصدر السابق ص (72/73)، والآلاء هي نِعم الله عزوجل علينا، قال تعالى {... فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الأعراف (68).

وذِكر النعم يكون بالقلب ويكون باللسان وهي بأن تُقارن نفسك بغيرك وما عندك وما ليس لهم وتحمد الله على هذه النعمة من باب شكره وليس من باب إحتقار الناس والتفاخر عليهم بل يكون بينك وبين نفسك دون إظهار الألفاظ ثم تقارن نفسك اليوم بنفسك الأمس وما عندك اليوم ولم يكن عندك في الأمس وهذه لا بأس بأن تُظهرها للناس من باب شُكر الله عزوجل.

ومن أجمل ما قاله الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله (قال بعض الحكماء أحيي قلبك بالمواعظ ونوِّره بالفكر وموِّته بالزهد وقوِّه باليقين وذَلِلهُ بالموت وقرِّره بالفناء وبصِّرِهُ فجائع الدنيا وحذِّرِه صولة الدهر وفُحش تقلب الأيام واعرض عليه أخبار الماضين وذَكره ما أصاب من كان قبله وسِر في ديارهم وآثارهم وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعمَّ انقلبوا) تفسير ابن كثير (262/3).

وقد قال لرجل اشتكى له من قسوة قلبه: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح برأس اليتيم" رواه أحمد، واعلم أن التوبة هي مفتاح إصلاح القلوب دائما وأبدا ولهذا قال الشاعر:

رأيت الذنوب تُميت القلوب

وقد يُورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياةُ القلوب

وخير لنفسك عصيانها

أمراض القلوب للشيخ جار الله رحمه الله ص (10)

وكذلك الإكثار من الإستغفار ودعاء الله بإحياء القلب وردد هذا الدعاء دائما في سجودك "اللهم رُدني إليك ردا جميلا" وأما من أراد أن ينصح صاحب قلب قاسي أو فاسد أو أسود فعليه بحلاوة اللسان فكما يقال (الكلمة الطيبة مفتاح القلب) فقد قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} النحل (125).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق