بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما برحت مخططات الكيد والمكر بالمسلمين تهدف إلى إلغاء دينهم الحق، وإذابة روح انبعاثهم، وعرقلة خطوات النهوض بقيمهم الإسلامية منذ أقدم العصور.
وتتقدم ملفات صهاينة اليهود غيرَها في هذا المجال. فالفتنة الماكرة التي أودت بحياة الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما تفرع منها من سلوك شائن، وعقائد فاسدة، وتقسيم لصف الأمة المسلمة، وبعثرة قوتها وقدرتها، هي صناعة يهودية بلا ريب.
واليوم وقد قويت شوكتهم واشتد بأسُهم بمساندة الصليبيين والوثنيين، واختلفت آراءُ المسلمين الذين أصابهم حبُ الدنيا وكراهيةُ الموت في سبيل الله في تفسير هذه الظاهرة، فمنهم من رمى الإسلام بالرجعية وبعدم القدرة على مواكبة الحضارة الباهرة في العصر الحديث، ومنهم مَن يرى وجوبَ المهادنة والاستسلام للأمر الواقع، ومنهم مَن يرى وجوب الأخذ بالتقليعات الحديثة من قومية واشتراكية وعلمانية وغيرها من صناعة شياطين الجن والإنس من الصهاينة والملحدين.
ومنهم مَن رفعَ لواء المنافسة لتكون الرئاسة بيد هؤلاء الذين طوعوا البر والبحر والجو لقوتهم المادية الهائلة. وقد تناسى هؤلاء أو غاب عن قراءاتهم الأسفارَ المطهرة لهذه الأمة، والتي فيها ما وعد اللهُ ورسولُه عليه الصلاة والسلامُ أمتنا من فتح ونصر، ومن نهاية محتومة وزوال قادم ليهود بإذن الله.
والمنافسة في الفضائل والمآثر والمنجزات لخير الناس مقبولة، وواجبة على رواد الإصلاح، وهي جسر لجودة تفعيل القيم وتجديد الهمم على منطلقات العطاء والإبداع. والمنافسة تحمي أهلها من حالات الترهل والتراخي. وهي من عناوين الإسلام العريضة، وبها تُفتح أبواب التفاهم للتقدم الحضاري، وتنحسر أمواجُ الشبهات والدعاوى الباطلة. ومخالفو هذا النوع من المنافسة يفقدون ثمرات التجرد من الهوى والكبر والحقد. وينأون عن مغاني الاتفاق على الحق، لأنهم يشعرون ببطلان حججهم وضحالة براهينهم، ولأن دافعهم هو مجرد ضرورة التغلب على الآخر، ولو بالجحود والتعالي. وهذه طبيعة غير دعاة الإسلام، مما يستلزم ردعهم عن تجاوزاتهم وسفاهاتهم.
فهم أصحاب مراء ومشاحنة، وطلاب شهرة، وأرباب تعصب أعمى. وربما حملوا في طيات نفوسهم مقاصد سيئة مسبقة دفعتهم إلى إنكار ثوابت الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ولقد حذر الله سبحانه من الانزلاق وراء هؤلاء على اختلاف مذاهبهم ونحلهم. وحسبنا أمر الله لموسى عليه السلام في وصيته لأخيه هارون عليه السلام: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
وها نحن نرى هؤلاء المفسدين في الأرض يسخرون معطيات التقدم العلمي في التدمير، وفي تخويف الناس بكل الوسائل الهمجية القذرة، وبكل المكائد الخبيثة للوصول إلى أهدافهم. وإلا فما معنى إلقاء آلاف الأطنان من أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل على الشعوب الآمنة في ديارها؟ إن حكاية المنافسة لا تصلح لمثل هؤلاء الطغاة المستكبرين، لأنهم لا يؤمنون بمنهج الرشد الإلهي الذي جاء لخير البشرية.
إن ما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي الشيشان وفي كشمير، وفي غيرها من بلاد المسلمين، وما جرى من قبل في الحربين العالميتين اللتين اختُتمتا بإلقاء القنابل الذرية على اليابان، لأدلة ناصعة على همجية الحضارة المشحونة بالحقد وبالعداء لدين الله تبارك وتعالى.
فأهل هذه الحضارة البائسة أعداء للبشرية، شركاء إبليس لعنه الله في هذا العداء القديم الجديد، وهم أعداء لكل منافسة شريفة طاهرة. لقد أصموا آذانهم عن نداءات الفطرة التي تدعوهم للخروج من محيط المخالفات والعداوات لدين الله الحق.
ومن براثن الحيل الشيطانية التي ناغمت أحاسيسهم غير المستنيرة بهدى الله، هدى الله الذي لا يقبل المواربة والمقايضة. ولا يرضى بهذا السلوك المشين الذي لا يمكن أن يرتقي إلى السمو والتكريم الذي أراده الله لعباده. فسلوكهم انكفأ عن كل قيم التصورات الحكيمة والعادلة التي تولد القدرة على تحديد المسؤولية الفردية والجماعية أمام الله خالق الخلق، ولعل الفقه بهذه الحقيقة ميدان خصيب لمن أراد اللهُ له الخير، وشرح صدره بنورها. ومجال رعاية حصيفة للفوز بمرضاة الله في دار الخلود، وهي منتهى الغايات النبيلة عند أهل النهى.
ومن ينكص عن هذه السبيل يقع بلا ريب في المستنقعات النتنة والغنية بطحالب المنكرات. ويقضي أيام استهتاره وكبره وجبروته في مسارات الضياع. حيث لم تخنْه قدماه، وإنما خانته قواه العقلية حين تركها تتبلد خارج معطيات الرؤى الواعية. وخان مشاعره المكنونة في أحناء فطرته عندما ساقته قافلة الشيطان إلى الملاعب الدافئة، فكبح صدى نداءات الفطرة وهي تحذره من التماس الأعذار لأجل فسحة مؤقتة في ميادين فورة الشهوات، أو توقد الأحقاد الظالمة. وذاك ما ألقى الشيطان فقست القلوب. قال الله تعالى في كتابه الكريم: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53].
هذه الشريحة الكبيرة من البشر اقتفت أثر إبليس، ولبست كل أرديته البغيضة لدى الله عز وجل، ثم لدى أهل الفطر السليمة. فهؤلاء اعترضوا على منهج الرشد الإلهي، ولم ينصاعوا لأوامر الله، فمثلهم في هذا الاعتراض والاستكبار كمثل إبليس، قال سبحانه: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ} [طه: 116]. وهم ادعوا الأفضلية على الخلق، وادعوا أن أفكارهم وطراز حياتهم أفضل مما عهده الناسُ الذين آمنوا بدين الله. فمثلهم في ادعاء الأفضلية المقيتة كمثل إبليس، قال تعالى على لسان إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [ص: 76].
وهم الذين قل حياؤهم، ونسوا أنهم مجرد عبيد لله، فتمادوا في تحدي الله رب العالمين، وصنيعهم هذا كصنيع إبليس لعنه الله عندما قال لربه: {أَنظِرْنِي} [الأعراف: 14]. وهؤلاء بادروا إلى تهديد الناس بالإرهاب والإغواء والوسوسة والتزيين تمامًا كما بادر إبليس عندما طُرد من رحمة الله فقال: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الأعراف: 16].
وهذا السلوك جر إبليس إلى اللعنة الأبدية، وجعله عدوا لله، وعدوا مبينًا لبني آدم، وهو نفس السلوك الذي تبناه هؤلاء المفسدون في الأرض، فوقعوا في قبضة غضب الله، ولم يسلموا لله، ولم يسمعوا نداء الخير، ولم ينطقوا إلا بالكفر، ولم يعملوا إلا بالأذى والشر، وتعاموا عن انبلاج الحقائق في كل صورها بهذا العصر بالذات، فليس لهم أوبة إلى جادة الصواب، فهم بهذا في محيط الخسران والتبار من حيث لا يشعرون.
قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17-18]. وتلك سنة الله في الظالمين المفسدين مهما طال الزمن بهم. ولا ينجو من هذا التبار والخسران إلا مَن اتبع هدى الأنبياء الحق. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. فبئست الأنفس التي باعت آخرتها الباقية بدنياها الفانية، فكفرت بما أنزل الله.
وآخت إبليس في سلوكه الشائن، وهي الأنفس التي كرهت أن ينزل اللهُ الخير على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي نفس الأنفس التي تود أن ترتد الأمة المسلمة عن دينها القويم، يتكرر فيها نفس الهوى، وترتدي نفس اللباس. وحسبهم ما وعدهم ربهم: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]. فالذين عبدوا العجل، والذين قالوا إن المسيح ابن الله، والذين رأوا القمر ينشق أمام أعينهم فقالوا هذا سحر مبين، والذين نسوا الله فطغوا وبغوا واستكبروا وجاروا، كل هؤلاء لن تربح تجارتُهم: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26].
وتبقى الحقيقة ناصعة واضحة وضوح النهار في يوم صائف، رغم سلوك المفسدين جميعهم وهم يكذبون على أنفسهم، وعلى مَن استطاعوا خداعهم وليس لهم سلطان على المؤمنين، مهما بدا ضعفُ المؤمنين لسبب أو لآخر، في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة. لأنه لا ولاية للمؤمنين لهؤلاء المفسدين ولا لإبليسهم الذي غرهم وأغراهم ببهرج الحياة. قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99-100].
وما أجدر المؤمنين بولاية الله، كيلا يكونوا من أتباع الشيطان وجنوده. قال الله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].
وتبقى المعادلة الصعبة قدرًا ربانيًا تتلاشى عليه قوى الشر والاستكبار مهما ملكت وتعالت، فلا طاعة لها ولا ركون لجبروتها. وقدر الله ماض فيها بصبر المؤمنين وجهادهم، قال الله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
فلهؤلاء الكافرين المفسدين في الأرض مواقف بئيسة ومشاهد تعيسة. ألم يقل المفسدون لنبيهم هود عليه السلام: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136]؟ ألم يهدد الكافرون المفسدون نبيهم لوطًا عليه السلام: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167]؟
وتتعدد المواقف وتتنوع المشاهد لهؤلاء مع نداءات الحق والخير على مر العصور. مواقف كفرهم ومشاهد عتوهم. ثم مشهد انتقام الله منهم ونصرته لعباده الصالحين.
إنها مشاهد حية تتراءى لأمتنا المسلمة في هذه الأيام، في محنها وأزماتها ونكباتها، لكيلا تقعد ولا تهون. ولكي لا تتشاغل بما لا يعنيها عن الذي يعنيها. فتلهو وقت المحنة، وتتراخى عند الشدة، وتصاب بالوهن عند الساعات العصيبة التي تجأر فيها قلوب اليتامى والثكالى والمفجوعين إلى الله جبار السماوات والأرض رب العالمين.
ولم تصب الأمة إلا بما كسبت أيديها، حيث اتبعت إبليس بهجرها لكتاب الله، واقترافها للموبقات، وأخذها بمبادئ اليهود والنصارى، وانقسامها على نفسها، وهذا ما يريده إبليس لها، فقد نجح في وسوسته ونال من أبناء الأمة الكثير وهو يحمل راية المعادلة الصعبة لإخراج الأمة من دينها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يقعد لابن آدم بأطرقه". وأخبر بأنه يجري مجرى الدم منه، ولهذا حذر الله الناس من شره ومكره فقال عز من قائل: {فَلَا تُغْرِنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يُغْرِنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
إن الفساد والتشاغل عن أداء الصلاة، والتثاؤب والتراخي عن فعل الخيرات، كلها من الشيطان وجنوده. وحيث يتوخى الشيطان الفوز بالمعادلة الصعبة في مجافاة بني آدم لفطرتهم وفي عصيانهم لهدي خالقهم، وهل من قيمة لوجود الإنسان على وجه الأرض إذا فاز إبليس بهذه المعادلة؟
وهل من قيمة للإنسان بدون العيش على نور عبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فعبادة الله هي التي تحرك المشاعر والأحاسيس الكريمة نحو العمل للسعادة الأبدية في مشوار حياة طال أم قصر. وهي التي تنبذ المؤثرات التي تنقل سيرة الحياة من محيط الأمن والطمأنينة بالله، إلى الضياع والعبث والخسران. والنأي عن جوهر ذات الإنسان الذي أكرمه الله.
إن الله تبارك وتعالى حفظ للإنسان أسباب معرفته، وفتح له أبواب هديه واجتبائه. وأمده بقوة الإيمان، ومنحه قوة الثقة واليقين، وآنس قلبه بالسكينة، وهيأ له مراكب النجاة من ظلمات الوحشة، وأنزل عليه الوحي، وجعل له حراسة من لدنه سبحانه، وأسمعه صوت البشارة والنذارة، وحذره مرات ومرات من عاقبة النكوص والإدبار عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فإبليس لعنه الله جند قدراته، وأعد عساكره، وأعلن الحرب على الإنسان منذ عصر يوم الجمعة الأول من عمر آدم وهو بين الطين ونفخة الروح. وأقسم: لأغوينهم، لأقعدن لهم، لأشاركنهم، إلى آخر البيانات الشيطانية، والتهديدات الإبليسية التي باشرها إبليس نفسه بالكذب والمكر والحيل.
فلا بد للإنسان من أن يستعد للمنازلة المستمرة في الليل والنهار، لأن قرينه الشيطان لا يمل ولا يتراخى. ويأتي جهد الشيطان في ساعات الابتلاء حيث يتجلى إيمان المؤمن وعزيمته ووفاء قلبه لله. فيكسر هجوم عدوه اللعين.
قال الله تبارك وتعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3]. وهذا باب من أبواب جهاد النفس الذي تعود مآثرُه على الإنسان المؤمن والذي سيربح نتائج المعادلة الصعبة من الشيطان، والمتمثلة في:
- إحقاق الحق، وإقامة العدل، ومحاربة الباطل، ونبذ المحرمات من الشهوات، واحتقار كل شهادات الزور في كل المواقع.
- القوة الممنوحة من الله لإصلاح الحياة الاجتماعية، والبعد عن الشعارات الكاذبة والواهية التي عادت بالأمة إلى الضعف والذل والهوان.
- إيجاد المسلم المحصن القادر على تخطي التحديات والمحن المحدقة بالإسلام وأهله.
- إيجاد الحالة المتميزة الأثيرة في نفوس المسلمين، حيث يؤثرون ما عند الله على ما سواه من الملذات والمناصب والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والأموال المنقولة وغير المنقولة.
- بساطة أساليب الحياة المتفاعلة مع حقائق التوحيد، ليتحرر المسلم من قيود اللاوعي، ومن سلاسل أهواء التفلت الأرعن، المسمى بالثورة على الثوابت والقيم الإسلامية الممتدة على مسارات الحياة الفاضلة. فإن هذا التفلت يحمل كيد الشيطان ومكره، وهو من نماذج خصومة إبليس مع حقيقة المنهج الرباني القويم الذي جاء به وحيُ السماء، وهو وحده المؤهل لنجاة الخلق في الدنيا ويوم الدين.
- التمسك بحلة اليقين بالله التي تغنيه عن مكابدة الأوهام والنوازل، والضلالات التي تنكفئ استدلالاتُها عن الوصول إلى كنف الغنى بمآثر منهج الرشد الرباني، وبئس قرناء الشيطان الذين رضوا بحالات الاختلال والنقص والتوعك النفسي غير المحمود في مواجهة تقلبات الحياة.
لقد أتم الله دينه، وأسبغ نعمه، وأنزل مناهج الهدى والسمو على معارج الكمال. ففيها بيان وتبيان لما يحتاجه الإنسان في عبادته لله، وفي معاملاته وشؤون حياته. وتمام الدين والنعمة يعني عدم النقص لمن يبتغي الخير والسعادة فردًا أو أمة. ومن غالط نفسه وأغرى الناس بادعائه النقص في الدين والنعمة فهو المفسد الكاذب، والظالم لنفسه وللناس. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
وفي الإسلام حصون دفاع للإنسان الذي يتصدى لعداوة الشيطان. وهي مواطن إعداد وبناء لقوته الذاتية حتى تكون ذات فاعلية، وانسجام مع سنن الله. وذات توازن يقي من التعثر والسقوط في بيئة مليئة بالمغريات، هائجة بالموبقات. جند فيها إبليس كل أسباب الإغواء والإغراء والتحلل: من فجور وسفور واختلاط وعري وحب للمال والجاه والمنصب في محيط ملوث بنتن المنكرات المغلفة بالبريق الأخاذ، ليمنحها نوعًا من الإبهام الذي لا يبصره إلا المؤمنون بالله، الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم أو سوء نية. فهم أصحاب البصائر الساعون إلى مآثر رضوان ربهم في الدارين. فهم في حرز ووقاية من دعوة الشيطان إلى معصية الله، وهنا يخسر إبليس وينكص على عقبيه خائبًا مرغمًا بعيدًا عن تحقيق النجاح في المعادلة الصعبة.
ويبقى لإبليس أثره البالغ في حياة أتباعه من بني آدم، وربما كانت ملازمته لأهل السطوة والسلطة والفكر أكثر من غيرهم. لأن هؤلاء يملكون القوة والقدرة التي لا يملكها غيرُهم من عامة الناس. ولا يخفى أثر الفرد من تلك الشرائح في المجتمع، من خلال قدراته ومواهبه وسلوكه ودوافعه.
فتحصين الإنسان فرض عين على من يرعاه. لكيلا يقع في مصائد إبليس الذي يتربص به، ويوسوس له ليوقعه في فتنة المال والنساء والمناصب، أو في ارتداء ثياب السلوك الشائن، والصفات المذمومة في حياة المجتمع كالطمع. لأن الطمع مفتاح شر عريض، حذرنا منه نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث الصحيح: "إياكم واستشعار الطمع فإنه يشرب القلب شدة الحرص، ويختم على القلوب بطابع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، وسبب إحباط كل حسنة".
فكم من طامع تخلى عن مروءته وعن حسن سلوكه وعن قيم دينه وعن حب وطنه، فباع ما وقع تحت يده من مقدسات غالية ومآثر نفيسة. ومثل الطمع الحسد الذي يقود إلى ظلمات الكره وربما الانتقام! ويبعد عن رحمة الله ورضاه، تمامًا كما وقع لإبليس.
وهذه الصفات تبعد الفرد والأمة عن محراب العبودية لله، وتسلخه من هبات الفطرة ذات الرشد والسمو والاتزان، وتخرج أهلها من دائرة المساهمات الفاعلة في بناء المجتمع، فترتكس الأمة في متاهات الوهن، وتفقد المناعة لاستحواذ الشيطان على أبنائها، وتفقد نور الهمة، وتنسى ضرورة حركة التغيير داخل النفس التي تترتب عليه قواعد التوبة إلى الله، وهنا تحرم الأمة من سياج الأمن الرباني، وتتعرى من قدرتها في القوامة في قيادة نفسها، وتضع أثقالها على شواطئ رحلة المجهول.
عندئذ يرى أولئك المتقدمون الصفوف الأولى في قيادة الناس أعني أهل الفكر والسلطة والقدرة أن رؤاهم ومسيرتهم آلت إلى الانحدار المريع على خرائب الويلات والنكبات، والتعب المبرمج حتى تسقط الأمة السقوط الذي يريده الأعداء، وتقعد واجمة مستسلمة بين أنياب وأظافر ونتن العلمنة والعولمة والحداثة والغثاثة، وغيرها من الشعارات المبطنة، والمحملة بأكداس من الحقد الدفين والحسد المتأجج والطمع بإزاحة دين الأمة عن وجودها.
إنها رحلة الخزي والعار والتبار، والتي لم تكن خطواتها غامضة إلا على المغفلين أو أصحاب النوايا السيئة، وأرباب المصالح المقيدة بمذموم البهرج المنسوج من سراب قيلولة المقت المسروقة من متاهات حضارة التغريب، ترويجًا للبضائع المستوردة، والمغلفة بمضامين بات شرها مستطيرًا في مشاركات ذات خلل لا تسمن ولا تغني من جوع.
وصدق الله القائل: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 37]. ونجد في الطرف الآخر خلف أنين أرصفة المشاعر المثقلة بالآلام، انتظارًا حيًا مشرقًا لنهارات الأمل بالله، تشمخ بعودة مدارات الأيام المباركة بمحياها البهيج رغم قتامة هذا العصر تومئ بحضور واعد لا يشوبه الارتياب، ليقدم المنجز الناصع لآليات الصبر الجميل، والاتزان النفسي في حياة الأبرار من أصحاب المنهج القرآني الخالي من السلبيات، والمحفوظ بمآثر السنن الإلهية التي تسعف المؤمنين المرابطين في ساعات الضيق، واشتداد قسوة الأزمات التي تمخض عنها كبرياءُ البغي وحقد الأعداء. وشعور أهل هذا الكبر والحقد بالأفضلية التي أوجدها إبليس. فهم لن يصلوا إلى الحق، لأنهم أعداؤه، ولأنهم أنداد لطهارة الوجدان، ولأنهم لا يحملون القيم الأثيرة التي اختار الله لها عباده من أهل الرشد. وهم يكرهون ما يأتي للمؤمنين من فضل الله، ويفرحون لما يُصاب به المؤمنون من أذى، فقلوبهم ملأى بالبغضاء على أبناء الأمة الذين أرادوا لها العزة بالإسلام. إنهم قوم انتصر ظلمهم وشرهم وجحودُهم على أنفسهم، فأغلقوا أبواب نقد النفس ومحاسبتها، وصاغوا معايير المؤازرة الكاذبة في دوائر أصحاب القرار لغيرهم فكانت المشاركة المريبة. قال تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39].
وتبقى المعادلة الصعبة شعار العمل لإبليس، وهدفه الذي يسعى إليه لترويج إغوائه وإفساده، وإن الله مكَّن للمؤمن في ذاته قوة التوكل عليه، واليقين بمؤازرته. ولن يفلح إبليس وعساكره من الجن والإنس في اقتحام حصون الله المنيعة.
ولن تستطيع حضارة الاستكبار التي شارك الشيطان في الترويج لمفاسدها من اقتحام حصون التوحيد والإيمان مهما أوتيت من إنجازات مادية مذهلة. فإن الافتتان بمعطيات العقل إذا تجرد من الإيمان بالله لعبة إبليسية لخلط الحقائق، وتشويه واقع الفطرة السليمة. إذ العقل هبة من الله للإنسان كي يدرك بعض أسرار الكون، ويرى من خلاله عظمة الله الخالق. وهو مفتاح أبواب التفكير والتأمل والاستبصار.
ويكفي أن نعلم على سبيل المثال أن العلماء اكتشفوا أن القشرة المخية وحدها وبحجمها الصغير تحتوي على آلاف الملايين من الخلايا. {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. فجدير بالإنسان أن يصفع إبليس على كذبته وافترائه، لا أن يركض وراء المغريات التي يزينها له. وحري به أن يسجد خاشعًا في محاريب قدرة الله الذي منحه أسباب السعادة في الدنيا والآخرة. والله يحمي دينه وينصر جنده، وهذه النصرة الدائمة من الله هي من دلائل انهيار قوى الباطل والظلم والاستكبار، أمام ثبات المؤمنين ولو قل العدد، وتضاءلت العدة المادية في مكان ما وزمن ما.
لقد عزم المشركون في مكة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معهم إبليس في هذا الرأي، ولكن الله أبطل كيدهم، وخرج رسول الله ﷺ من بين فرسانهم وهم لا يشعرون. ووصلوا غار ثور فأعمى الله أبصارهم مرة أخرى وعادوا خائبين. وأدركه أحد أشداء أبطالهم فساخت قدماه في الأرض وتعثر واستسلم لرسول الله الذي بشره بسواري كسرى ملك الفرس وهو طريد من قومه عليه الصلاة والسلام.
ولا يعجب الإنسان الحصيف المتزن نفسيًا وعقليًا من إخباره ﷺ بالفتح والنصر وظهور الإسلام حين قال: "فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمرَ حتى تخرج الظعينة أي المرأة المسافرة من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار أحد".
وكأن عدي بن حاتم رضي الله عنه اهتزت مشاعره عجبًا بما لم يعهدْه من قبل، وكان حديث العهد بالإسلام، فاشرأبت عيناه في الأفق البعيد وهو يسمع أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "وليفتحن الله كنوز كسرى بن هرمز".
وقال عدي متعجبًا مرة أخرى: كسرى بن هرمز؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم كسرى بن هرمز. وليذهب المال حتى لا يقبله أحد". وتمر الأيام ويرى عدي رضي الله عنه بعيني رأسه الظعينة تخرج من الحيرة تريد الحج لا تخشى أحدًا بعد الله. وكان عدي رضي الله عنه ممن فتح كنوز كسرى بن هرمز. ثم أقسم عدي بأن الثالثة ستكون لا أشك في ذلك. ولقد كانت الثالثة يا عدي في زمن الخليفة التقي العادل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه.
وهكذا خسر إبليس المعادلة الصعبة، وخسر معه أتباعه من شياطين الإنس والجن. وهو خاسر بإذن الله، وجنده خاسرون بإذن الله إلى يوم الدين. لأن الأفق الإسلامي تميز بنقاء الفطرة المنسوجة بحب الخير للناس كل الناس وعندما فتح الله على الأمة المسلمة جاء الفتح لقلوب العباد قبل فتح البلاد. لم تكن مذابح همجية، ولم يكن استهتار بقيمة الناس وحقهم في الحياة، ولم تكن هناك قوة قاهرة متسلطة على الخلق بالإذلال والإرهاب ونهب الثروات وهتك الأعراض. بل جاءت رسائل أمراء المناطق على امتداد مساحة الأمة المسلمة في البلاد المفتوحة لملوكهم فيها الكثير من الإكبار والتقدير. حتى شهد أحدُ نصارى الغرب بسمومقاصد وأخلاق الفاتحين فكتب لأحد أصحابه: *إنه لا يعلم أن هؤلاء القوم -يعني المسلمين- هبطوا من السماء أم نبعوا من الأرض المباركة*. وفي هذا التعبير شهادة ودليل على تفعيل معنى الرحمة التي أرسل الله بها محمدًا عليه الصلاة والسلام إلى العالمين.
فلأعداء الإسلام الخسرانُ المبين على مر العصور. ولقد حاول اليهودُ - لعنهم الله -قتلَ نبي الإسلام وتسميمه والكيد له فخابوا وخسروا وبقي الإسلام.
وقد خاب فأل المرتدين ومَن معهم من المنافقين لطمس زهو الدعوة الإسلامية في عهد الخليفة الراشدي الأول رضي الله عنه.
وخاب فأل المجوس حين اغتال صاحبُهم الملعون الخليفة الراشدي الثاني فمات شهيدًا رضي الله عنه.
وخاب فأل اليهود مرة أخرى عندما قام ابنُ سبأ اليهودي بإشعال نار الفتنة التي أدت إلى استشهاد الخليفة الراشدي الثالث رضي الله عنه.
وإيجاد أسباب الفرقة في المجتمع الإسلامي، التي خرجت من نتنها أنواع الفرق الضالة التي أدت إلى استشهاد الخليفة الراشدي الرابع رضي الله عنه.
وخاب فأل المندسين والموتورين وأهل الضلالات الذين عاشوا مترفين على موائد الدس والحقد وتعكير المسيرة الهادية للإسلام، والذين خانوا مواطن حُسن الظن بهم من بعض قادة الأمة على مر الأزمنة.
فعهود الثقة بهم لم تكن مدونة بعقود ولا شهود، وإنما هو شرفُ الأمانة الذي تخلى عنه سفهاءُ التدبير الخادع للأمة كابن العلقمي صاحب التتار وبائع بغداد الخلافة.
وخاب فألُ العودة العقيمة للتصنيفات الجديدة للعولمة والأمركة، وبقية المصطلحات الماكرة ذات الاستكبار للسيطرة على نسيج الأمة المسلمة في عصر صحوتها.
وهي ليست بظاهرة غريبة ولا عابرة، وإنما هي نتاجُ دراسات ومؤتمرات سرية وعلنية، وبأسماء متعددة - براقة كاذبة -حان وقتُ تنفيذ بنود مخططاتها بوسائل حضارتهم-الخاصة -من انتهاك للحرمات، وتدمير لأركان القيم، ونهب لثروات الأمة، وتضييع لهويتها الربانية المتميزة باختيار الله لها، لبتْر انتمائها إلى دين ربها، وإلباسها أردية الذل والهوان، ونزع أوسمة العزة التي حباها الله بها.
أجل: خاب فألهم جميعًا، وسيحيق بهم مكرهم، حيث أحدق بهم الخسرانُ بمشيئة الله. وسلم الإسلامُ، وبقي رغم أحقادهم وعتوهم. وهو باق إلى يوم الدين. قال الله تعالى: {وقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين