بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حُلِيتَ، يا شيخ زياد، بحُلل الجِنان، ووقاك الله شر الغوائل.
لا يخفى على متابعٍ لقناتكم ما فيها من نُقولٍ عزيزة، ونصوصٍ نفيسةٍ قلّ أن تُلتقط إلا بكدٍّ ومشقّة، فجزاكم الله خير الجزاء، وأجزل لكم المثوبة.
وها هنا سؤالٌ يعمّ نفعه طلبة العلم، وأربابَ القنوات العلمية خاصةً:
ما السبيلُ إلى التمييز بين النصوص النادرة التي تُعدُّ من النفائس، وبين النصوص المعتادة التي لا تخرج عن دائرة المتداول والمألوف؟
وهل ثمّة قرائن أو دلائل يُعوَّل عليها في هذا الباب؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيّاكم الله وبياكم يا شيخ محمد، ولا عدمتُ فضلكم ونبلكم وإنعامكم على المحب، وأسأل الله تعالى ذكرُه أن يعمَّني وإياكم بفيض فضله ورحمته.
وأما مسألتكم هذه، فهي مسألة شريفة، وباب تمييز النُّقول النفيسة العزيزة باب طويل جليل، وأكثره مما يُفتَح على الإنسان فيه بالخبرة والمِراس، لكن أحسب أنّ عزّة النصّ ونفاستَه تُعرَف بكواشف ومفاتِح؛ ومن تلك المفاتِح:
١- تقدُّم النصِّ في زمانه.
فهذا ضابطٌ أغلبيٌّ، وهو أنّ نصوص العلماء المتقدمين مناجمُ نفيسة للفوائد، وهذا في كل فنّ. وإذا كان المنقولُ عنه إمامًا محقِّقا في فنّه، كان هذا زيادة مظنّة للنفاسة.
وإذا كان من مؤسسي الفنون ومفترعيها، كان هذا أعز وأعزّ.
وإذا كان الكتاب مفقودًا أو جلُّ كتب المنقول عنه مفقودة؛ صار كل نصٍّ ينقل عن هذا الرجل نصًّا عزيزا من هذه الجهة، ولو كان مبناه مبذولا ومعناه مأهولًا.
وهذا الضرب يقل الاستشهادُ به عادة عند المتأخرين؛ إما لقلة اطلاعهم على نصوص المتقدمين، وإما للاستيحاش من نظمها والنَّفرة من وضعها.
وربما وقف الواقف عليها فنقلها بمعناها، فأخلَّ بمقصودها وفحواها، وأخرجها مخرج كلام المتأخِّرين.
٢- تفرُّد النَّصِّ في سَبكه ونظمه.
وهذه علامة حسنة، وهي أن يكون في النصّ فرادة في بيانه ونظمه، وملاحة في عبارته وسبكه، حتّى إنّه يُعبِّر عن المعاني المألوفة بعبارات غير مألوفة، فيخلع على المعاني المألوفة حُسنًا وكمالا، ويزيدُها جَلاءً وبيانًا.
وهذا تجده عند المصنِّف الحاذق الذي يستبدُّ بتعبيره وتصويره ولا يتابع غيرَه في تحريره.
كما تراه عند إمام الحرمين الجويني في الأصوليين.
ومن هنا؛ فتخرج عامة نصوص المتون وشروحها المتعارَفة من تحقيق هذا الغرض؛ إذ أكثرها من المبذول لفظا، المتداول معنى، وفي الشروح ما يخرج عن هذا الضرب وإن كان هو الأقلَّ في تراث المتأخرين.
٣- تفرُّد النصِّ في معناه وموضوعه.
بأن يكون الموضوع الذي ورد فيه النّقل مما لم يكثر فيه تناضُل الأقلام، ولا عمَّ فيه توارد الأفهام، فلا يكاد يكتب فيه إلا الواحد بعد الواحد، إما لدقته وغموضه، وإما لخطره وشرفه، فيكون للنصِّ المنقول في مثل هذه الموارد الشحيحة عزّةٌ ونفاسة، حتى إن بعض هذه المعاني والمسائل لا تكاد تجد النّقل فيها إلا عن الرجل الواحد، يسير الناس معه بسَيْره، ويدورون بدَوْره، فالنَّاسُ بعده فيه عيالٌ عليه، فكأنَّ خاطره هو أبو عذره، ومقتضب حلوه ومُرِّه.
٤- تفرُّد النصِّ في دقِّة تحريره وتحقيقه.
وهذا الضَّرب من النُّصوص قد يكون مبذول اللفظ مطروق المعنى من حيث الجملة، لكن يمتاز صاحبُه بأنه يهتدي إلى خفيّات المعاني، فيحلُّ مشكلاتها، ويفتح مغلقاتها، ويكشف مجملاتها.
وهذا مقام أولي التَّحقيق من أهل العلم، الذين عُرِفوا بتتبُّع مُشكلات المسائل والتصدِّي لها، فيكون في نصوصهم عِزَّةٌ تبقى أبد الدهر، ولا يزيدها كثرةُ النَّقل إلا جلالةً وحفاوةً، ولا يكسِبها التَّكرارُ إلا حلاوةً وطلاوةً.
٥- تفرُّد النصِّ في تقريبه وتلخيصه وتنقيحه.
وهذا الضَّرب ليس لصاحبه فيه فضلٌ في تقدُّمه زمنا، ولا في ابتكاره معنى، أو ابتداعه مبنى، وليس فيه انتصابٌ لحلّ المشكلات، والكشف عن المعضلات، لكن أتى تفرُّده من كونه نصًّا مكتنزًا يحيط بمقاصد من قبله؛ إذ قد تكون مقاصدهم شاسعة، وآمادهم واسعة، فيتيه في بيدائها المحصّل، فيأتي هذا النصُّ فيقرِّب قَصِيَّها، ويذلِّل عَصِيَّها، ويهذِّب مُختلِطها، ويلخِّص مضطربها، ويضعها في يدي طالبها دانيةَ القِطاف، قريبة المَجاني، سهلةَ المُتناوَل.
وهذا المقام ليس هو مقام الاختصار المتنيِّ الاصطلاحيِّ المحض، بل المراد به هو مقام تقريب العلم وتنقيحه، سواءٌ كان ذلك في كتاب مطول أم مختصر، ولكنَّ الشأنَ فيه أنه يستبطن معارف الأوَّلين ويعيد سَبْكها في نظامٍ جديدٍ مبرَّأ من الإعضال، مُسلَّمٍ من الإغلاق.
وهذا الضرب يلوح فيمن يعمد إلى علوم عالم معيَّن، فيتقرَّاها ويتملَّاها، ثم يُقرِّبها ويُدنِيها في مَعرِضٍ جديد، وحُلَّة مستأنفة، كأنما هي شيء غير الأوّل، كما صنع إمام الحرمين بعلوم القاضي الباقلاني في «التلخيص»، وكما صنع الغزالي بعلوم الباقلاني والجويني في «المستصفى»، على أنَّ هذين أبدعا معانيَ، واخترعا مبانيَ، فلم يقتصِر عملُهم على التلخيص والتهذيب، لكنَّ التمثيلَ بهما مقصودُه الإبانةُ عن نموذج (سَبْك المعارف) بعد ضبط مقاصدها ونَظمِ معاقدها في (قالبٍ جديد)، والله وليُّ العِزّة، ومُولِي النّعمة على من يشاء، وهو الفتَّاحُ العليمُ سبحانه وبحمده». انتهى.