الغضب من لهيب النيران

89
6 دقائق
17 صفر 1447 (12-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فقد قال بعضهم (الغضب ضد العقل) وهذه حقيقة فالغضب عبارة عن جمر والعقل عبارة عن جوهر والجوهر لا يصلح إذا وقع في الجمر فتذهب منافعه فكذلك العقل لا يصلح إذا إشتد الغضب فالغضب باب لكل شر ولهيب النيران على لسان الإنسان ومنبع هذه النيران على قسمان وهما الغضب والقلق والفرق بينهما هو أن الغضب عبارة عن شدة الإنفعال وأما القلق فهو توتر مع إنزعاج ومنه ما يظهر على الوجه بعلامات أو دون ظهور لها فقد يكون هناك كتمان للقلق وأما الغضب تظهر علاماته مباشرة ولا يستطيع كتمانه ويكون برد الإعتبار إما بالصراخ أو الضرب أو السب... الخ.

وهناك من يكتمه وهم قِلة بين الناس وأما عن الصراخ فهو نوع من التعصب وأكثره يكون بعد الغضب وأما القلق فلا يكون بهذه الصفات وإن كانت فهو غضب وليس قلق فالغضب يزيد وينقص وكذلك القلق وزيادة القلق تكون من الخوف والوساوس وأما الغضب فزيادته هي عند مواصلة الصِراع مع شخص دون تراجع وقد قال ذو النون (والخوف يَقلق) الحياء للشيخ جار الله رحمه الله ص (34).

إذن القلق مصدره الخوف فإما من شخص ما أو الخوف من المستقبل وغيره من المخاوف والقلق يجعل من ضغط السُكَّر يرتفع أكثر فيُصاب به وقد قال تعالى {... سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} الطلاق (7) وهذا لتخفيف الألم الداخلي كالقلق فهو داء القلوب وأما الغضب فهو نوع من الجنون لأنه يُسبب في تغيُّر أحوال الشخص فجأة والغضب يتنوع من شخص لآخر فهو درجات مئوية فالقلق متعلق بالقلب والغضب متعلق بالنفس ولهذا أوصانا النبيوقال ((لا تغضب)) رواه البخاري، لأن الغضب يُخلِّف نتائج سلبية كالقتل والطلاق والعُنف وقطع الرحم وهجر الناس... الخ.

والنميمة ونقل الأخبار هنا وهناك فهي أحد أسباب داء الغضب فالغضب كالقنبلة في النفس إذا إنفجر دمر كل الجهود الإيمانية والبذور الإسلامية، والغضب منه نوعان غضب من أمور الدين وغضب من أمور الدنيا فالأول كالغضب ممن يستهزئ بالدين والغضب لضياع الحقوق وكثرة الظلم... الخ.

فهذا يحتاج إلى حكمة وعلم وقد قال تعالى {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ... } الأعراف (154) فالغضب يسكت وينطق بدليل هذه الآية عكس القلق فلا ينطق وهذا الغضب هو على دين الله عزوجل قال الشيخ ابن ناصر السعدي رحمه الله (أي سكن غضبه وتراجعت نفسه وعرف ما هو فيه، اشتغل بأهم الأشياء عنده) تيسير الكريم الرحمان ص (282).

والسكون في المعجم العربي هي "الطمأنينة" وقد قال أبي سعيد (إذا رأيتم الرجل يغضب لنفسه ويرضى لنفسه فاستعينوا عليه بسوء الظن) النوادر والنتف للأصبهاني ص (82)، وهذا نوع من الغضب على أمور الدنيا مثل المال والعمل... الخ.

وهذا يحتاج إلى بصيرة وأدب حتى لا يقع فيه لأن الغضب لا يكون إلا من باب التسرع والإستعجال بالأمور فإن الغضب في النفس كالبركان الثائر ومن أجمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في حديث إبليس إلى جنوده وأعوانه فيقول لهم (فزوجوه بين غضبه وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب وإلى الغضب من طريق الشهوة) الداء والدواء له ص (240)، أي إن غضب ذهب وشرب الخمر وإذا ذهب إلى الشهوة والمعصية وجدَ من يُغضبه حتى يشتد غضبه فإذا كان سكيرا في تلك اللحظة فقد يقتل دون أن يشعر فكم من جريمة قتل كان سببها الخمر ومجالس القمار والزنا... الخ.

ثم قال رحمه الله (اعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه) المصدر السابق ص (241) فإن الذين يُقدمِون على القتل العمدي بنسبة خمسين بالمائة منهم تكون لهم سيرة طيبة مع الناس والغضب هو من أوقعهم في ذلك وقد صَدق من قال (الغضب قاتل صاحبه) أي يقتل فيه الرحمة ويقتل فيه الحياء ويقتل فيه الإنسانية وهذا طبعا إن كان سريع الغضب بإستمرار بشكل دائم وليس من يَغضب مرة على مرة وإن كان الغضب كله يُذم ولا يُمدح وقد قال أحدهم (إذا لم يغضب الرجل لم يحلم لأن الحليم لا يُعرف إلا عند الغضب).

وهنا الغضب الذي ينزل لمستوى القلق فلا يظهر على صاحبه وهذا لا يكون إلا لمن استطاع التحكم في غضبه قولا وفعلا ولهذا يقول بعضهم (فالعصبية ممقوتة والمحافظة مطلوبة) أي المحافظة على الهدوء والمواقف، وقد قال أحدهم (الغضب يُؤثر على القدرة على تقييم الأمور بشكل صحيح) حِكم ومواعظ للأستاذ رميته ص (17)، وقال آخر (العاصفة تستطيع أن تُدمر سفينة ولكنها لا تستطيع أن تحل عقدة خيط واحد وهكذا الغضب يُدمر ولكنه لا يُقدم حلولا) المصدر السابق.

فالغضب له أضرارا فلا يُحس بها المرء حتى يجد نفسه منهزم تماما ففي البداية يظهر الغضب من باب الشجاعة لكن النهاية تكون أحزان لصاحبه يصحبها الندم فحقيقة الغضب عند كل إنسان فرصة لإبليس مثل ضربة الجزاء في كرة القدم فإن تحكم الإنسان في غضبه ضيَّع إبليس هذه الفرصة وإن لم يتحكم فيه سجل إبليس الهدف وهو خسارتك أنت إما بمنصب عمل أو شخص كان عزيزا عليك أو مال أو أملاك... الخ.

فتجد الكثير من الناس عند الغضب يُحب الصراخ أي بإخراج الصوت بكل قوة لكن الحقيقة هو أن الصراخ ليس رجولة أبدا لأن الرجولة هي السيطرة على النفس في وقت الشدة والصبر على مشقة الألم ومرارة الحُزن ومنهم إذا غضب ذهب مباشرة إلى سب إسم الجلالة والله المستعان وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فيمن يسب الله أو رسوله أو دينه (أما من فعل ذلك غاضبا وهو لم يمتلك نفسه ولا يدري ما يقول فإنه لا يُكفر لأنه لا إعتداد بقوله بل هو في حُكم المجنون)، ثم قال (ولكن ينبغي عليه إذا أفاق وذهب عنه الغضب أن يُراجع نفسه ويستغفر الله تعالى ويُطهر لسانه من هذا الشيء القبيح ويتعود ذِكر الله تعالى والثناء عليه فإذا تعوَّد لسانه ذلك لن ينطق بالسباب ولو عند الغضب) المناهي اللفظية ص (81).

وقد قال الشيخ ابن ناصر السعدي رحمه الله (والغضب نتيجة فساد القصد) أمراض القلوب للشيخ جار الله رحمه الله ص (19)، فالغضب يقتل القلب بنار الخذلان وقد قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله (إذا عرفنا كون الإنسان سريع الغضب في كل شيء عرفنا أنه لا يكون تام الفكر في الأمور وذلك لأن قوة الغضب تدل على سخونة الدماغ وهذه السخونة تُوجب تعذر إتمام الفكر) الفراسة له ص (23)، فهذه كلها من سلبيات الغضب فهو ليس من صفات الرجال كما يعتقد البعض ولعلاج داء الغضب لحظة الإحساس به أولا هو الأخذ بوصية رسول الله حين قال للذي يغضب ((إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد)) متفق عليه.

وقال أيضا ((إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من إحمرار عينيه وإنتفاخ أوداجه؟ فمن أحس بذلك فليتوضأ)) رواه الترمذي وغيره، وقال أيضا ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) رواه أبوا داود وأحمد، ومعنى فليضطجع أي ينام، وهذه الوصفة النافعة في حالة الغضب فأيهما بدأ كان أحسن فإن لم يذهب الغضب بالأولى زاد عليها الوصفة الثانية ثم الثالثة وهناك وصفة متعلقة بعلم النفس والتجارب الإجتماعية ومنها الإغتسال أثناء الغضب أي غسل البدن كله بالماء فهذا إما أن يُزيله أو يُضعفه ويُقلص منه وهو موافق للسُنة حين قال النبي ((فاليتوضأ)) ومنه أيضا تغيير المكان الذي غضبت فيه فإن غضبت في البيت أخرج للشارع وإن غضبت في مكان ما فغيِّر المكان ولكن هذا مُقيد بشرط وهو التعوذ من الشيطان الرجيم لأن تغيير المكان لوحده غير كافي فقد رأينا من غضب في الشارع ودخل البيت بغضبه فأخرج غضبه في وجه أهله أو العكس تجده يغضب في البيت ويخرج للشارع ثم يواجه الناس بغضه ذاك والله المستعان.

وهناك تجربة إجتماعية وهي الذهاب إلى الأكل أو شُرب الماء أو العصائر لأن الطعام هنا قد يُخمد نار الغضب ولا يذهب للأطعمة أو المشروبات الساخنة فتزيده سخونة تُجاه الغضب وهذه النصيحة مُقيدة بشرط التعوذ من الشيطان الرجيم أيضا وأخيرا قراءة الحِكم لأنها تُساهم في برودة نار الغضب وهي مقيدة أيضا بالتعوذ من الشيطان الرجيم وللعلم أن الغضب هو صفة ثابتة لله عزوجل لا يُشبه غضب المخلوقين وهذا الغضب هو يليق بجلاله سبحانه وتعالى وهذا لقوله ((... وصدقةُ السِر تُطفئ غضب الرب)) صحيح الجامع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق