بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كنا ثلاث أسر في بيت واحد في حي من أحياء غزة حين دخلته الآليات وحلَّقت في سمائه الطائرات، وكان ذلك أول جمادى الآخرة في اليوم الثاني والأربعين من أيام الحرب.
واليهود لعنهم الله يترقبون أشد الساعات والأوقات حرجا فيشتد قصفهم فيها؛ كوقت منتصف الليل، وبعد الفجر، ووقت الإفطار والسحور في رمضان، ونحو ذلك.
وعادتهم غضب الله عليهم أنهم إذا أرادوا اجتياح حي وتخريبه أن يقصفوه بأحزمة نارية قوية ومرعبة، ثم تدخل على إثر ذلك الدبابات والمجنزرات. وصوت القصف الشديد في منتصف الليل يملأ قلوب أشجع الناس خوفا ورعبا (والمثبت هو الله)، فما بالك بالنساء والأطفال الصغار؟ وكان معنا في البيت عشرةُ أطفال.
اقتربت الآليات، واشتد القصف في تلك الليلة، وبدأت الطائرات والدبابات تصب الحمم والنيران، الصواريخ والقنابل في كل مكان حولنا، الموت يخطف الأرواح، والرعب يملأ المكان، والقصف يشتد ويشتد، فما شككنا والله ليلتنا تلك أننا ميتون. ولا قِبل لنا بالصواريخ والطائرات، ففزعنا إلى الذكر والدعاء والاستغاثة والتضرع، وما خاب ظننا ورجاؤنا في الله يوما.
استمرت هذه الحال ثلاث ليال، تخف وتشتد، وكنا عند شدة الحال نذهل عن أنفسنا ونلتفت إلى النساء والصغار، نصبرهم ونواسيهم، وكان يفصل بيننا وبينهم ستارة رقيقة، وبينما نحن على تلك الحال الشديدة، والأطفال والنسوة قد التصق بعضهم ببعض، ونحن الرجال على مقربة منهم، إذا بالأطفال يتمتمون بأشياء غريبة، واستغاثات عجيبة، مع بكاء يخلع القلوب ويصدِّع الجبال. ألقيت السمع، ونسيت والله كل شيء حولي، وصرت ألتقط هذه الضراعات (بدناش نموت يا رب، يا رب ارحمنا، يا رب احنا إيش سوينا، يا رب ليش بصير فينا هيك، يا رب انتقم من اليهود) وأقول في نفسي: لا يضيعنا الله مع هؤلاء الأطفال، ولئن كنا مذنبين مقصرين فإنهم ما عاقروا ذنبا، ولا عرفوا خطيئة. لقد سمعت أشياء من هذا الجنس، لكني ما رأيت مثل هذا، بل إني كلما تخيلت ذاك المشهد كاد قلبي يطير، وسَرَت في جسدي قشعريرة غريبة.
هل رأيتَ طفلا يدعو ويستغيث ويتضرع مع بكاء وعويل؟ إنه مشهد عظيم من مشاهد العبودية لرب العالمين، مشهد يملأ قلبك جلالا وإيمانا وعظمة.
مضت تلك الليالي، وبقي ذاك المشهد محفورا في أعماق قلبي لا أنساه، قرأت عن الضراعة والاستكانة وقت الشدائد في *الجامع* لابن رجب عند شرح حديث (احفظ الله يحفظك)، وفي *الزاد* لابن القيم في تعقيبه على غزة أحد، وفي *الظلال* لسيد في غير موضع، وفي *مآلات الخطاب المدني* للسكران في موضع بعيد عني الآن، وفي ورقاته التي كتبها فرج الله عنه بعد حرب مضت في غزة {إن الناس قد جمعوا لكم}، لكن هذا كله شيء، والذي رأيته شيء آخَر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين