بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
حُجّة جليّة في الاحتجاج بخبر الواحد على مسائل أصول الفقه (القطعية).
ممَّا شاع وذاع بين متأخِّري الأصوليّين حتى صار بينهم كالإجماع:
أنه لا يُحتجُّ بخبر الواحد في إثبات مسألة أصولية علميّة (قطعية)، وهذا الاحتجاج مما تواردوا عليه في اعتراضاتهم على أدلة المخالفين على ممرّ مسائل الأصول، فيقولون:
- (هذه مسألة أصوليّة علميّة؛ فلا يحتج فيها بخبر الواحد).
- أو: (هذه من مسائل الأصول، فلا تثبت بخبر الواحد).
- أو: (أصول الفقه قطعية؛ فلا تثبت بخبر الواحد).
أو نحو ذلك من العبارات.
وهذا المسلك تأثُّرٌ منهم بطريقتهم الكلاميّة من أنه لا يُحتَجُّ بخبر الواحد في أصول الدّين؛ أخذًا بهذه المقدمات الثلاث:
(١) أنَّ مسائل أصول الدِّين قطعيَّة.
(٢) وأنَّ خبر الواحد ظنِّيٌّ.
(٣) وأنَّ القطعيَّ لا يثبت بالظَّنِّيِّ.
فينتج منها: أن خبر الواحد ليس بحجة في مسائل أصول الدين.
ولمّا كانت مسائل أصول الفقه عندهم صنوَ مسائل أصول الدّين في القطعيَّة؛ أجروا فيها هذه القاعدة أيضا.
فإذا اضطُرُّوا إلى دفع مذهب المخالف لهم في مسألة أصوليّة، وكان هذا المخالف يحتج عليهم بخبر آحاد؛ أخذوا يعترضون عليه بهذه القاعدة. وسبيل المخالِف في العادة أنْ يجيب عن هذا الاعتراض بمسلكٍ من مسالك المنع، وهي ثلاثة منوعٍ تنعطف على المقدِّمات الثلاث:
المنع الأول:
لا نُسلِّم أنَّ هذه المسألةَ مسألةٌ قطعيَّة، بل هي مسألة ظنِّيَّة، فيُقبل فيها خبر الواحد.
المنع الثاني:
سلَّمنا أنها مسألةٌ قطعية، لكن لا نسلّم أن هذا الخبر خبرُ آحادٍ ظنِّيٌّ، بل هو خبر متواترٌ معنى، أو اقترن به ما يفيدُ القطع؛ فصار قطعيًّا؛ فيجوز الاحتجاج به في المسائل القطعية.
المنع الثالث:
سلَّمنا أنَّها مسألة قطعيَّة، وأنَّ الخبر خبر آحاد ظني، لكنْ لا نُسلِّم أنَّ القطعي لا يثبت بالظَّنّي، بل يجوز إثبات القطعيِّ بالظنّيِّ؛ فيجوز إثبات مسألة قطعية بخبر آحاد ظني.
وهذا منع للمقدمة الثالثة وهي: (القطعي لا يثبت بالظني).
وإذا نظرت إلى هذه المنوع الثلاثة:
وجدتَ أنَّ الأول والثاني جاريان على مذهب المعترض من غير معارضة؛ لأنَّ فيهما تسليم قاعدته: أنَّ القطعيَّ لا يُحتجُّ عليه بالظّنّيِّ، لكن المنع متوجِّهٌ إلى عدم تحقُّقها أصلا:
- إما لأنَّ هذه المسألة المعيَّنة ليست قطعية أصلا.
- وإما لأنَّ الخبر المستدلَّ به عليها قطعيٌّ لا ظنّيٌّ.
ففي ذلك تسليمٌ للمعترض بأن القطعي لا يثبت بالظني.
أما المنع الثالث؛ فهو منعٌ مختلفٌ عنهما؛ فإنَّ فيه عدم التسليم بأصل هذه القاعدة، ولا يقول به إلا من هو مفارقٌ لطريقة المتكلمين في أصلهم هذا مفارقة كلية، ولذلك كان حظُّ هذا المنع قليلًا في كتب الأصول، والحظُّ الغالب للمنعَيْن الأوَّلَين.
وقد وقفتُ على نصٍّ متقدّم لإمام جليل القدر من كبار أئمة الشافعية ومقدّميهم في زمانه، وهو القاضي أبو الطيّب الطبريُّ (ت ٤٥٠ ه) شارح مختصر المزني، في: «التّعليقة الكبرى»، التي كانت ثاويةً في خزائن المخطوطات زمنا، حتى طبعت مؤخرا في ٢٤ مجلدا.
وجدتُ هذا الإمام رحمه الله يحتفي بهذا المنع الثالث ويورده منتصرًا له، بل إنه جاوز هذا القدر من تقريره، وجعل الاحتجاج بخبر الواحد الظني في مسائل الأصول أولى من الاحتجاج به في مسائل الفقه الظنية؛ لأن الغرض المقصود من مسائل الأصول هو التوصل بها إلى الفقه؛ فإذا جاز التمسك بخبر الواحد الظني في مسائل الفقه؛ كان الجواز في الأصول أولى وأحرى.
ومن ثم؛ فأورد لك هذين النصَّين من كلامه رحمه الله:
الموضع الأول:
قال رحمه الله في إثبات القياس دليلا بخبر الواحد:
- فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصحُّ التعلق به في مسألة هي من الأصول.
فالجواب: أنَّ ذلك يجوز:
- لأنه إذا جاز أن [تُثبَتَ به] -مع هذه- الأحكامُ الشرعيةُ؛ من تحريم وتحليل وإيجاب وإسقاط وتصحيح وإبطال، وتُضرَب به الأبشار، وتقام به الحدود، وتُقتَل النفوس، وتستباح الفروج، جاز أن [نُثبِت] به طريقًا لإثبات هذه الأحكام.
- وكان أولى من الأحكام؛ لأنّ الأحكام هي المقصودة.
- ولأنَّ هذا من مُجوَّزات العقول، فجاز إثباثه بخبر الواحد، وكان بمنزلة سائر الأحكام من هذا الوجه.
- ولأنَّ العمل بخبر الواحد واجبٌ في كل موضع ليس فيه دليلٌ يوجب العلم ويقطع العذر.
فإن قال المخالف: هذه المسائل معلومة.
فالجواب: أنه لا فرق بينها وبين مسائل الفروع؛ [لبناء الأصول] في دلائلها على:
- ظاهر القرآن الذي يصحُّ تأويله.
- ونصِّ خبر الواحد، والإجماع المحتمل للتأويل.
- واستصحاب حكم العقل قبل ورود الشرع الذي يغيِّره ورود الشرع.
وهذه طريق مسائل الفروع، وفي الفروع ما هو أصحُّ طريقًا منها؛ بشهرة الأخبار فيها، وصحَّة أسانيدها التي هي أصحُّ من الأخبار الواردة في أصول الفقه، مثل قوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وما أشبه ذلك». «التعليقة الكبرى» (٢٠/ ٢٧٣-٢٧٤).
الموضع الثاني:
وقال في مسألة تصويب المجتهدين، وإلزامه المصوِّبة بتصويب مخالفيهم في قولهم:
- تقولون: إن كل مجتهد مصيبٌ، ونحن مجتهدون في قولنا: إنّ الحقّ في واحد، فينبغي أن نكون مصيبين، ولم يكن لكم أن تحكموا ببطلان قولنا، ولم يكن لكم المطالبة.
فإن قيل: إنّما نقول: كلُّ مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، وهذه من مسائل الأصول، وهي معلومة.
فالجواب: أنه لا فرق بين مسائل الفروع ومسائل الأصول في هذا؛ لأنّ الدلائل فيها تتقارب، ومسائل أصول الفقه إنما يُقصد بها مسائل الفروع؛ فما جاز أن يقال في مسائل الفروع؛ جاز أن يقال في مسائل الأصول. «التعليقة الكبرى» (٢٠/ ٢٩٢).