سدانة الكعبة في بني شيبة

156
3 دقائق
18 صفر 1447 (13-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في مكان تهفو إليه قلوب المؤمنين، وتتشوق الأرواح للطواف حوله، قامت أول لبنة لعبادة الله على الأرض، الكعبة المشرفة. لم تكن مجرد بناءٍ من حجارة، بل كانت ولا تزال البيت العتيق، الذي رفع قواعده إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، كما قال الله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: 127]، بيتٌ باركه الله وجعل الصلاة فيه بمئة ألف صلاة، تكريمًا لشرفه ومكانته.

شُرِّف إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر من الله بتطهير هذا البيت للطائفين والركع السجود، فقال تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]. هذا التكليف لم يكن مجرد وظيفة، بل شرف إلهي وميراث نبوي، توارثته أمة بعد أمة، حتى آل إلى بيتٍ من بيوت قريش، اختصه الله بسدانة البيت إلى يومنا هذا، إنها عائلة بني شيبة.

لم تكن هذه المهمة عارضة، بل نصّ عليها النبي بنفسه يوم فتح مكة، حين دخل الكعبة وطهّرها من الأصنام، ثم دعا الناس وخطب بهم، وأمر برد مفتاحها إلى صاحبه عثمان بن طلحة، قائلًا: «خذوها يا بني أبي طلحة، لا ينزعها منكم إلا ظالم» "طبقات ابن سعد" (2/ 137)، وكما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].

وكان هذا الحدث العظيم من دلائل نبوته وصدق وحيه، إذ إن هذه الآية -مع كونها من سورة مدنية- نزلت في مكة في لحظةٍ استثنائية، يوم ارتفع نداء السماء برد الأمانة إلى أهلها، فبقي المفتاح في أيدي الشيبيون، كما بقيت السدانة فيهم، يتوارثها أكبر رجال العائلة، جيلًا بعد جيل، إلى يوم الناس هذا.

وتسكن الدهشة قلوب الناس وهم يتساءلون: ما الذي في داخل الكعبة؟ كيف تُفتح؟ من يغسلها؟ كم مرة؟ وهل يدخلها النساء؟ أسئلة تتكرر على ألسنة الزائرين والمعتمرين، وكلها تجتمع عند باب واحد، تحرسه أيدٍ أمينة منذ ألف وخمسمئة عام.

الكعبة تُغسل مرتين في السنة، ويشارك في ذلك الشرف ملك البلاد أو من ينوب عنه، ويُحمل الماء المخلط بماء زمزم والورد والعنبر والمسك، ويُرش على جدران الكعبة، ثم يُمسح، وتُكنس الأرض، في مشهدٍ مهيب، تتعطر فيه النفوس قبل المكان.

والمفتاح اليوم لا يزال كما هو، محفوظ في صندوق خاص، يحمله أكبر أفراد العائلة، ويُفتح به باب الكعبة في مناسبتين معروفتين. ومفتاح الكعبة ليس الوحيد، فثمة مفاتيح أخرى: لمقام إبراهيم، ولباب التوبة المؤدي إلى سطح الكعبة، كلها بيد هذه الأسرة التي ارتبط اسمها بخدمة البيت العظيم.

وحين تقف أمام الكعبة وتقترب من الباب، فإنك ترى أن بابها مرتفع عن الأرض وليس ذلك عبثًا، بل إن قريشًا حين أعادت بناء الكعبة قبيل البعثة، قصرت بهم النفقة لأنهم اقتصروا في بناءها على المال الحلال، فتركوا جزءًا منها خارج البناء، وهو ما نعرفه اليوم ب"الحِجر"، أو "حِجر إسماعيل"، وهو من الكعبة، ومن صلى فيه فكأنما صلى داخلها.

فما رفعوا الباب إلا ليكون مدخله بيدهم، يُدخلون من شاؤوا ويمنعون من شاؤوا، وهذا ما أخبر به النبي لعائشة حين سألته عن السبب، فقال: "إن قومك قصرت بهم النفقة فاقتصروا به على ما دون القواعد، ورفعوا بابه ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا" (رواه البخاري).

ومع مرور السنين، تم ترميم الكعبة أكثر من مرة، ولكن الكعبة بقيت كما أراد الله، تهوي إليها أفئدة الناس، وتحرسها قلوب تحبها. فالأصل لم يتغير: بيتٌ طاهر، له ربٌ يحميه.

ولما أراد أبرهة هدم الكعبة، خرج له عبد المطلب جد النبي يطلب إبله، وحين سئل عن سبب عدم منعه للأحباش، قال كلمته الشهيرة: «أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه»، فصدق، وصدق الله وعده، فأرسل عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، كما جاء في سورة الفيل.

وفي داخل الكعبة، مساحة تبلغ 19 مترًا، ثلاثة أعمدة خشبية، وسقف ملبس بالحرير الأخضر، وأرضية من الرخام الأبيض، وحوائط يكسوها جزء من الكسوة من الأعلى، ويظهر الرخام من الأسفل.

ولا عجب أن يشعر الداخل إلى الكعبة بخشوعٍ لا يُوصف، فكأن الزمن يتوقف، وكأنك داخل قلب التاريخ، حيث مشى إبراهيم، وبنى إسماعيل، وطاف محمد ، وسجدت مئات الأجيال من المؤمنين.

ولا يُعرف حديث صحيح يُثبت أن النبي منع النساء من دخول الكعبة، كما لا يُعرف حديث صحيح يُثبت أنه أذن لعائشة أو غيرها تحديدًا، لكن دَخَلَت بعض النساء الكعبة في عصور لاحقة بإذن من ولاة الأمر.

بل بلغ من شوق الناس للكعبة أن بعضهم مات على أعتابها، كما يُروى عن امرأة عابدة، ما رأت الكعبة قط، وسافرت إليها، وسألت الناس في كل قرية عن بيت ربها، حتى وصلت إلى مكة، فلما رأتها ركضت إليها، وتعلقت بأستارها، فقبض الله روحها هناك، عند البيت الحرام.

بيتٌ له ربٌ يحميه، وله عبادٌ يخدمونه، وله مهابةٌ لا يصفها اللسان، ولا يدركها العقل، تُطوى لها المسافات، وتُحمل لأجلها الأرواح على كفّ الرجاء.

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: 36]... وإن من أعظم هذه البيوت، البيت العتيق، أول بيت وضع للناس، مباركًا، وهدًى للعالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق