بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كثير ممن فتح الله لهم فعاشوا مع القرآن ندموا على فوات الحياة دون العيش معه، فهذا ابن تيمية -رحمه الله - في آخر حياته يقول: * وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن*(1).
هذا وهو ابن تيمية الذي قضى عمره في العلم تعلمًا وتعليمًا وتأليفا، وفي الدعوة، والجهاد، يقول هذا الكلام، وإنه لشيء يدعو إلى الخوف والتفكر فيه، فما الذي وجد ابن تيمية، ليقول هذه الكلمة؟!
إن الحياة مع القرآن هي الحياة، ومن حرمها فقد حرم، مرّ على الدنيا، ولكنه لم يحي، فهو ميت، ميت يستنشق الهواء، ويأكل ويشرب ويذهب ويأتي وقد شبه رسول الله ﷺ الذي لا يذكر ربه بالميت، فقال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت"(۲).
وكثير من المسلمين مقتنعون بأهمية الحياة من القرآن، ولكنهم يحتاجون بعض الخطوات التي تعينهم على ذلك، وفي هذه المقالة ذكر لما ييسره الله منها:
- أن يستشعر المسلم عظمة القرآن وأنه كلام الله، فكلما كان القائل عظيمًا عظم كلامه، وحرص عليه العقلاء.
- أن يقرأ في فضائل القرآن، وما يعود عليه إن كان من أصحاب القرآن، فمن فضائله:
أ- أنه كتاب هداية للأقوم، وكتاب بشرى للمؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}.
ب- أن أهله أصحاب التجارة الرابحة التي لا تكسد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}.
ج- الأجر العظيم، والمكانة العالية، فإن كان ماهرًا به فهو مع السفرة الكرام البررة، وإن كان يتعتع فيه ضاعف الله له الأجر، قال: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران"(3).
د- طيب السمعة، والذكر، وارتياح الناس لقارئ القرآن يقول: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها، وطعمها حلو" (4).
*فالمؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث إن الإيمان في قلبه ثابت طيب الباطن، ومن حيث إنه يقرأ القرآن، ويستريح الناسُ بصوته، ويجدون الثواب بالاستماع إليه، ويتعلمون القرآن مثل رائحة الأترجة يستريح الناس برائحتها.
والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن طيب باطنه وذاته بالإيمان، ولكن لا يستريح الناس بقراءته القرآن، وهو كالتمر، طعمه حلو، وليس له رائحة يستريح الناس بها من البعد*(5).
ه - الرفعة في الدنيا والآخرة، قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين" (6). إلى غير ذلك من فضائل القرآن وكله فضائل ومكاسب، وغنائم، وكنوز.
- سلامة القلب وطهارته من سوء الأخلاق، وتطهيره من الصفات السيئة، كالغل، والحسد، والكبر والعُجب؛ فالقرآن عزيز، ولا يستقر في قلب غير طاهر، ولا يفتح كنوزه لنفس ملوثة، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله عز وجل» (7).
يقول ابن القيم رحمه الله -: «القلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة؛ فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح» (8). - اللجوء إلى الله أن يجعل القرآن ربيع القلب، ونور الصدر، وأنس الروح، وجلاء الهم، وذهاب الحزن والغم.
- قراءة القرآن بترتيل وتحبير على مكث وترق وعدم استعجال، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}، وقال جَل: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}، وقال: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكث}، «والترتيل في القراءة: الترسل والتثبت» (9).
- وعن مجاهد رحمه الله-، قوله: عَلَى مُكْث قال: «على ترتيل» (10).
وقال ﷺ: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن" (11). أخرجه الإمام مسلم - رحمه الله - في باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
وقال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" (12). - يقول ابن القيم -رحمه الله-: والصحيح أنه من التغني بمعنى تحسين الصوت، وبذلك فسره الإمام أحمد - رحمه الله-، فقال: يحسنه بصوته ما استطاع (13).
وما من شك أن حافظ القرآن يحتاج إلى قراءة القرآن حدرًا وقت المراجعة، والتسميع، ولكن لا تكون قراءته دائما بهذه الطريقة أي: الحدر، بل لا بد أن يجعل له وقتًا لقراءة الترتيل والتدبر، ووقتا لقراءة المراجعة. - تعلم اللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها، وأساليب العرب وكلامهم، فالقرآن عربي ولا يفهم حق الفهم، إلا من فهم كلام العرب. يقول الشافعي - رحمه الله -: *لا يعلم من إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهل سَعَة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه، وتفرقها. ومن علمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلت على من جهل لسانها*(14).
ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: *فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه* (15). - عدم غبطة أحد من أهل الدنيا إلا أهل القرآن والصدقة، وجعلهم القدوات الذين يتمنى أن يلحق بهم ويصل إليهم، قال: *لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار* (16). فمن جعل همه اللحاق بهؤلاء تعلق قلبه بالقرآن والصدقة، ولم ينصرف عنهم بغبطة أهل الدنيا على أموالهم ومناصبهم ودنياهم.
- أن يجمع الإنسان نفسه وروحه وقلبه وهمه وعقله وكل جوارحه عند قراءة القرآن، فلا ينشغل عنه، ويستشعر أن الله يخاطبه بهذا الكلام، فإن ذلك من أسباب الفتوحات الربانية في القرآن، وهو أفضل وقت لقراءة القرآن عندما تجتمع نفسك لقراءته، يقول ابن القيم -رحمه الله-: *والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك*(17).
ويقول: * فمن قرئ عليه القرآن فليقدر نفسه كأنما يسمعه من الله يخاطبه به، فإذا حصل له مع ذلك السماع به وله، وفيه، ازدحمت معاني المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه وازدلفت إليه بأيها يبدأ، فما شئت من علم وحكم، وتعرف وبصيرة، وهداية وعبرة *(18). - الإنصات عند سماع القرآن قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، يقول الطبري -رحمه الله-: *يقول: أصغوا له سمعكم لتتفهموا آياته وتعتبروا بمواعظه وأنصتوا إليه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، يقول: ليرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم ربكم من فرائضه في آيه*(19). - كثرة قراءة القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}. فاستخدام الفعل المضارع (يتلون يفيد الاستمرار، فهم يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم. (20). حتى صارت سمة لهم وعنوانا (21).
- ترديد الآيات المؤثرة على النفس؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: «قام النبي ﷺ بآية حتى أصبح يرددها» والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحًكِيمُ} (22)، وذكر النووي -رحمه الله- في كتابه التبيان فصلا في استحباب ترديد الآية للتدبر، وفيه نماذج من ترديد السلف لآيات مؤثرة في نفوسهم (23)، وقال: *وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة، يتدبرونها، ويرددونها إلى الصباح*(24).
وكل قارئ يجد آية تلامس قلبه وتوقظه، غير الآية التي رددها غيره، وفي حال آخر يجد آية أخرى كذلك تلامس قلبه، وهكذا، إن وجد آية أيقظت قلبه، رددها. - التعزي بالقرآن والاستشهاد به في مواقف الحياة، فلما قال رجل يوم حنين لرسول الله ﷺ: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها تذكر رسول الله له مباشرة موسى العليا، وما قص الله عليه في القرآن من قصصه فقال: *فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر* (25). فكان في ذلك عزاء وسلوة وصبر.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: *إن رسول الله له طرقه وفاطمة بنت رسول الله ليلة، فقال لهم: "ألا تصلون"، قال علي فقلت يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}* (26).
فرسول الله ﷺ لم يرجع إلى علي رضي الله عنه بشيء، وتعزى بهذه الآية يرددها.
والقرآن كله عزاء وسلوة وقوة وصبر للمؤمن، ولكن هناك آيات تكون حاضرة في الموقف، فيثبت الله بها قلب المؤمن أو تُقرأ عليه فيثبت ويتماسك؛ فلما ارتحت المدينة بموت رسول الله ﷺ ثبتهم الله بآية تلاها عليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: (أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدًا ﷺ، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها (27)، وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت، حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات (28).
وعندما يُصاب المؤمن بجوع، أو خوف أو فقد عزيز، أو نقص مال، وثمار، يستحضر قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. فيعلم أن هذا ابتلاء وامتحان من الله، وأن البشرى، والهدى والفلاح للصابرين، الذين يوقنون بأن جميع ما بهم من نعمة فمن الله، فيقرون بعبوديته ويوحدونه بالربوبية، ويصدقون بالمعاد والرجوع إليه، فيستسلمون لقضائه، ويرجون ثوابه ويخافون عقابه، ويقولون عند امتحان الله لهم، وابتلائه إياهم بما وعدهم أن يبتليهم به من الخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي يمتحنهم بها: إنا لله وإنا إليه راجعون، فنحن مماليك ربنا ومعبودنا ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون؛ تسليمًا لقضائه، ورضا بأحكامه، فيعطيهم على اصطبارهم على محنه تسليمًا منهم لقضائه من المغفرة والرحمة أنهم هم المهتدون المصيبون طريق الحق، والقائلون ما يرضى عنهم، والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب (29).
وعندما يبتلى المؤمن بالسجن أو فراق ولد أو حسد إخوة، أو فتنة امرأة ذات منصب وجمال، فيتعزى ويصطبر بتلاوة سورة يوسف العليا.
وعندما يطول المرض، يتأسى بأيوب العليا.
والولد عندما لا يكون بارًا، يقول الوالد: صلى الله عليه وسلم على نوح اللي ابتلي بأكثر من هذا فصبر.
وعندما يخرج من امتحان، فيدخل في امتحان، وتتكرر عليه الابتلاءات، يقرأ قول الله لموسى العلا وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا وهو البلاء على إثر البلاء (30). فيطمئن قلبه، فقد تكون هذا الابتلاءات صناعة من الله له، ومحبة منه، فقد قال الله لموسى مع هذه الابتلاءات: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}.
والمرأة عندما تُبتلى بزوج فاجر بعيد عن الله يجاهدها على الفجور، وهي ثابتة لا تتزع، ولا تستطيع فراقه تسليها امرأة فرعون التي صبرت على فجوره، مع ثباتها على إيمانها، وقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وكذلك عندما يؤخذ منها طفلها تتعزى وتتقوى بقول الله: {لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}، وقوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}.
والأب عندما يهاجر تاركًا ذريته يتذكر دعاء إبراهيم اللي عندما ترك ذريته بواد غير ذي زرع، فيصبر ويثبت ويرفع يديه داعيًا الله لذريته، وكذلك تصبر المرأة عندما تتذكر أم إسماعيل التي صبرت وقالت لزوجها: الله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت (31)، فأتى من ذرية هذه المرأة الصالحة الصابرة رسولنا محمد ﷺ.
والآيات التي يتعزى بها المسلم كثيرة جدًا. - أنه عندما يمرض، أو يُحس بخوف أو قلق أو فوضى يفزع إلى القرآن، فيقرأ من آياته، وسوره، حتى يتعافى وتعود له طمأنينته وتسكن روحه وتترتب، وقد كانت هذه سنة رسول الله ﷺ والصحابة، والصالحين من بعدهم، فكانوا يتداوون بالقرآن، ويقرؤون على المرضى كتاب الله، قال الله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وعن عائشة رضي الله عنها: *أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها* (32).
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول والقوى عن حملها.
من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة قال: فلما اشتدّ علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلستُ وما بي قلبة (3۳).
وقد جربتُ أنا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيتُ لها تأثيرًا عظيما في سكونه وطمأنينته (34). - مجالسة أهل القرآن، وليس شرطًا أن يكون الجليس حافظًا له، بل قد يكون من أهل القرآن من لم يحفظه، ولكنه يدمن قراءته وتدبره والعيش معه، فتجد استشهاده، وقوته، وصبره وثباته بالقرآن ووقاف عند كلام الله يتأثر به، ويخشع، ويقشعر وقد يُحرم هذه الصفات من يكون حافظا لكتاب الله، فالقرآن في عقله وصدره كلمات دون معنى ومعنى دون عمل، ولا يقف عند آية، ولا يخشع قلبه، أو تدمع عينه عندما يقرأ كلام الله، أو يقرأ عليه.
فمجالسة الأول تزيد الإيمان وتحبب في القرآن وتفتح على القلب من فتوحات الله في كتابه، وأما الآخر فمجالسته السم والحمى والمرض المقعد. - القراءة في كتب التدبر والرقائق والسلوك، فهى تحيى القلب، وتزيده فهما لكتاب الله، وتعلقًا به.
- الوضوء والاستعاذة والبسملة قبل القراءة، والقراءة في مكان بعيد عن الملهيات كالجوال، وغيره.
- قيام الليل بالقرآن من أسباب ثباته في القلب، وفهمه، قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}، فـ "ناشئة الليل أشد ثباتًا من النهار وأثبت في القلب (35)، وعن مجاهد - رحمه الله -: *يواطئ سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضًا*(36)، وعن قتادة -رحمه الله-: *أثبت في الخير، وأحفظ في الحفظ* (37).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} يقول: *أدنى من أن تفقهوا القرآن* (38). ومن رزقه الله قيام الليل بالقرآن فقد ذاق طعم الحياة، وأوتي خيرًا كثيرًا.
هذا ما يسر الله كتابته في هذا الموضوع، وأسأله تعالى أن يرزقنا الحياة مع القرآن، وأن يجعله ربيع قلوبنا، ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وغمومنا، إنه سميع قريب مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
(1) ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب ٥١٩/٤.
(۲) رواه البخاري، برقم: ٦٤٠٧.
(3) رواه البخاري برقم: ٤۹۳۷، ومسلم، برقم: ۷۹۸
(4) رواه البخاري برقم: ۵۰۲۰، ومسلم، برقم: ۷۹۷
(5) المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري ٦٧/٣.
(6) رواه مسلم برقم: ۸۱۷.
(7) فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل ٤٧٩/١.
(8) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم ٥٥/١.
(9) تفسير الطبري ٤٤٦/١٧.
(10) المرجع السابق ١١٧/١٥.
(11) رواه البخاري برقم: ۵۰۲۳، ومسلم، برقم: ۷۹۲
(12) رواه البخاري، برقم: ٧٥٢٧.
(13) مدارج السالكين، لابن القيم ٤٨٥/١-٤٨٦.
(14) الرسالة، للشافعي ٤٧/١.
(15) مجموع الفتاوى، لابن تيمية ١١٦/٧.
(16) رواه البخاري برقم: ۵۰۲۵، ومسلم، برقم: ٨١٥.
(17) مدارج السالكين، لابن القيم ١١٠/١.
(18) المرجع السابق ٤٩٩/١.
(19) تفسير الطبري ٦٥٨/١٠.
(20) تفسير الزمخشري ٦١١/٣.
(21) تفسير البيضاوي ٤ / ٢٥٨.
(22) رواه النسائي، برقم: ۱۰۸۴، وابن ماجه برقم: ۱۳۵۰ قال النووي: “رواه النسائي وابن ماجه، بإسناد حسن". الخلاصة ٥٩٥/١.
(23) انظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي، ص ٨٥-٨٦.
(24) المرجع السابق، ص ۸۳.
(25) رواه البخاري برقم: ۳۱۵۰، ومسلم، برقم: ١٠٦٢.
(26) رواه البخاري برقم: ٧٤٦٥، ومسلم برقم ٧٧٥.
(27) رواه البخاري، برقم: ٤٤٥٤.
(28) المرجع السابق.
(29) انظر: تفسير الطبري ٧٠٦/٢، ۷۰۷.
(30) المرجع السابق ٧٠/١٦.
(31) رواه البخاري، برقم: ٣٣٦٤.
(32) رواه البخاري برقم: ٥٠١٦، ومسلم، برقم: ۲۱۹۲
(33) أي: داء. وأصله من القلاب، وهو داء يصيب الإبل، ثم استعمل في كل داء. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض ١٨٤/٢، مطالع الأنوار، لابن قرقول ٣٥٩/٥.
(34) مدارج السالكين، لابن القيم ٤١٧/٢.
(35) تفسير الطبري ٣٧٠/٢٣.
(36) المرجع السابق ٣٧٢/٢٣.
(37) المرجع السابق ٣٧٠/٢٣.
(38) المرجع السابق ٣٧٤/٢٣.