بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يتخوف كثيرًا من الدعاة والوعاظ على الناس من الانتكاسة والخاتمة السيئة، وهذا خوف محمود فكل إنسان يخاف على نفسه من الانتكاسة وميتة السوء ونتذكر قول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا • إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 74، 75]، وما جاء في السنة المطهرة ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "فوالله إن أحدكم - أو الرجل - ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غيرُ ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
وقول الرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ".
ولكن مما يتميز به دين الإسلام والداخلين فيه أنهم مهما وقع منهم من المعاصي والأخطاء لا يصل بهم ذلقصة ك إلى الردة وهو ما دل عليه الحديث الطويل المشهور حديث أبو سفيان مع هرقل حين حدثه عن الذين يدخلون في دين الإسلام. قَالَ هرقل لأبي سفيان: فَهلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ منهمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فقال أبو سفيان: لَا، وما ورد في قصة ردة الصحابي عبيدالله بن جحش وتنصره فإن الأخبار الواردة في ذلك لا تصح في مقياس أهل الحديث.
وما نحن بصدده هو الحديث عن قصص لا اعتقد صحتها ومنها ما ذكره الحافظ الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: أنّ مقرئًا سافر إلى بلاد الكفار لقضاء مهمة، فانسلخ من دينه وتنصَّر وبقي هناك، ثم قال الذهبي: قال ابن النجار: سمعتُ عبد الوهاب بن أحمد المقرئ يقول: كان ابن السّقّاء مُقرِئًا مُجوَّدًا، حدّثني من رآه بالقسطنطينية مريضًا على دَكَّة، فسألته: هل القرآن باقٍ على حِفظك؟ قال: ما أذكر منه إلاّ آيةً واحدةً: {رُبَما يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مُسلمين} (الحِجر، 3)، والباقي نسيته!!!
وما ذكره ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم في ترجمة عبدة بن عبد الرحيم: كان من أهل الدين والجهاد، أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْن طَاهِرٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بكر البَيْهَقيّ، أَخْبَرَنَا الحاكم أبو عبدالله مُحَمَّد بْن عبدالله قَالَ: سمعت أبا الحسين بن أبي القاسم المذكر يقول: سمعت عمر بن أَحْمَد بن علي الجوهري يقول: أخبرني أبو العباس أَحْمَد بن علي قَالَ: قَالَ عبدة بن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم، فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأ للقرآن منه، ولا أفقه ولا أفرض، صائم النهار، قائم الليل، فمررنا بحصن فمال عنه العسكر، ونزل بقرب الحصن، فظننا أنه يبول، فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن، فعشقها فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك؟ قالت: حين تنصر ويفتح لك الباب وأنا لك.
قَالَ: ففعل فأدخل الحصن، قَالَ: فقضينا غزاتنا في أشد ما يكون من الغم، كأن كل رجل منا يرى ذلك بولده من صلبه، ثم عدنا في سرية أخرى، فمررنا به ينظر من فوق الحصن مع النصارى، فقلنا: يا فلان، ما فعلت قراءتك؟ ما فعل علمك؟ ما فعلت صلواتك وصيامك قَالَ اعلموا أني نسيت القرآن كله ما اذكر منه إلا هذه الآية: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر3،2).
وما ذكره أيضا في كتابه ذم الهوى: وَبَلغنِي عَنْ رَجُلٍ كَانَ بِبَغْدَادَ يُقَالُ لَهُ صَالِحُ الْمُؤَذِّنُ أَذَّنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكَانَ يُعْرَفُ بِالصَّلاحِ أَنَّهُ صَعَدَ يَوْمًا إِلَى الْمَنَارَةِ لِيُؤَذِّنَ فَرَأَى بِنْتَ رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ كَانَ بَيْتُهُ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَافْتُتِنَ بِهَا فَجَاءَ فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَالَتْ مَنْ فَقَالَ أَنَا صالِحٌ الْمُؤَذِّنُ فَفَتَحَتْ لَهُ فَلَمَّا دَخَلَ ضَمَّهَا إِلَيْهِ فَقَالَتْ أَنْتُمْ أَصْحَابُ الأَمَانَاتِ فَمَا هَذِهِ الْخِيَانَةِ، فَقَالَ إِنْ وَافَقْتِنِي عَلَى مَا أُرِيدُ وَإِلا قَتَلْتُكِ، فَقَالَتْ لَا إِلا أَنْ تَتْرُكَ دِينَكَ فَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنَ الإِسْلامِ وَمِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ثُمَّ دَنَا إِلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّمَا قُلْتُ هَذِهِ لِتَقْضِي غَرَضَكَ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى دِينِكَ فَكُلْ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَأَكَلَ قَالَتْ فَاشْرَبِ الْخَمْرَ فَشَرِبَ فَلَمَّا دَبَّ الشَّرَابُ فِيهِ دَنَا إِلَيْهَا فَدَخَلَتْ بَيْتًا وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ وَقَالَتِ اصْعَدْ إِلَى السَّطْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَبِي زَوَّجَنِي مِنْكَ فَصَعَدَ فَسَقَطَ فَمَاتَ فَخَرَجَتْ فَلَفَّتْهُ فِي مَسْحٍ فَجَاءَ أَبُوهَا فَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَخْرَجَهُ فِي اللَّيْلِ فَرَمَاهُ فِي السِّكَّةِ فَظَهَرَ حَدِيثُهُ فَرُمِيَ فِي مَزْبَلَةٍ.
وغير ذلك من الروايات المتعددة تُروى بصياغات مختلفة حول رجل افتتن بامرأة وارتد عن دينه، وهذه القصص تُروى بهدف التحذير من سوء الخاتمة، وخطورة الفتن، وأهمية الثبات على الدين، دون التدقيق والتمحيص في مثل هذه الروايات.
فمنهج المؤرخين يختلف عن منهج المحدثين في قبول الأخبار فالمحدثون يضعون معايير صارمة جدًا لقبول الروايات (مثل صحة السند، عدالة الرواة، عدم الشذوذ أو العلة) وخاصة فيما يتعلق بالأحكام في الشرع، بينما يتم التساهل في نقل الأخبار والروايات التاريخية، فالمؤرخ قد يورد الرواية لمجرد وجود سند لها أو لشيوعها، دون التدقيق في كل تفاصيل المتن (المضمون) بنفس صرامة المحدث، فقد كانت هناك مرونة في نقل الروايات التي لا تتعلق بالعقائد والأحكام، بهدف تحقيق الفائدة العامة (العظة والتربية).
فجوهر القصص المذكورة يثير التساؤل!! فهي تتلخص في شخصيات كانت على قدر عظيم من العبادة والاجتهاد؛ وحفظ للقرآن، ومجاهدون في سبيل الله كانت نهايتهم مأساوية (الارتداد عن الدين).
والأكثر إثارة للدهشة هو الاشتراك في البعض تفاصيل القصة بين المجاهد في سبيل الله وبين المؤذن بأن كليهما نسي القرآن الكريم بالكامل، إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر: 3).
ففي قصة عبده بن عبد الرحيم، ارتبط ارتداده بفتنة امرأة رومية عشقها أثناء حصار المسلمين لمدينة في بلاد الروم، فتنصر من أجلها. أما قصة ابن السقّاء، فتذكر أنه شوهد في القسطنطينية (بلاد الروم) مريضًا وقد نسي القرآن كله ما عدا الآية ذاتها.
العديد من النقاط في القصتين تثير الشك حول دقتهما التاريخية، وتجعلنا نميل إلى اعتبارهما أقرب إلى القصص الرمزية الوعظية وليست خبرًا صحيحًا منها على سبيل المثال:
1- نسيان القرآن كاملًا إلا آية واحدة: هذا التفصيل يبدو مبالغًا فيه من الناحية الواقعية. فنسيان حافظ للقرآن لكل ما حفظه بهذه السرعة والشمولية أمر نادر للغاية، خاصة في ظل عدم وجود سبب عضوي. الأرجح أن اختيار هذه الآية تحديدًا يعمق الدلالة الوعظية؛ فهي تتحدث عن ندم الكافرين وتمنّيهم لو كانوا مسلمين يوم القيامة، مما يمثل رسالة قوية للمرتد عن دينه.
2- اغتمام الجيش بأكمله لشخص واحد!! على الرغم من فداحة الردة، فإن اغتمام جيش بأكمله لدرجة تأثيره على سير الغزوة يبدو مبالغًا فيه. الجيوش في حال الحرب تكون أولوياتها قتالية بحتة، والانشغال العاطفي بهذا الشكل يكاد يكون مستحيلًا. هذا التفصيل يهدف إلى إظهار مدى شناعة الفعل في أعين المجتمع المسلم، وكأنه كارثة كبرى أصابت الجميع.
3- تعتبر حال الحرب ليست حالًا للعشق فمن غير المنطقي أن يجد مجاهد في قلب حصار عسكري فرصة لقصة حب وعشق تؤدي به إلى الارتداد، فبيئة المعركة لا تسمح بمثل هذه التفاعلات والأحداث، وتضارب الأولويات هنا يبدو غير واقعي.
4- غياب التفاصيل التاريخية الأساسية: تفتقر هذه القصص إلى أي تحديد دقيق للمكان أو الزمان أو نتائج الغزوة. هذا الغياب يشير إلى أن التركيز ليس على توثيق حدث تاريخي بعينه، بل على رسالة وعظية عابرة للزمان والمكان.
5- غياب دور النصح والإنكار فمن المفترض أن يضم الجيش قادة وعلماء ورفاقًا، ومن واجبهم الديني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لم تذكر القصتان أي محاولة جادة في نصح هذه الرجل الذي افتتن بالمرأة وارتد عن دينه!!
ولا شك أن إيراد مثل هذه الاخبار والقصص غير الصحيحة، أو التي تحمل مبالغات كبيرة دون تدقيق أو تحقيق، يمكن أن يكون له آثار سلبية متعددة على الأفراد والمجتمعات، فيحصل بسبب ذلك تشويه صورة الدين والتاريخ الإسلامي، فعندما تُروى القصص الوعظية المبالغ فيها كحقائق تاريخية دقيقة، يصبح من الصعب على الأجيال اللاحقة التمييز بين ما هو حدث فعلي وما هو عبرة رمزية.
هذا قد يؤدي إلى فهم مشوه لطبيعة الأحداث والتحديات التي واجهها المسلمون في الماضي، وقد يفقد الباحث أو القارئ الثقة في المصادر التاريخية والتراثية بشكل عام، حتى لو كانت تحتوي على كنوز من المعارف الصحيحة، وقد تصل الأمور إلى مرحلة الشك في الثوابت مما قد يهز مستوى العقيدة في نفوس المسلمين.
ويحصل بسبب ذلك أيضًا تشويه لصورة العلماء أو المؤرخين الذين أوردوا هذه القصص دون تدقيق كأنهم أقل حرصًا على الحقيقة، مما يقلل من قدرهم في أعين البعض، رغم أن منهجيتهم في عصرهم كانت مختلفة عن معايير التحقيق الحديثة.
وربما يظن البعض أن مصير الارتداد بهذه السرعة أمر شائع، في حين أنه استثناء، مما قد يولد يأسًا أو خوفًا غير مبرر، أو على العكس، قد يقلل من جدية الثبات على الدين إذا اعتقدوا أن الأمر كله يعود إلى (قدرة إلهية) غير مفهومة.
وقد يكون لذلك تأثيرًا على المنهجية العلمية والبحثية فإيراد القصص دون تحقيق قد يكرس منهجًا في التعامل مع النصوص يعتمد على النقل دون التمحيص النقدي، وهو ما يتعارض مع روح البحث العلمي الذي يدعو إلى التدقيق والتحقق من كل معلومة.
والأشنع في هذا الأمر استغلال أعداء الإسلام أو المشككون هذه القصص المبالغ فيها لتقديم صورة مشوهة عن الدين، والادعاء بأنه يقوم على الخرافات أو الأحداث غير المنطقية، مما يطعن في مصداقيته.
فرسالتي إلى كل واعظ وناصح بصفتك واعظًا ومرشدًا، أنت مؤتمن على ما تُقدمه للناس. كن حريصًا على تحري الدقة قدر الإمكان، ولا تنقل كل ما تجده في الكتب دون تمحيص. هذا يُعزز من مصداقيتك ويجعل لوعظك تأثيرًا أعمق وأبقى.إن الوعظ المؤثر هو الذي يجمع بين قوة العبرة وصدق المعلومة، لينير القلوب ويثبتها على الحق.