من الفترة إلى الشرة

110
2 دقائق
22 ربيع الأول 1447 (15-09-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

سألتني -أقالك الله من العثرة، ووقى لك عزمك من الفترة- عمّا يحملك على الإقبال بعد الصدود، والشِرَّة بعد الفترة، والحماسة بعد المَلال.

فأجبتك ولست السالمَ المعافى، ولا الخبير العارف، ولكن بما جربته فعرفته، فأنا أقف بك عند تجربتي، فأقول:

هذه أمنيّة المتمني: النفس الوقّادة، والهمة الماضية التي لا يعوقها عائق، ولا يَقتَعدها مُقتعِد، دعْ أن تختلق الأعذار والعقبات.

وهل تخلو الدنيا من ساعة كدَر، ولحظات ضجَر، وفتور بعد نفور؟

على هذا جبَلَ الخالقُ الحكيمُ الإنسانَ الضعيف.

لكنّ العاقل من يأخذ من صحته لمرضه، ومن فراغه لشغله، ومن شِرَّتِه وحماستِه لفتوره ومَلالِه، ويفترص الفرص، ولا يفرّط ما دام قادرًا. وقديمًا ما قالوا: *التفريط مصيبة القادر*.

والعاقل كذلك يعرف طبعَ نفسه، وأنها جُبِلت على الملال والسأَم، فلا يظنن أن من نال ما نال من أولي العزم كان ذاك منه بغير انقطاع ولا فترة. كلا، لكنه بفتَراتٍ يُسْكَنُ فيها إلى راحة وجَمام، تُشحذ فيها العزائم، وتُصَلح فيها الركاب.

وما أحسن قول النبي : "إنَّ لكلِّ عمَلٍ شِرَّةً، وإنَّ لكلِّ شِرَّةٍ فَتْرةً، فإنْ صاحبُها سَدَّد وقرَّب فارجوهُ".

والعاقل أيضًا لا يحمّل نفسه ما لا طاقة لها به، ولا يجري بها إلى غير غايتها. بل يقْدُر لها قدْرَها، ويعرف ما يصلح لها.

ولا ينبغي له أن يجعل شأنها كلَّه جِدًّا وحزْمًا، فإن في هذا مظِنَّةَ عطَبِها ونُكْسِها، وارتدادِها من مطالبها إلى عكسها.

بل يفعل فعْلَ أبي الدرداء رضي الله عنه إذ قال: *إني لَأَستَجِمُّ نفسي ببعض الباطل، مخافةَ أنْ أحمِلَ عليها مِن الحق ما يُمِلُّها*.

ويعني بالباطل ما ليس بجدٍّ مما أحله الله.

وهذا معنى وصية النبي لحنظلة الأُسَيْدي رضي الله عنه لما شكا إلى النبي ما يجد في نفسه من ميل إلى شئون الدنيا وأمورها مِن مالٍ وولد، فخشي أن يكون ذلك منه نفاقًا مع ما هو مأمور به من أمور الدين، فقال له النبي الرءوف الرحيم : "والذي نفسي بيده! لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكْر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن يا حنظلة، ساعةً وساعةً" ثلاث مرات.

ومما يعين أيضًا مصاحبةُ أهل الهمم ومجالستهم، واتخاذ رفيقٍ مصاحب في طريق الطلب يشد الأزْرَ والعَضُد، وقراءة سير أهل العلم والجِدِّ. وأوصي بهذه الكتب الثلاثة: (صفحات من صبر العلماء، وقيمة الزمن عند العلماء، والمشوق إلى القراءة وطلب العلم)، فهي - فيما اطلعت عليه - من خير ما صُنّف في إذْكاءِ الهمّة كلما خَبَتْ، أو رفْعِها إذا دنَتْ، ففيها صوَرٌ لِبَشَرٍ توقّدوا هممًا، وطاروا حماسَةً، وعملوا صدقًا وإخلاصًا، حتى انتصبوا على قمم التاريخ أطوادًا لا تخفى على عين بصير.

ولم يخلقهم الله من نورِ الملائكة، ولم يضعْ في صدورهم قلوبَ الأنبياء فنتعذرَ بعجْزنا عن اقتفاء آثارهم. بل كانوا بشرًا مثلنا، لهم ما لنا، وقد صار عندنا خير مما كان عندهم.

ومثل هذه الكتب أرى أنها لا تصلح أن تُقرَأ كغيرها قراءةً متصلة من أولها إلى آخرها، لأنّ فائدتها ستكون بنتَ ساعتِها، تخبو سريعًا، كَنارٍ أُهَرِيقَ عليها وَقود فعظُمَتْ حتى هالَتْ، ثمّ لم تلبثْ أن صغُرَتْ حتى زالَت.

وإنما تُجعَل عندَ مكان الدّرس أو المطالعة، فيُنظَرُ فيها قبل الدرس، أو في خلاله، أو متى ما مدّ السَأَمُ قدمَه، إلى خبرٍ أو خبرَين يَرِيْ بهما الزَّنْد، ويخفقُ البَنْد.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق