مع بداية العام الدراسي

131
6 دقائق
3 ربيع الأول 1447 (27-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

معاشر المؤمنين الكرام: قريبًا بإذن الله ينطلقُ قطارُ التعليمِ من جديد، وتنطلقُ معهُ حياةٌ جديدةٌ، مِلؤها التفاؤلُ والأمل، وإنه لأمرٌ يستحقُ التفكُّرَ والتأمُّل. كيف وقد قال :"مَن سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة". [مُسلم]. نسألُ الله بمَنِّهِ وكرمهِ أن يجعل هذا العام الدراسي الجديد عامَ خيرٍ وبركةٍ وتوفيق.

العلمُ هو العِزُّ الرَّفيعُ، والشَّرفُ الوَسيعُ.

العِلْمُ زَيْنٌ وَتَشْرِيفٌ لِصَاحِبِهِ *** فَاطْلُبْ، هُدِيتَ فُنُونَ العِلْمِ وَالأَدَبَا

العِلْمُ كَنْزٌ وَذُخْرٌ لَا نَفَادَ لَهُ *** نِعْمَ القَرِينُ إِذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا.

والعلم الشرعي هو أعظم العلوم وأشرفها، ففي الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: "من سلك طريقا يطلب فيه علما؛ سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظ وافر".

وطلب العلم والتفقه في الدين دليل على محبة الله للعبد، ففي صحيح البخاري: قال : "‌من ‌يرد ‌الله ‌به ‌خيرا ‌يفقهه ‌في ‌الدين"، وفي صحيح البخاري أيضًا: قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

وقد أثنى الله على العلماء، بقوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وأشاد بعلو قدرهم، بقوله: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}. وقرن الله شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، على أشرف مشهود وهو التوحيد، فقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.

هذا شيء من فضل العلم وعلو مكانته. ومع بدايةِ كلّ عامٍ دراسي، تستنفرُ الجُهود، وتنفقُ الأموال لتوفير متطلباتٍ التعليم. فلعلَّنا لا ننسى أن نستعدَ بما هو أولى وأحرى من ذلك. أن نُهيّئ أبنائنا ونعلمهم كيفَ يتعلمون. ونبين لهم الهدفَ العظيمَ من رحلة التعلم الطويلة، ونذكرهم باحتساب الأجرِ عند الله، وأن نغرسِ فيهم معاني التعاونَ على البر والتقوى، وحبِّ الخير للغير، وأن نحثهم على التآخي والتعاون فيما بينهم لتتحقّقَ استفادتهم، وتتضاعفَ أجورهم، فهم إخوةٌ في الله والدين والوطن.

كما ينبغي أن يعلموا جيدًا أنّ المتعلِمَ لن يحققَ أهدافهُ السّاميةَ، إلا إذا توكلَّ على ربه ثم أعتمدَ على نفسه فعلَّمَ نفسهُ بنفسه، ولن يتم ذلك إلا أن يملكَ الطالبُ رغبةً شخصيةً قوية، وإرادةً واندفاعًا ذاتيًا، يجعلهُ يُحسنُ تنظيمَ أموره، ويُجيدَ استغلالَ وجدوَلَةَ أوقاته، ويتقنُ فنَّ توظيفِ مواهبهِ وامكانياته، ليحقق بإذن الله كل أهدافهِ وغايته.

وعلينا معاشرَ الأولياء أن نعي جيدًا أنّ مهمةَ التربيةِ والتّعليم ليست مُقتصرةً على المدرسة فقط؛ بل إنّ لنا فيها النصيبَ الأوفر، والجزءَ الأكبر، ونحنُ المخاطبون بقول اللهِ جلّ وعلا: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. قال عليٌ رضي الله عنه في تفسيرها: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}: أي: علِّمُوهم وأدِّبوهم. بل إنّ رسولَ الله يقرّرُ أنّ المربيَ والمعلمَ الأول للولد هو وَالِداه، كما جاء في الحديث المتفقِ عليه قال ﷺ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِهِ أَوْ يُنَصرَانِهِ أَوْ يُمَجسَانِهِ".

ويا معشر المربين الكرام: أيها المعلمون الأفاضل: نبيكمقد أكبرَ من شأنكم، وأعلى من مقامكم، حين قال في حقكم: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، وإِن اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتى النّمْلَة فِي جُحْرِهَا، وَحَتّى الْحُوت لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ". وفي محكم التنزيل العزيز: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

وما أجملها من سيرة، أن تَمضِي سَّنَوَاتُ المُعَلِّم وتنقضي زهرةُ شبابه وَهُوَ في أَروِقَةِ التعليم وفُصُولِ الدراسة، بَينَ طُلاَّبِهِ يُرَبِّي وَيُعَلِّمُ، وَيَنصَحُ وَيُوَجِّهُ، يغرس الفضائل، وَيُقَوِّمُ الأَخلاقَ، ويهيئ الأَجيَالَ للمُستَقبَل، فَإِذَا التَفَتَ بَعدَ سَنَوَاتٍ، وَجَدَ مِن طُلاَّبِهِ الإِمَامَ وَالخَطِيبَ، وَالشَّاعِرَ وَالأَدِيبَ، وَالمُهَندِسَ وَالطَّبِيبَ، وَالضَّابِطَ الأَرِيبَ، وَرَجُلَ الأَمنِ اللَّبِيبِ، وغيرهم من قادة المجتمع ورموزه، فَلْيَهنَأِ المُعَلِّمُونَ وَإِن تَعِبُوا، وليطيبوا نفسًا وَلْتَقَرَّ أَعيُنُهُم فإنَّ لَهُم في كُلِّ بَلَدٍ وَلَد، وَفي كُلِّ مَكَانٍ إنسَان، أجور مستمرة لا تتوقف، فما مِن كَبِيرِ قَومٍ وَلا صَاحِبِ جَاهٍ وَلا مسؤول، إِلاَّ وَلَهُم عَلَيهِ بَعدَ اللهِ فَضلٌ في بِنَاءِ شَخصِيَتِهِ، وَتَنمية عَقلِهِ، وَتَزكِيَةِ نَفسِهِ.

فيا مشاعلَ النورِ والرحمة: ما كان للهِ يدومُ ويتصل، وما كان لغيره ينقطعُ ويضمحل، فأخلصوا لله القولَ والعمل. فأجرُ الدنيا قليل، والآخرةُ خيرٌ وأبقى، ولأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم.

يا مفاتيح الخيرِ والإصلاح: إنّ لكم في رسول الله اسوة حسنة، قال معاوية بن الحكم رضي الله عنه: *فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي*، والحديثُ في مسلم، وفي حديثٍ صحيح: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "صحبت رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي أفٍ قطُّ"، وقال جرير رضي الله عنه وأرضاه: *ما لقيتُ النبيّ ﷺ إلا تبسمَ في وجهي*. وتأملوا يا رعاكم الله مطلعَ سورِة الرحمن، {الرحمن • علم القرآن}، لتتيقنوا أنَّ الرحمةَ هي أهمُّ وآكدُ صفاتِ المعلم، وأنَّ المعلِّمَ بلا رحمةٍ مُفتقدٌ لأهمَّ مقوماتِ نجاحه.

يا مشاعل النورِ والهدى: نعلمُ أن الأجيالَ تغيرت، وأن الملهياتِ والشّواغلَ قد كثرت، فهل الحلُّ في التّضجر والشّكوى، واليأسِ من صلاح الأحوال. كيفَ وأنتم تعلمون: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}.

والشّاعرُ يقول:

مالي أراكَ محطَمًا.

يعلو مُحَياكَ الحَزَن.

تشكو بصوتٍ يائسٍ.

وتقولُ قد فسَدَ الزَّمن.

وتقولُ هذا الجيلُ ضاعَ شبابهُ وسطَ الفِتن.

وفقدتَ أَملَكَ مُصلِحًا.

والأمرُ ليسَ كما تظُن.

فاللهُ شاءَ لحكمةٍ أزليةٍ أن نُمتَحن.

والمجدُ حتمًا لا يكونُ.

بلا كفاحٍ أو ثمن.

فانهضْ ولا تشكُ الظروفَ.

فما شكا إلا الوَهِن.

وابذُل جهودك مُخلصًا.

إنَّ النجاحَ له ثمن.

(ما لمْ تقمْ بالحِمل أنتَ. فَمَنْ يقوم به إذن). لك في رسول اللهِ أحسَنُ أُسوةٍ، فاقفُ السَنَن. واللهُ نِعمَ المستعانُ لعبده، فبهِ استعِن.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.

اتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب}.

أيها الطلاب الأعزاء، أيها الأبناء النجباء: كم نتألم كثيرًا عندما نرى أحدكم يتبرمُ ويتأفّف، لأنَّ وقتَ الدراسةِ قد اقترب. ما السببُ يا ترى؟؟. ألستم تتفقهونَ في أمور دينكم، وتُنمُّون عقولكم، وتوسِعون مدارككم، فهل يكرهُ عاقلٌ مثل هذا. لكن لعلكم تشعرون بأنكم مُكرهونَ على هذا، فلا عجبَ أن يُصبحَ العلمُ مملًا وثقيلًا، إذ لا لذةَ مع الإكراه.

وإلا فأسلافكم كان لهم شأنٌ عجيبٌ مع التعلم، وما كان أحدٌ منهم يملكُ مِعشارَ ما عندكم من الوسائلِ المعينة، ومع ذلك فلذةُ العلمِ عندهم لا توصف، ونهمُهم مِنهُ لا ينقضي. تأمّل معي ما يقولهُ الإمامُ ابن القيم رحمه الله:

*العلم: حياةُ القلوب، ونورُ البصائر، وشفاءُ الصدور، ورياضُ العقول، ولذَّةُ الأرواح، وأُنسُ النفوس، ثم يقول رحمه الله: هو الصّاحبُ في الغربة، والمحدِّثُ في الخلوة، والأنيسُ في الوحشة، والكاشِفُ عن الشُبهة، مذاكرتهُ تسبيح، والبحثُ عنه جهاد، وطلبهُ قربة، وبذلهُ صدقة، ومدارستهُ عبادة، والحاجةُ إليه أعظم من الحاجة إلى الشراب والطعام*.

وهذا شاعرٌ يناجي ولده فيقول:

(أيا ولدي) دعوتُك لو أجبتا.

إلى ما فيهِ عزُّكَ لو علمتا.

إلى علمٍ تكونُ به إمامًا.

مُطاعًا إن نهيتَ وإن أمرتا.

ويكشِفُ ما بعقلكَ من شكوكٍ.

ويهديك الطريقَ إذا ضللتا.

وتلبسُ مِنه فوقَ الرأسِ تاجًا.

ويكسُوكَ الجمالَ إذا نطقتا.

وكنزٌ لا تخافُ عليه لصًا.

خفيفُ الحملَ يوجدُ حيثُ كنتا.

يزيدُ بكثرة الإنفاقِ منه.

وينقصُ كلّما عنهُ ابتعدتا.

ينالك نفعهُ ما دمتُ حيًا.

ويبقى ذِكرُهُ لكَ إن ذهبتا.

فبادرهُ وخذ بالجدِّ فيهِ.

فإن أعطاكهُ اللهُ ربحتا.

فالله الله بنيَّ المبارك، اطلب العلمَ بإخلاصٍ وتجرّد، واجعل نُصبَ عينيك قول حبيبك المصطفى : "من سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهلَ اللُه لهُ طريقًا إلى الجنة". والزم تقوى الله، فمَن اتقى الله فتحَ اللهُ له من أبواب العلمِ والفهمِ ما لا يخطرُ له على بال، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قال الإمام الثعالبي: من اتقى الله عُلّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدُّنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ اللهِ وما والاه، وعالِمًا أو متعلمًا.

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق • خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق • اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم • الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم • عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم}. ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق