مع سورة الجن

80
25 دقيقة
15 جمادى الأول 1447 (06-11-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

سميت في كتب التفسير وفي المصاحف ومنها الكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس «سورة الجن». وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه، وترجمها البخاري في كتاب التفسير «سورة قل أوحي إلي».

واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم {قُلْ أُوحِيَ} [الجن:1].

ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.

وهي مكية بالاتفاق. ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة.

وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.

وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور، نزلت بعد الأعراف وقبل يس.

واتفق أهل العدد على عد آيها ثمان وعشرين.

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}(2).

{قُلْ} افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب، وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله: {كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7] حسبما يأتي.

أمر الله تعلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته، أقامه الله تكريما لنبيه وتنويها بالقرآن، وهو أن سخر بعض الجن لاستماع القرآن وألهمهم أو علمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة.

{أُوحِيَ إِلَيَّ} والذين أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن: هم جميع الناس الذين كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين، أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه، والذين جاء بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.

وفي الآية - كما قال القاضي- دلالة على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رآهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله.

{أَنَّهُ} تأكيد الخبر الموحى بحرف *أن* للاهتمام به ولغرابته {اسْتَمَعَ} لهذا القرآن الحكيم.

{نَفَرٌ} والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط.

{مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا} لما رجعوا إلى قومهم الذين لم يحضروا استماع القرآن. ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى الصلاح، كما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} [الأحقاف:29-30].

{إِنَّا} تأكيد الخبر ب *إن* لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا بكلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه، وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف*إن*.

{سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} غريبًا، لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم.

وقيل: عجبا في فصاحة كلامه. أو: عجبا في بلاغة مواعظه. أو: عجبا في عظم بركته. أو: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. أو: يعنون عظيما.

ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى، أي يعجب منه، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.

{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} إلى الحق وسبيل الصواب، أو إلى مراشد الأمور. أو إلى معرفة الله تعالى.

{فَآمَنَّا بِهِ} فاهتدينا به، وصدقنا أنه من عند الله. والإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا:

{وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} من خلقه، في العبادة معه، لأنه المتفرد بالربوبية.

أي ينتفي ذلك في المستقبل. وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين ولذلك أكدوا نفي الإشراك بحرف التأبيد فكما أكد خبرهم عن القرآن والثناء عليه ب *إن* أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإشراك ب {لن}.

وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن.

• روى مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ قَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ وَهُوَ بِنَخْلٍ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [زاد البخاري: وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنّ].

وروى مسلم عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ قَالَ فَقَالَ عَلْقَمَةُ أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَقُلْنَا اسْتُطِيرَ [طارت به الجن] أَوْ اغْتِيلَ [الغِيلة هي القتل في خفية] قَالَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَقَالَ: "أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ" قَالَ فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ".

وقد قيل: (إن الجن أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بِنَخْلَة وهي التي ذكرها ابن عباس).

قال البيهقي: (الذي حكاه عبدالله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبدالله بن مسعود).

• قال الماوردي: (ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن. قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة، فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل).

• قال الرازي: في الآية فوائد:

إحداها: أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن.

وثانيها: أن يعلم قريش أن الجن، مع تمردهم، لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول.

وثالثها: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.

ورابعها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا، ويفهمون لغاتنا.

وخامسها: أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.

وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (5).

{وَأَنَّهُ تَعَالَى} التعالي: شدة العلو، جعل شديد العلو كالمتكلف العلو لخروج علوه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلف.

{جَدُّ رَبِّنَا} جلاله وعظمته، والجد لغة: العظمة والجلال؛ ومنه قول أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا؛ أي عظم وجل).

وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ؛ وفي الحديث: "وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" [البخاري] قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.

وهذا تمهيد وتوطئة لقوله:

{مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} قال ابن جرير: الجَدَّ بمعنى الحظ. يقال: فلان ذو جَد في هذا الأمر إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البخت. والمعنى: أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة العظيمة عالية، فلا تكون له صاحبة ولا ولد، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد. فقال النفر من الجن: علا ملك ربِّنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفًا ضعف خلقه، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وقاع شيء يكون منه ولد.

وقال ابن عاشور: لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص.

وتأكيد الخبر ب *إن* سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن.

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} مضلهم ومغويهم. والسفيه هنا: إبليس، وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: (عصاه سفيه الجن، كما عصاه سفيه الإنس).

{عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} الشطط: البعيد المفرط في البعد. وأصله مجاوزة الحد، والمراد منه نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى. أي: قولًا ذا شطط. جعل عين الشطط مبالغة فيه.

وقد بين القرآن أن المراد بالشطط البعد الخاص، وهو البعد عن الحق والعدل والصواب، كما في قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص:22].

ومنه البعد عن حقيقة التوحيد إلى الشرك، وهو المراد هنا كما في قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، لأن دعاءهم غير الله أبعد ما يكون عن الحق. ويدل على أنه المراد هنا ما جاء في هذه السورة: {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.

{وَأَنَّا ظَنَنَّا} حسبنا {أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} في نسبة ما ليس بحق إليه سبحانه، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا.

وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك، لظنهم أن أحدًا لا يكذب على الله، حتى تبيّن لهم بالقرآن كذب السفيه وافتراؤه.

وفي هذه الآية إشارة إلى خطر التقليد في العقيدة، وأنها لا يجوز فيها الأخذ بحسن الظن بالمقلَد بل يتعين النظر واتهام رأي المقلد حتى ينهض دليله.

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} (7) .

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ} العوذ: الالتجاء إلى ما ينجي من شيء يضر، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] أي: نزغاتهم بما يوسوسون به.

{بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} الرهق في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال، أي: خطيئة وإثما.

فالضمير إما للجن، أي: فزادوهم باستعاذتهم بهم، غيًّا وإثمًا وضلالًا أو خوفا وإرهابا وذعرا، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم.

أي أن الجن كانوا يحتقرون الإنس بهذا الخوف فكانوا يكثرون من التعرض لهم والتخيل إليهم فيزدادون بذلك مخافة.

أو إما الضمير للإنس على معنى: فزادوا الجن باستعاذتهم كبرًا وعتوًّا وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: (أعوذ بعزيز هذا الوادي)، فزادهم ذلك إثمًا. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مَقرُّ الجن، وأن رؤساءها تحميهم منهم.

وهكذا قال إبراهيم: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرًا ولا نفعًا.

وقال كردم بن أبي السائب: (خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، *أنا* جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة).

وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن ربّ هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله. قال: فيزيدهم ذلك رهقًا، وهو الفَرَق.

وعن عكرمة قال: كان الجن يَفْرَقُون من الإنس كما يفرَق الإنس منهم أو أشد، وكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن، فيقول سيد القوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي. فقال الجن: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم. فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}.

وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بوادٍ قبل الإسلام قال: (إني أعوذ بكبير هذا الوادي). فلما جاء الإسلام، عاذوا بالله وتركوهم. انتهى.

قال مقاتل: (كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم).

• • قال مجاهد: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن.

وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن.

وقال سعيد بن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك.

ولذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله تعالى وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة، فإنها للإرشاد لذلك.

روى مسلم عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ".

قال بعضهم: في الحديث تفسير آية الجن، وأن ما فيها من الشرك، وأن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.

{وَأَنَّهُمْ} أي: وأوحى إليّ أن الجنّ {ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ} في جاهليتكم، فجملة {كَمَا ظَنَنْتُمْ} معترضة، فيجوز أن تكون من القول المحكي بقول الجن بعضهم لبعض يشبهون كفارهم بكفار الإنس.

ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم.

{أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} رسولًا إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم.

أو لن ينشر الله أحدًا من قبره للحساب والجزاء. وهذا من قول الله تعالى للإنس.

أي: وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش؛ أي إذا آمن هؤلاء الجنّ بمحمد، فأنتم أحق بذلك.

والإخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإنس إلى عالم الجن.

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (10).

{وَأَنَّا لَمَسْنَا} واللمس: حقيقة الجس باليد، ويطلق مجازا على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس، فشبه به الاختبار عن طريق الاستعارة.

{السَّمَاءَ} تطلبنا بلوغ السماء، واستماع كلام أهلها كما جرت عادتنا.

{فَوَجَدْنَاهَا} قد {مُلِئَتْ} دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة.

{حَرَسًا شَدِيدًا} زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم.

{وَشُهُبًا} جمع شهاب، وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر، وتكون مضاءة عند انفصالها. أي: ورواجم.

ووحد الشديد على لفظ الحرس؛ وهو كما يقال: (السلف الصالح) بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف، وجمع الحرس أحراس.

يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسا شديدًا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئا من القرآن. فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق. وهذا من لطف الله بخلقه ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز.

وبين تعالى المراد بتلك الحراسة بأنه لحفظها عن استراق السمع، كما في قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا} [الصافات:6-7]، وبين تعالى حالهم قبل ذلك بأنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع فيسترقون الكلمة وينزلون بها إلى الكاهن فيكذب معها مائة كذبة، كما بين تعالى أن الشهب تأتيهم من النجوم. كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5].

وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان، كما روى مسلم عن عبدالله بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ. قَالَ فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ بِهِ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ". وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث.

وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده:

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} مجاز في ملازمة المكان زمنا طويلا لأن ملازمة المكان من لوازم القعود، ومنه قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].

{مِنْهَا} من السماء {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} اللام لام العلة أي لأجل السمع.

أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب. والآن ملئت المقاعد كلها. وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستمعوا قراءته.

قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث، وما يكون فيها، فمن يستمع الآن يجد له شهاب نار قد أرصد له لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه.

{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء.

{أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} يعنون أن ما حدث من منعهم السمع من السماء، ورجم من استمع منهم بالشهب، كانوا يقولون هو لأمر عظيم أراده الله بأهل الأرض، إما عذاب أو رحمة، أي: حتى علموا بعد باستماعهم القرآن، أنه لخير أريد بهم، وذلك بعثة نبيّ مصلح يرشد إلى الحق.

قال الناصر: (ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل. والمراد بالمريد هو الله عز وجل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد).

وقد ورد في الصحيح: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ". [مسلم] جريا على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.

وفيه دليل على أن الجن لا تعلم الغيب، وقد صرح تعالى في قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} (12).

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} المسلمون العاملون بطاعة الله {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} قوم دون ذلك، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو الكافرون.

{كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أهواء مختلفة، وفرقًا شتى. والطرائق: جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه. والقدد نحو من الطرائق وهو توكيد لها، وهي الضروب والأجناس المختلفة، جمع قدّة كالقطعة.

وقد كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.

والمعنى: أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإسلام، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق.

وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك، والتوكيد ب *أن* متوجهة إلى المعنى التعريضي.

{وَأَنَّا ظَنَنَّا} الظن هنا بمعنى: *العلم واليقين*، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ}.

{أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} إن أراد بنا سوءًا {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} لن نفوته بهرب ولا غيره إن طلبنا لأنا في قبضته وسلطانه.

قال الزمخشريّ: هذه صفة أحوال الجن، وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار، ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أن الله -عز وجل- عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا يُنجي عنه مهرب.

قال ابن عاشور: لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضيا عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] أعقبوا لتعريض الإقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقابا فأيقنوا أن عقاب الله لا يفلت من أحد استحقه. وقدموه على الأمر بالإيمان الذي في قوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن:13]. الآية، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والتخلية مقدمة على التحلية.

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (17).

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم {آمَنَّا بِهِ} صدّقنا بأنه حق من عند الله. يفتخرون بذلك، وهو مفخر لهم، وشرف رفيع وصفة حسنة.

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن: بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإنس والجن، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن، ولا من أهل البادية، ولا من النساء؛ وذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].

وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: "بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ" أي الإنس والجن. وقيل: أي إلى العجم والعرب: لأن الغالب على ألوان العجم الحُمْرة والبياض، وعلى ألوان العرب الأدمة والسُّمرة.

{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا} أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها.

{وَلَا رَهَقًا} والرهق: الإهانة، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان وترهقه ذّلة، وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن؛ لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم.

يعني: أنه يجزى الجزاء الأوفى، وتكون له في الآخرة العاقبة الحسنى. كقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه:112] أي ولا هضمًا بنقص حسناته. وفهم منه أن من لا يؤمن يهان بالعذاب.

فبعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكر ذلك في نفوسهم، عادوا إلى ترغيبهم في الإيمان بالله وحده، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم. وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد.

{وَأَنَّا مِنَّا} بعد سماع القرآن {الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} الكافرون الجائرون عن طريق الحق. أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر.

والقاسط: الجائر، لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق؛ يقال: قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل.

{فَمَنْ أَسْلَمَ} أذعن وانقاد {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} ترجّوا وتوخوا رشدًا عظيمًا، وقصدوا صوابًا واستقامة. ومنه تحرى القبلة.

{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} الجائرون عن طريق الحق والإيمان.

{فَكَانُوا} أي في علم الله تعالى. أو إقحام فعل *كانوا* لتحقيق مصيرهم إلى النار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.

{لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} توقد وتسعر بهم، كما توقد بكفار الإنس.

وفي الكشاف: أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول في? قال: «قاسط عادل»، فقال القوم ما أحسن ما قال. حسبوا أنه وصفه بالقسط بكسر القاف والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} وقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].

{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} هذا من قول الله تعالى. والتقدير: وأوحي إلي أنه لو استقام الجن أو الإنس أو كلاهما.

{عَلَى الطَّرِيقَةِ} تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيرا مستقيما على طريقة، ولذلك فالتعريف في {الطَّرِيقَةِ} للجنس لا للعهد.

{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} الغَدَق: الماء الغزير الكثير. يقال: غدقت العين تغدق، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها.

• القول الأول: لو آمن هؤلاء القاسطون والكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق.

كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] وكقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الأعراف:96].

وإنما تجوز بالماء الغدق -وهو الكثير- عما ذكر؛ لأنه أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب، أو لأن غيره يعلم منه بالأولى فالخير والرزق كله بالمطر، فأقيم مقامه.

{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} نختبرهم فيما هم فاعلون من شكر النعمة وصرفها فيما يرضي الله أم الطغيان بها ومنع حقها.

كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].

قال عمر في هذه الآية: (أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة).

• والقول الثاني: قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} الضلالة {لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أي: لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا، كما قال تعالى:

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] وكقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56].

{وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} عبادته أو موعظته. أو القرآن، وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين.

{يَسْلُكْهُ} ندخله، فالسلك: حقيقته الإدخال. واستعمل السلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل. والمعنى: نعذبه عذابا لا مصرف عنه.

وقرأ الجمهور {نسلكه} بنون العظمة ففيه التفات، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {يسلكه} بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربه.

{عَذَابًا صَعَدًا} شديدًا شاقًا. وصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عبدالله يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (19).

{وَأَنَّ} قل أوحي إلي أن {الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} مختصة به، والمسجد عرفا كل ما خصص للصلاة، وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله أي بعبادته وذكره.

كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37].

عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قال: لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيليا: بيت المقدس.

ولهذا منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً، فَقُولُوا: لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ" [النسائي والترمذي وحسنه].

وكذلك إنشاد الضالة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ. فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا" [مسلم].

وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ" [مسلم].

وفي رواية: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُتَّخَذْ لِهَذَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ".

وفي موطأ مالك أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى «البطحاء» وقال من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. واللغط هو الكلام الذي فيه جلبة واختلاط.

• مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل.

{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فلا تعبدوا فيها غيره. الفاء للتفريع.

تعريض بما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى بمسجده الحرام، ونصبهم في التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب، فإن المساجد لم تُشَدْ إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده. ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمُه.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عبد الله} محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عدل عن الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوصف {عبدالله} لما في هذه الإضافة من التشريف، كما في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].

{يَدْعُوهُ} يعبد ربه {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} جمع لبدة، وهو ما تلبد بعضه على بعض، ومنها لبدة الأسد. أي: جماعات بعضها فوق بعض، تعجبًا مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجابًا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره.

فالضمير في {كَادُوا} للجن، وقد بيّن ذلك حديث البخاري كما تقدم.

وجوّز رجوعه للمشركين بمكة. والمعنى: لما قام رسولًا يعبدالله وحده، مخالفًا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه، وتعاونهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين.

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} (24).

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أعبده، وأبتهل إليه وحده {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} تأكيد. أي: فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم، أو إطباقكم على مقتي.

{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} لأن ذلك لله تعالى وحده، فلا تستعجلوني بالعذاب.

{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} إن أراد بي سوءًا {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملتجأ إن أهلكني، أو لن أجد مكانا يعصمني. وأصله: المدخل من اللحد.

{إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} استثناء من قوله: {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} فإن التبليغ إرشاد ونفع. فهو متصل، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.

أي: لا أملك إلا التبليغ، والرسالات من معاني الوحي، وأحكام الحق.

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلم يسمع ما جاء به، ولم يقبل ما يبلغه. {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} وجمع *خالدين* لأن المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أولا للفظ *من* ثم جمع للمعنى. {أَبَدًا} دليل على أن العصيان هنا هو الشرك.

{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} في الرسالات الإلهية، من الظهور عليهم والفتح، أو العذاب الأخروي {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أي: أجند الرحمن من المؤمنين أو إخوان الشياطين من الكافرين.

{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (28).

{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني قيام الساعة. وقيل: عذاب الدنيا؛ أي لا أدري *فإن* بمعنى *ما* أو*لا*؛ أي لا يعرف وقت نزول العذاب، ووقت قيام الساعة إلا الله؛ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله.

{أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} أجلا وغاية تطول مدتها.

روى أحمد عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ وَهُوَ بِالْفُسْطَاطِ [الخيمة، والمراد أنه خرج مع أهل الغزو] فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَغْزَى النَّاسَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَقَالَ: "وَاللهِ لَا تَعْجِزُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ نِصْفِ يَوْم"، إِذَا رَأَيْتَ الشَّامَ مَائِدَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ [أي: من المسلمين، وذلك بأن يكون أميرًا فيه، والمراد إذا كان أمير الشام من المسلمين] وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ [إسناده على شرط مسلم].

وروى أبو داود في آخر «كتاب الملاحم» عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ" [أبو داود وصححه الألباني].

قال عبد المحسن العباد في «شرح سنن أبي داود»: ونصف اليوم هو خمسمائة سنة، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، فنصفها خمسمائة سنة، فمن العلماء من قال: إن المقصود من ذلك أنه يؤخرها إلى خمسمائة سنة، ولذلك أورده أبو داود هذا الحديث في: «باب قيام الساعة»، ومعناه: أن الساعة قد تقوم بعد خمسمائة سنة، والمراد أنهم لا بدَّ يدركون نصفه، والمقصود بقاؤهم هذا المقدار، وليس فيه نفي الزيادة على ذلك. وهم اليوم زادوا على ضعف ذلك.

ومن العلماء من قال: إن معناه يتعلق بالفقراء الذين لن يحاسبوا ويدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام والتي هي نصف يوم، فهو لن يعجز الله.

فقوله: "لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم" المقصود بذلك: أن يؤخر الأغنياء عن دخول الجنة، وأن يمهلهم للحساب، ويدل عليه ما جاء في الحديث الذي فيه أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، فهو يبين معنى هذا الحديث، وأنه ليس المقصود بأن الدنيا تنتهي بعد خمسمائة سنة، لأنه مضى على هذا الحديث ألف وأربعمائة وزيادة، يعني: خمسمائة وخمسمائة والخمسمائة الثالثة هي الآن في خمسها الأخير، فإذًا: الذي يبدو أنه كما قال بعض أهل العلم: إن المقصود من ذلك تأخير الأغنياء في الحساب، فيتأخرون عن الفقراء الذين لا حساب عليهم، ويسبقونهم في دخول الجنة بهذه المدة التي هي خمسمائة سنة أو نصف يوم.

وفي رواية لأبي داود عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ"، قِيلَ لِسَعْدٍ وَكَمْ نِصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ. [صححه الألباني].

يعني: الأغنياء منهم يؤخرهم في الحساب نصف يوم، وهو خمسمائة سنة، أي: أن الأغنياء يتأخر دخولهم عن الفقراء بنصف يوم؛ لأن هؤلاء الفقراء يدخلون قبلهم لأنه لا حساب عليهم، وأما الأغنياء فإنهم يحاسبون على أموالهم ما دخل وما خرج منها.

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} والغيب ما غاب عن العباد.

{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} قال الزمخشري: يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى.

أي: إلا رسولًا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه: ليكون ذلك دالا على نبوته.

وهذه كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].

{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} كناية عن جميع الجهات {رَصَدًا} حرسًا من الملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه.

قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.

وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم.

وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجم، ولا لنا من بعده -من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل- فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها.

ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان.

ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم في وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم.

ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه.

{لِيَعْلَمَ} قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. واختاره ابن جرير.

وقيل: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا.

{أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وإيراد علمه تعالى للعناية بأمر الإبلاغ، والإشعار بترتيب الجزاء عليه، والمبالغة في الحث عليه، والتحذير عن التفريط فيه.

{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة.

{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء

فردًا فردًا لسعة علمه. تقرير ثان لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه، ووعد ووعيد كما عرف من نظائره.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق