النصر مع الصبر

65
3 دقائق
22 صفر 1447 (17-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إنَّ المعركة بين أهل الحق وأهل الباطل معركة شرسة وضروس، تهلك الحرث والنسل وتفسد بهاء الحياة وتهدم العمران، مشوارها عسير محاط بالنكبات والآلام.

إنَّ أهل الباطل يجتمعون على باطلهم وينصرونه ويعملون على نشر الفساد والظلم في كل بقعة وركن بنفس طويل وهادىء، وصف سبحانه وتعالى انطلاقهم ومضيهم على ضلالتهم والخضوع لآلهتهم والدفاع عنها قال تعالى:

﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص: 6).

وكان التواصي بينهم أن اثبتوا على طريقتكم بل واصبروا عليها، وفي موضع آخر يقول تعالى:

﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيها﴾ (الفرقان: 42)

فهم صابرون على طريقتهم وإن كانت طريق شر، واستكبار.

والتدافع بين الحق والباطل أمر حتمي وسنة من سنن الله الكونية، وأن الغلبة لأهل الحق مهما علا الباطل وطال المشوار وتغيرت الأحوال، وأن الابتلاءات والهزائم والأحزان جارية بأمر الله ولابد للمؤمن من فقه معانيها.

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139 ).

والمؤمن في هذه الجولات الحامية يلتف حول الحق الأبلج بصبر ويقين، متمسك بحبله الشديد، لأنه يعلم أنَّ النصر من عند الله، قال بعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الفرقان: 10).

إن الله تعالى هو المالك لمقاليد الأمور، يعلم بتحركات الباطل لا يخفى عليه ما تحمله القلوب المنفطرة من آهات، وما يسكنها من جراحات تنزف دون توقف، وهي تترقب عدالة السماء.

والصبرزاد المؤمن في معركته مع الباطل، والله تعالى أثنى في مواضع كثيرة من القرآن على الصابرين ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: 10).

وأخبر تعالى أن الصبرفي الشدائد، وحين القتال في سبيل الله هوسجية المؤمن، وفي هذا مدْح لهم: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177).

وفي المعركة يحصل البأساء وهو الفقر ويُصاب المرؤ بالضراء وويصبح في حالة من الجزع لذلك أُحْتيج إلى الصبر لينال أعلى المقامات.

إخواننا في أرض الرباط قد أصيبوا بكل هذه المصائب من بأساء وضراء وبأس لطول المعركة وشراستها.

قد يقول القائل منهم أنتم في سعة من أمركم، وفي بحبوحة من العيش لذلك تكتبون عن الصبر، وما ذقتم ويلات الباطل وجرءته علينا، استباح حروماتنا وشرد أطفالنا وقتَّلهم شرالقتل، وسام رجالنا سوء العذاب، هدم بيوتنا، وأضاع أموالنا...

الله يعلم أن قلوبنا تنفطر حزنا وكمدا، وإننا نتألم لآلامكم، وحال ألسنتنا تلهج: ربنا ثبت أقدامهم وأفرغ عليهم الصبر إفراغا وانصرهم على عدوهم ربنا إنهم مغلوبون فانتصر، ونحن على يقين أن الله ما اختاركم إلا ليرفع مقاماتكم لجميل صبركم:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).

ومالك الملك يرى ولا يخفى عليه شيء وهو الذي أمر بالصبر ووعد بإهلاك الظالمين وقال جل شأنه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (غافر: 77).

فالنصر قادم وإن لم نشهد قطف ثماره، ويجب أن يكون نَفَسُنا أطول وأعمق من نفس أهل الباطل على باطلهم.

تعلمنا من طوفانهم المبارك أن الصراع بين الحق والباطل يزيد من يقين المؤمن فتتحول نفسه الضعيفة الخائفة إلى نفس قوية تقاوم وتضحي وتقدم الغالي النفيس، وتصابر وترابط بلا حدود، وإنكم بإذنه تعالى المفلحون: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).

فلو شاء الله لانتصر لهم، وأزال عنهم الذل والهوان، ولو أراد لرفع يد أهل الباطل وقطعها شر قطعة ولكن يفعل ما يشاء سبحانه، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ (محمد: 4).

وفي ظلمة الأحداث وطول ليلها يزداد تعلق المؤمن بربه متضرعا في ساعات الليل البهيم صابرا محتسبا مستجيبا لربه: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة: 45 ).

إنَّ النصر في هذه المعركة الطاحنة منوطة بالصبرالجميل ففي الحديث الشريف الذي رواه عبدالله بن عباس أنَّ النبي قال: "واعلَمْ أنَّ النَّصرَ في الصَّبرِ"، وفي رواية "النَصْرُ مع الصبر"، وقال: "واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا". 1

إنَّ الصبر مفتاح أبواب الخير وهو أفضل من الجزع والسخط على الله تعالى.

والصبر سماه النبي ضياء، روى أبو مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه "والصَّبْرُ ضِياءٌ"2

في شرح هذا الحديث الجليل: " الضياء" في حقيقته: النور الذي يصاحبه شيء من الحرارة والإحراق، بعكس النور يكون فيه الإشراق من غيره ويوضح معناه قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ (يونس: 5 ).

فالشمس ضياء لأنها مشتملة على النور والحرارة والإحراق، وفي الحديث الذي بين أيدينا: "والصَّبْرُ ضِياءٌ".

أي أن الصبر لا بد أن يصاحبه شيء من المعاناة والمشقة، وأنَّ فيه نوعا من المكابدة للصعاب فلا بنبغي للمسلم أن يعجزه ذلك، أو يفن من عزيمته، ولكن ليستعن بالله عز وجل ويحسن التوكل عليه، حتى تمر المحنة وتنكشف الغمة، ويبزغ فجر النصر المبين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

1 – أبو عيسى الترمذي، محمد بن عيسى بن سؤرة بن موسى بن الضحاك أبو عيسى، سنن الترمذي، تح: أحمد محمد شاكرو محمد فؤاد عبد الباقي، إبراهيم عطوة عوض، (مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1395ه-1975م)، 667 4 رقم: 2516

2 – أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: 223

3 –إسلام ويب، حديث الطهور شطر الإيمان.


مقالات ذات صلة


أضف تعليق