المشهد كاملًا

40
5 دقائق
22 ربيع الأول 1447 (15-09-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فقد نزل مجموعة من الصالحين بقرب حي من الأحياء، فجاءهم رجل من الحي، فقال: إن عندهم مريضًا، فهل يمكن مساعدتهم؟

فقال أحدهم: نعم؛ أنا أقرأ عليه القرآن، ولكن لا أرقيه إلا بمقابل!

كان الرد صادمًا، فالأصل أن المؤمن يساعد غيره ابتغاء ثواب الله، خاصة أنه سيقرأ عليه القرآن، ولن يكلفه جهدًا كبيرًا!

والغريب أنّ هذا الموقف اتفق المجموعة من الصحابة، والذي لم يقرأ إلا بمقابل أحدهم!

ولو وقفنا عند هذا الحد لظل في النفس تساؤل، وأخذ ورد فهل أصاب أم أخطأ؟ ولو بذل دون مقابل ألم يكن أقرب لهدي النبي، فلما لدغ رجل فقال أحدهم: يا رسول الله أرقي؟

قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل"(1).

ولو أخذنا المشهد كاملا لزالت التساؤلات من الذهن وعرفنا أن هذا الصحابي الله كان على صواب، وقد أقره رسول الله على ذلك، فعن أبي سعيد الله، قال: *انطلق نفر من أصحاب النبي في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين؛ فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبَةٌ (۲)، قال: فأوفوهم جُعْلَهُمُ الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية"، ثم قال: "قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهما فضحك رسول الله "(3).

فلما قرأناه كاملا فهمنا لم امتنع الصحابي عن القراءة إلا بمقابل؟، وأنهم لما لم يضيفوهم امتنع من مساعدتهم إلا أن يجعلوا لهم جعلا؛ جزاء وفاقًا، وهذا من العدل ومن الحكمة، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله - من فوائد هذا الحديث: وفيه: مقابلة من امتنع من المكرمة بنظير صنيعه؛ لما صنعه الصحابي من الامتناع من الرقية في مقابلة امتناع أولئك من ضيافتهم، وهذه طريق موسى اللي في قوله تعالى لَوْ شِئْتَ لَا تَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ولم يعتذر الخضر عن ذلك إلا بأمر خارجي (4).

ومثل هذا الموقف كثير في التاريخ والذين في قلوبهم مرض يروون جزءًا من المشهد، ولا يروونه كاملًا خاصة إن كان في روايته كاملًا رد على باطلهم، ودحر لشبهتهم، فهم يكتفون بما يؤيد شهوتهم، وينصر شبهتهم، ويصدقهم المغفلون الذين لا يبحثون عن الحقائق، ويستسمنون أهل الورم والمرض.

والأمثلة كثيرة، فهناك من يقول: إن المسلمين في عصر رسول الله يسترقون الأسرى ويجعلونهم عبيدًا، ويقف هنا، ويتساءل المستمع: لم وهو دين الحرية، والرحمة؟!، ويتسلل الشك إلى قلوبهم، ولو نظرنا إلى المشهد كاملا، لرأينا الكفار يصنعون مثل ذلك وأشد منه، فهم يسترقون المسلمين ويجعلونهم عبيدا، والمسلمون عاملوهم بالمثل جزاءً وفاقًا، وهل يُعقل أن العدو يأخذ المسلمين ويجعلهم عبيدا ويعذبهم ثم يأتي ويقاتل المسلمين ليسترقهم، فإذا تمكنوا منه جعلوه حرًا طليقًا؟! هذا غفلة وليست رحمة! فما يلبث أن يعود إضافة إلى أن تعامل المسلمين مع الأسرى والعبيد يختلف تمامًا، وفتحوا لهم نوافذ كثيرة للحرية، لا تخفى.

ويقول أحدهم مستغربًا إن أبا بكر الله قال لعروة بن مسعود: *امصص بظر اللات*، فكيف تخرج هذه الكلمة من هذا الفم الطاهر، وهذا الرجل الأسيف الرقيق؟! ولكن عندما نقرأ الموقف كاملًا، وهو أنّ عروة قبل أن يسلم أتى إلى الرسول الله في صلح الحديبية، وكان من قوله لرسول الله : *فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أوشابًا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر الصديق: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ *(5).

فكان هذا هو الرد المناسب له قال ابن حجر - رحمه الله -: *وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك*(6).

والأمثلة كثيرة، حتى في حياة الناس اليوم، فبعضهم يروي القصة من جهته، ويكتفي بذلك، وهو صادق فيما يرويه، ولكنه لم يقل الموقف كاملا، ولم يذكر القصة من أولها، ومن يستمع له قد يسيء الظن بالطرف المقابل، ولو سمع القصة كاملة، لعلم أنه محق في تصرفه، أو – على الأقل - قابل الإساء بالإساءة، وعاقب بمثل ما عوقب به.

قلت لأحد القضاة هذه السنوات التي قضيتها في القضاء، ماذا استفدت؟

فقال: استفدت أني لا أصدق الأول.

إن كثيرًا من الناس يخفون جزءًا من الحقيقة، ويتجاوزون بعض الأحداث، أو يروون المشهد ناقصًا، وقد يكون هذا مقبولًا عندما لا يكون فيه ظلم، ولا يتعلق بغيرهم، أو في روايتها كاملة مضرة على مسلم، أو لا فائدة من الرواية كاملة، أما إن كان العكس، بأن يكون في الإخفاء والبتر ظلم، وتشويه للآخرين؛ فهذا من الكذب والبغي والعدوان.

زار شخص مدينة من المدن وتذكر أنّ فيها فلانًا، فاتصل به مرة ومرتين وثلاثا، فلم يجبه!

وعندما تحدث هذا بما وقع له سألت صديقه - سرًا - عن عدم الرد، فقال لي: لقد أتيت مدينة هذا مرات وكرات، وقابلته مئات المرات، ولم يضيفني، ولم يقل لي يومًا ولو بالخطأ أو بالنسيان: تفضل عندي!

فتبين أنه لم يرد؛ جزاء وفاقًا، ويريد أن يعطيه درسًا لعله إن تكرر له مثل هذا الموقف مع أناس كثر أن يستيقظ، أو يغير شيئًا من نفسه، أو بما أنه اختار طريق البخل لنفسه ألا يطلب من الناس أن يعاملوه بالكرم؛ فليعذر الناس إن اعتذروا منه وليس كل الناس يستطيع أن يتعامل بالفضل والعفو والصفح، بل إن الفضل ليس فضلًا دائما ولكل الأشخاص، فبعضهم من التفضل عليه ألا تكرمه وتعامله بالمثل والهجر، والاعتذار حتى لا يظن أن الناس مغفلون، وأنه الذكي الألمعي، الذي يأخذ من الناس ما يريد، ولا يعطيهم ما يريدون، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وليس بالحب، ولا الحب يخدعه.

كل الناس يتحدثون عن الناس، والعاقل لا يستعجل التصديق، ويحمل في قلبه على أخيه، ولا بد أن يتساءل: فلان الذي تتحدث عنه مشهود له بالكرم والخير، فلم قال لك كذا؟ أو لمَ لمْ يضيفك؟ ما مواقفك معه؟ وما السبب؟ وما ذا قلت؟

وعندما يُعرف الموقف كاملا، وتروى الحقيقة، يتبين أن فلانا كان محق بقوله أو فعله، وأن الناقل يستحق ما وقع له وأكثر.

في المجالس نسمع عن مواقف وكلمات صدرت من موظف أو معلم أو أب أو أم أو غيرهم، والمتحدث صادق والكلام مستغرب ولم يُعهد عمن نقل عنهم، فمن الحكمة أن يسأل المستمع عن السبب، فقد يكون المراجع أو التلميذ أو الابن قام بعمل أو قال قولًا أخرج هؤلاء عن حالهم أو طورهم.

وكذلك في الفتوى عندما ينقل أحدهم جوابًا عن شيخ فيه غرابة، فمن الحكمة أن يُطلب من الناقل صيغة السؤال حتى يُفهم على ضوئه الجواب.

كم نحن بحاجة إلى رؤية المشهد كاملًا أو سماعه كاملًا في حياتنا الزوجية، والأسرية، وفي وظائفنا، ومع الطلاب والأساتذة والمشايخ، والناس جميعًا!

كم من شخص سمع نصف الرواية فاستعجل بقرار، فلما اكتمل له المشهد ندم ندمًا شديدًا، وذهب يبحث عن حكم الطلاق الذي صدر منه، أو يبحث عن شفيع عند فلان ليعفو عنه!

كم من شخص ظُلم وأسيء الظن به؛ بسبب أحد الحاسدين أو المغرضين الذي روى نصف الحقيقة، واقتطع أجزاء من القصة لتصل مشوهة قبيحة فيا ويل الراوي والناقل دون أن يتثبت: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المصادر:

(۱) رواه مسلم، برقم: ۲۱۹۹.

(۲) قال الخطابي: *قوله: وما به قلبة: ما به داء، وإنما سمي الداء قلبة؛ لأن صاحبه يُقلب من أجله؛ ليُعالج موضع الداء منه*. أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) ۱۱۲۰/۲.

(3) رواه البخاري، برقم: ٢٢٧٦.

(4) فتح الباري ٤٥٧/٤.

(5) رواه البخاري برقم: ۲۷۳۱.

(6) فتح الباري ٣٤٠/٥.


مقالات ذات صلة


أضف تعليق