بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بعض الناس ينشرون أسرار الذين ائتمنوهم عليها مما يؤدي إلى إحداث أضرار لأصحاب هذه الأسرار. إن نشر وإذاعة أسرار الناس مِن الأمور الخطيرة، لذلك أحببت تذكير الأحباب الكرام بوجوب حفظ الأسرار وأضرار نشرها، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
معنى إفشاء الأسرار
• إفْشَاءُ السِّرِّ: نَشْرُهُ وَإذَاعَتُهُ بَيْنَ النَّاس. (غذاء الألباب للسفاريني ج1 ص 115).
طريقة إفشاء الأسرار:
• قال أيوب الكَفَوي (رَحِمَهُ اللَّهُ): إفشاء الْسِّرِّ يكون بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَة وَالْكَلَام. (الكليات للكفوي ص64).
التحذير من إفشاء الأسرار وصية رب العالمين:
• قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 27).
• قَالَ الشيخ: عبدالعزيز السلمان (رَحِمَهُ اللَّهُ):
مِن معاني الأمانة حِفْظُ الأسرار التي لا يرضى أهلها أن تذاع فكَم مِن أضرار على الأبدان والأموال والأعراض حصلت بإفشاء الأسرار. (موارد الظمآن عبدالعزيز السلمان ج3 ص 529).
يجب على المسلم أن يحفظ أسرار الناس فيكتمها، فإن نشرها كان خائنًا للأمانة والعَهْد، ومِن حقّ المسلم على أخيه المسلم أن يحفظ أسراره خاصّة إذا كان قد تعهّد له بحفظ هذا السّرّ وعدم إخبار أحَدٍ مِنَ الناس.
• قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ • إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم4:3).
يحذرنا من إفشاء الأسرار (نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
• رَوَى مسلمٌ عَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا". (مسلم حديث 1437).
• قوله: (يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ): أي: يَصِل إليها بالمباشرة أو بالمجامعة.
• قَالَ الإمام النووي (رَحِمَهُ اللَّهُ):
فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ إِفْشَاءِ الرَّجُلِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الِاسْتِمْتَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِهِ. (صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص8).
• رَوَى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدالله، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ". (حديث حسن) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 4075).
• قَوْلُهُ: (ثُمَّ الْتَفَتَ): أي: الْتَفَتَ الرجل المتحدث يمينًا وشمالًا حَذَرًا واحتياطًا مِن أن يسمع كلامه أحدٌ غير الذي يتحدث إليه. (التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني ج2 ص22).
• قال الشيح: شحاتة محمد صقر (رَحِمَهُ اللَّهُ): قَوْلُهُ: (إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل): أَيْ: عِنْدَ أَحَدٍ (بِالْحَدِيثِ): أَي: الَّذِي يُرِيد إِخْفَاءَهُ (ثُمَّ اِلْتَفَتَ): أَيْ يَمِينًا وَشِمَالًا اِحْتِيَاطًا (فَهِيَ): أَيْ ذَلِكَ الْحَدِيث (أَمَانَة): أَيْ: عِنْدَ مَنْ حَدَّثَهُ أَيْ: حُكْمهُ حُكْمُ الْأَمَانَة، فَلَا يَجُوز إِضَاعَتهَا بِإِشَاعَتِهَا؛ لِأَنَّ اِلْتِفَاته إِعْلَام لِمَنْ يُحَدِّثهُ أَنَّهُ يَخَاف أَنْ يَسْمَعَ حَدِيثهُ أَحَدٌ وَأَنَّهُ قَدْ خَصَّهُ سِرّه، فَكَانَ الِالْتِفَات قَائِمًا مَقَام (اُكْتُمْ هَذَا عَنِّي) أَيْ: خُذْهُ عَنِّي وَاكْتُمْهُ وَهُوَ عِنْدك أَمَانَة. (دليل الواعظ شحاتة محمد صقر ج1 ص300).
• رَوَى أحمدٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدالله، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ، إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ، مَجْلِسٌ يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ فَرْجٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ". (حديث حسن). (صحيح الجامع للألباني حديث:6678).
• قَوْلُهُ: (الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ):
يعني: يجب على أهل المجلس أن يحفظوا سر أهل المجلس، ولا يفشون ما جرى في المجلس مِن الأحاديث، وهذا إذا كان ذلك الحديث حديثًا يَكْره صاحبُه إفشاءَه.
أما مثل: الزنا، وأخْذ مال الغير، وسَفْك دمٍ: حرام: لا يجوز حفظ السر في هذه الثلاثة؛ يعني: مَن قال في مجلس: إني أريد قَتْل فلان، أو الزنا بفلانة، أو أخْذ مال فلان؛ لا يجوز على المستمعين حفظ هذا السر، بل يجب عليهم إفشاؤه؛ ليفر مَن يريد قتله، أو الزنا بها، أو أخْذ ماله. (المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري ج5 ص248).
• قال الشيخ: محمد إبراهيم الحمد (رَحِمَهُ اللَّهُ): مِن الإخلال بأمانة المجلس أن يفشي المرء سر صاحبه إذا جلس إليه، وأفضى إليه بمكنونه، وأشعره بأنه لا يحب اطلاع أحد عليه. (أخطاء في أدب المحادثة محمد إبراهيم الحمد ص119).
إفشاء الأسرار دليل على ضعف الإيمان:
• رَوَى أحمدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ". (حديث صحيح). (صحيح الجامع للألباني حديث:7179).
إفشاء الأسرار من صفات المنافقين:
الإنسان الذي يُفْشِي للأسرار خَائِنٌ للأمانة التي ائتمنه الناس عليها، والخيانة مِن صفات المُنَافِقِين.
• رَوَى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". (البخاري حديث:33 / مسلم حديث:107).
خطورة إفشاء أسرار الأسرة:
• المحافظة على الأسرار بين أفراد الأسرة سبيل سعادتها، ونشر أسرارها سبيل هدم الأسرة.
أسباب إفشاء الأسرار:
نستطيع أن نُوجِزَ أسباب إفشاء أسرار الناس في الأمور التالية؟
(1) العُجْبُ والفخر، وذلك بإظهار علمه بشيء لا يعلمه غيره، وقديمًا حمل هذا الشعور بعض الناس على إيراد الغرائب والعجائب - وحمل أهل الكتاب - وبخاصة العلماء منهم - على افتراء أمور غريبة وحكايتها للناس ليظهروا لهم عملهم وقام القُصَّاصُ بدور كبير في اختراع القصص، بل وفي وضع الأحاديث على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لإظهار مكانتهم، واكتساب خير الناس، أو تعظيمهم لهم، فقد يكون الحامل للرجل على إفشاء السر مثل هذا الشعور.
(2) مِن طبيعة الإِنسان حبُّه إتيان ما مُنع منه، فإن المحظور يُغري بارتكابه إن لم تكن هناك عِصمة مِن خُلُقٍ أو دين كما يقول القائل:
(أَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما منعناه منه).
(3) النكاية أو التشهير، فإن إفشاء السر يؤذي صاحب السر إيذاءً شديدًا، والسر سلاح خطير قد يُستعملُ في الشر إن لمن يكن هناك خُلُقٌ أو دِين. ونرى ذلك حين عداوة الأصدقاء أو عند يُطَلِّقُ الرجلُ زوجته فتفشي الأسرار نكاية وحِقدًا.
(4) الاستفادة مِن هذه الأسرار التي عرفها، فهي معلومات يمكن له أن ينتهزها فرصة ويستعملها في خير يفيده، كَمَن يُودِع سر صنعته، أو خططه الاقتصادية مثلًا عند غيره مِن الناس فيفشيها باستعمالها وتطبيقها، وبذلك يُفَوت غرضًا طيبًا كان يقصد إليه صاحب السر مِن كتمانه وإيداعه عند هذا الشخص. فإفشاء السر يكون إما لطبيعة في النفس، وإما لإرادة الشر للغير، أو حُب الخير للنفس. (حفظ الأسرار مكتبة دار القاسم ص11).
أقوال السلف في التحذير من إفشاء الأسرار:
(1) رَوَى أبو نَعيم عِن عَامِرِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: أَيْ: بُنَيَّ، إِنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ وَيُقَرِّبُكَ وَيَسْتَشِيرُكَ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ: اتَّقِ اللهَ لَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كِذْبَةً، وَلَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا. قَالَ عَامِرٌ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ، قَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني ج1 ص 318).
(2) أَسَرَّ مُعَاوِيَةُ ابن أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ حَدِيثًا، فَقَالَ الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا، وَمَا أُرَاهُ يَطْوِي (يُخْفِي) عَنْكَ مَا بَسَطَهُ (كَشَفَهُ) إِلَى غَيْرِكَ. قَالَ: فَلَا تُحَدِّثُنِي بِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَإِنَّ هَذَا لَيَدْخُلُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ لَا تُذَلِّلَ لِسَانَكَ بِأَحَادِيثِ السِّرِّ. فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: يَا وَلِيدُ، أَعْتَقَكَ أَخِي مِنْ رِقِّ الْخَطَأِ. (الصمت لابن أبي الدنيا ص214).
(3) قَالَ الْحَسَنُ البصريُّ (رَحِمَهُ اللَّهُ): إِنَّ مِنَ الْخِيَانَةِ أَنْ تُحَدِّثَ بِسِرِّ أَخِيكَ. (الصمت لابن أبي الدنيا ص214).
(4) قال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (رَحِمَهُ اللَّهُ): إذا أردت تؤاخِي رَجُلًا فَأَغْضِبْهُ، ثُمَّ دُسَّ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْك وعن أسرارك فإن قال خيرًا وكتم سرك فاصحبه. (قوت القلوب أبو طالب المكي ج2 ص 378).
(5) قال أبو حاتم (رَحِمَهُ اللَّهُ): مَن اسْتُوْدِعَ حديثًا فَلْيَسْتُر، ولا يَكُن مِهْتَاكًا ولا مِشْيَاعًا، لأن السر إنما سُمي سرًا لأنه لا يُفْشَى. (روضة العقلاء لابن حبان ص190).
(6) قَال أبو الحسن الماوردي (رَحِمَهُ اللَّهُ): إِظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ إظْهَارِهِ سِرَّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَبُوءُ بِإِحْدَى وَصْمَتَيْنِ: الْخِيَانَةُ إنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، أَوْ النَّمِيمَةُ إنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا. (أدب الدنيا والدين للماوردي ص307).
(7) قال الجاحظ (رَحِمَهُ اللَّهُ) إفشاء السّرّ: خُلُقٌ مُرَكّبٌ مِن الخرق والخيانة، فإنّه ليس بوقور مَن لم يضبط لسانه، ولم يتّسع صدره لحفظ ما يُسْتَسَرُّ به. (آفات اللسان ندا أبو أحمد ص4).
(8) قَالَ الرَّاغِبُ الأصفهاني (رَحِمَهُ اللَّهُ): إذَاعَةُ السِّرِّ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَيُوصَفُ بِهِ ضَعَفَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (الذريعة لمكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص212).
(9) قال ذو النون المصري (رَحِمَهُ اللَّهُ): مَن أفشى السّرّ عند الغضب فهو اللّئيم، لأنّ إخفاءه عند الرّضا تقتضيه الطّباع السّليمة كلّها. (إحياء علوم الدين ج2 ص 195).
(10) قَالَ ابن حجر الهيتمي (رَحِمَهُ اللهُ): حَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ: إفْشَاءُ السِّرِّ، وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ. (الزواجر للهيتمي ج2 ص38).
(11) قال الشاعر:
إِنَّ الْكَرِيمَ الَّذِي تَبْقَى مَوَدتُه *** وَيَحْفَظُ السِّرَ إِنْ صَافَا وَإِنْ صَرَمَا.
لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي إِنْ زَلَّ صَاحِبُه *** بَثَّ الذي كَانَ مِن أَسْرَارِهِ عَلِمَا. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج6 ص 372).
حفظ الأموال أيسر من حفظُ الأسرار:
• قَال أبو الحسن الماوردي (رَحِمَهُ اللَّهُ): إنَّ مِنَ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ صَدِيقٍ مُسَاهِمٍ، وَاسْتِشَارَةِ نَاصِحٍ مُسَالِمٍ. فَلْيَخْتَرْ الْعَاقِلُ لِسِرِّهِ أَمِينًا إنْ لَمْ يَجِدْ إلَى كَتْمِهِ سَبِيلًا، وَلْيَتَحَرَّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ. فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ أَمِينًا كَانَ عَلَى الْأَسْرَارِ مُؤْتَمَنًا. وَالْعِفَّةُ عَنْ الْأَمْوَالِ أَيْسَرُ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ إذَاعَةِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُذِيعَ سِرَّ نَفْسِهِ بِبَادِرَةِ لِسَانِهِ، وَسَقَطِ كَلَامِهِ، وَيَشُحُّ بِالْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ، حِفْظًا لَهُ وَضَنًّا بِهِ، وَلَا يَرَى مَا أَذَاعَ مِنْ سِرِّهِ كَبِيرًا فِي جَنْبِ مَا حَفِظَهُ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ مَعَ عِظَمِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أُمَنَاءُ الْأَسْرَارِ أَشَدَّ تَعَذُّرًا وَأَقَلَّ وُجُودًا مِنْ أُمَنَاءِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ أَيْسَرَ مِنْ كَتْمِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ إحْرَازَ الْأَمْوَالِ مَنِيعَةٌ وَإِحْرَازَ الْأَسْرَارِ بَارِزَةٌ يُذِيعُهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ، وَيُشِيعُهَا كَلَامٌ سَابِقٌ. (أدب الدنيا والدين للماوردي ص307).
تربية الأطفال على حفظ الأسرار:
يجب على الآباء تربية أطفالهم على حِفِظِ الأسرار، حتى ولو عن أقرب الناس إليهم، فإنَّ هذه التربية تغرس فيهم حُسْن الأخلاق والمبادئ التي تنفعهم في شبابهم وتؤدي إلى اكتساب ثقة الناس فيهم.
فوائد حفظ الأسرار:
(1) حِفْظُ السِّرِّ يُمَكّنُ الإنسانَ مِن قضاء مصالحه.
(2) حِفْظُ السِّرِّ مِن أنواع الأمانة، والأمانة مِن علامات الإيمان.
(3) كتمان السّرّ لون دليل على الرّزانة والوقار.
(4) حِفْظُ السِّرِّ فضيلة إنسانيّة بها يرتقي المرء في درجات الكمال.
(5) حِفْظُ السِّرِّ يُوَثّق صِلة الإنسان بأخيه حين يحفظ أسراره.
(6) حِفْظُ السِّرِّ يؤدّي إلى توثيق المحبّة بين الإنسان ومَن يحفظ عليه سرّه.
(7) حين يثق الإنسان بأنّ صاحبه يحفظ أسراره يمهّد ذلك له استشارته فيما لا يحبّ أن يطّلع عليه النّاس. (موسوعة نضرة النعيم ج8 ص 3213).
صفات الأمين على الأسرار:
• قَال الإمام أبو الحسن الماوردي (رَحِمَهُ اللَّهُ): مِنْ صِفَاتِ أَمِينِ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ صَادٍّ، وَدِينٍ حَاجِزٍ، وَنُصْحٍ مَبْذُولٍ، وَوُدٍّ مَوْفُورٍ، وَكَتُومًا بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِذَاعَةِ، وَتُوجِبُ حِفْظَ الْأَمَانَةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ. (أدب الدنيا والدين للماوردي ص308).
حُكْم إفشاء الأسرار
إذا كان الحفاظ على السر واجبًا فإن إفشاء السر حَرَامٌ، لأنه يؤدي إلى ضرر، فإن اختيار سريته دليل على أن إفشاءه فيه ضرر، والضرر ممنوع شرعًا، كما أن إفشاءه يكون خيانة حيث يكون السر أمانة، ويكون غدرًا بالعهد وعدم وفاء بالوعد، إذ كان هناك وَعْدٌ أو عَهْدٌ بصيانته سواء أكان ذلك بالحال أو بالمقال، والله سبحانه حَرَّمَ الخيانة وحَرَّمَ الغدر وعدم الوفاء، وتحريم الخيانة والغدر وعدم الوفاء أمور معروفة لأن الإسلام ينبذها والأدلة مِن القرآن الكريم على تحريم هذه الصفات المذكورة كثيرة. (حفظ الأسرار مكتبة دار القاسم ص8).
• قال الإمام أبو الحسن الماوردي (رَحِمَهُ اللَّهُ): وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ للسرِّ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهِ بِالتَّحَفُّظِ وَالتَّنَاسِي لَهُ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ بِبَالٍ وَلَا يَدُورَ لَهُ فِي خَلَدٍ، ثُمَّ يَرَى ذَلِكَ حُرْمَةً يَرْعَاهَا. (أدب الدنيا والدين للماوردي ص309).
نماذج لحفظ الأسرار:
(1) رَوَى مسلمٌ عَنْ ثَابِتِ البُنَاني عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ لِحَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللهِ ، أَحَدًا. قَالَ أَنَسٌ: وَاللهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ". (مسلم حديث 2482).
(2) رَوَى البخاريُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: "أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عبدالله، أَنَّهُ سَمِعَ عبدالله بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، حِينَ تَأَيَّمَتْ (مات زوجها) حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ. فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ (غضبت) عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ، إِلَّا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا". (البخاري حديث 4005).
(3) رَوَى البخاري عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ، قَالَ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَجَلَسَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ، قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ، أَوْ مِنْكُمْ، صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، يَعْنِي حُذَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. (البخاري حديث: 3743).
• قال ابن حجر العسقلاني (رَحِمَهُ اللَّهُ): كَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، صَاحِبَ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ حَتَّى خَصَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الْمُنَافِقِينَ. (فتح الباري للعسقلاني ج3 ص 37).
هل يجوز إفشاء السر للمصلحة؟
• قال العزّ بن عبد السّلام (رَحِمَهُ اللهُ): الستر على الناس شيمة الأولياء، فضلًا عن الأنبياء، وإنما قال يوسف عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} (يوسف26)، ليدفع عن نفسه ما قد يتعرض له مِن قَتْلٍ أو عقوبة، وكذلك قوله: {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف: 50)، ليدفع التهمة عن نفسه؛ فإن الملك لو اتهمه لم يولِّه، ولم يحصل على إحسان الولاية. ويُسْتَفادُ مِن كلامه (رَحِمَهُ اللهُ): أنّه يجوز إفشاء السر إذا كان في ذلك مَصلحةٌ، أو دَفْعُ ضرر. (الخلاصة في آفات اللسان علي الشحود ص52).
إفشاء السر بعد موت صاحبه:
إفشاء سر الرجل بعد موته فيه تفصيل: فأحيانًا يكون مباحًا، وقد يُسْتحَبُّ إن كان هناك مَنْقَبة أو كرامة لهذا الرجل الصالح لا يريد أن يظهرها في حياته، فلا مانع أن تذكر بعد موته؛ ليُقْتَدَى به، وتارة يكون إفشاء سر الميت واجبًا إن كان عليه حق تعذر القيام به، فيُذكر السر لِمَن يتسنى له القيام بهذا الواجب أو الحق، وأحيانًا يُكره، وقد يحْرُم، إذا كان إفشاء سر هذا الميت يلحق به الضرر بعد موته أو بأهل بيته. (آفات اللسان ندا أبو أحمد ص18).
أضرار إفشاء الأسرار:
نستطيع أن نُوجِزَ أضرار إفشاء الأسرار في الأمور التالية:
(1) إفْشَاءُ السِّرِّ خيانة للأمانة ونقض للعهد.
(2) إفْشَاءُ السِّرِّ يُسببُ أضرارًا لصاحب السِّرِّ.
(3) إفْشَاءُ السِّرِّ دليلٌ على لؤم الطّبع وفساد المروءة.
(4) إفْشَاءُ السِّرِّ دليلٌ على قلّة الصّبر وضيق الصّدر.
(5) إفْشَاءُ السِّرِّ يعقبه النّدم والحسرة في نفس صاحبه.
(6) إفْشَاءُ السِّرِّ إخلال بالمروءة وإفساد للصّداقة، ومدعاة للتّنافر.
(7) إفشاء الرّجل سرّ امرأته، وإفشاء المرأة سرّ زوجها يجعل كلّا منهما بمثابة الشّيطان ويخلّ بفضيلة الحياء.
(8) إفْشَاءُ السِّرِّ من فضول الكلام الّذي يُعابُ عليه صاحبه.
(9) إفْشَاءُ السِّرِّ يفقد الثّقة بين مَن أفشيت له بالسّرّ والمفشي، لأنّ المُفَضَى إليه بالسّرّ سيعلم أنّ مَن أفشى له سيفشي عليه.
(10) إفْشَاءُ السِّرِّ مِن مقتضيات الجهل كما أنّ حفظه مِن سِمَة العقلاء.
(11) إفْشَاءُ السِّرِّ فيه ذلّ لصاحبه.
(12) إفْشَاءُ السِّرِّ يجلب الفضيحة للمفشي عندما يعرف بذلك مَن استودعه هذا السّرّ.
(13) إفْشَاءُ السِّرِّ - خاصّة ما يتعلّق بالميّت- يعرّض صاحبه لعذاب الله تعالى.
(14) مُفْشِي السر مِن أشرّ النّاس.
(15) إفْشَاءُ السِّرِّ يدخل صاحبه النّار في الآخرة، ويعقب النّدم والحسرة في الدّنيا. (موسوعة نضرة النعيم ج9 ص3957).
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلاَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَيَجْعَلهُ سُبْحَانَهُ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِي يَوْمَ القِيَامَة.
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ • إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 89:88).
كما أسألهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعَ بهذا العمل طلاب العِلْمِ الكِرَامِ