بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في المراد ب (آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) في قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] أقوال معروفة في كتب التفسير، ومنها أنهم الجنّ.
جاء في «الهداية الى بلوغ النهاية» لمكي بن أبي طالب (4/ 2866):
(وقيل: هم الجن. وهو اختيار الطبري.
وهو أحسن الأقوال، لما رُوي أن الجن تفرُّ من صهيل الخيل.
ورُوِيَ: أن الجن لا تقرب دارًا فيها فرس، وأيضًا: فإنّا لا نعلمهم، كما قال عز وجل.
روى ابن مِقْسَمِ: أن رجلًا أتى ابن عباس، فشكا إليه ابنته تُعترى، فقال له: ارتبط فرسًا، إن كنت ممن يركب الخيل وإلا فاتخذه، فإن الله جل اسمه، يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}، فإن الجن من الذين لا تعلمونهم، ففعل الرجل ما أمره، فانصرف عن ابنته العارض). انتهى.
وهذا الأثر مما يحتاج لدراسة من حيث ثبوته ومضمونه؛ حيث لا أذكر أنّ أحدا ذكر في باب الرقية وعلاج المسّ ما ورد في هذا الأثر من ارتباط الخيل أو اتخاذه.
ولكن ربطه بالآية له حظ من النظر، وقد أشار ابن جرير إلى هذا المعنى -بعد أن نص على أن هذا القول أقرب وأشبه بالصواب- بقوله:
(ولكن معنى ذلك إن شاء الله: ترهبون بارتباطكم -أيها المؤمنون- الخيلَ عدوَّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم، لكفرهم بالله ورسوله، وترهبون بذلك جنسًا آخر من غير بني آدم، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، الله يعلمهم دونكم، لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل: إن صهيل الخيل يرهب الجن، وأن الجن لا تقرب دارًا فيها فرس).
وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور عدة آثار تؤيد هذا المعنى، وهي:
- أخرج سعد والحرث بن أبي أُسَامَة، وَأَبُو يعلى، وَابْن الْمُنْذر، وَابْن أبي حَاتِم، وَابْن قَانِع فِي مُعْجَمه، وَالطَّبَرَانِيّ، وَأَبُو الشَّيْخ، وَابْن مَنْدَه، وَالرُّويَانِيّ فِي مُسْنده، وَابْن مرْدَوَيْه، وَابْن عَسَاكِر عَن يزِيد بن عبدالله بن عريب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي ﷺ قَالَ فِي قَوْله {وَآخَرين من دونهم لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ}: هم الْجِنّ، وَلَا يُخبل الشَّيْطَانُ إنْسَانا فِي دَاره فرس عَتيق.
- أخرج أَبُو الشَّيْخ عَن أبي الْهدى عَن أَبِيه عَمَّن حَدثهُ عَن النَّبِي ﷺ فِي قَوْله {وَآخَرين من دونهم لَا تَعْلَمُونَهُم} قَالَ: هم الْجِنّ فَمن ارْتبط حصانًا من الْخَيل لم يَتَخَلَّل منزله شَيْطَان.
-أخرج ابْن الْمُنْذر عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى رضي الله عنه فِي قَوْله {وَآخَرين من دونهم لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ}: وَلنْ يخبل الشَّيْطَان إنْسَانا فِي دَاره فرس عَتيق.
أخرج أَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَوْله {وَآخَرين من دونهم} يَعْنِي الشَّيْطَان لَا يَسْتَطِيع نَاصِيَة فرس؛ لِأَن النَّبِي ﷺ قَالَ: الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر؛ فَلَا يستطيعه شَيْطَان أبدا. انتهى ما أورده السيوطي.
قلت: وقد بالغ بعض المتأخرين -محمود شاكر ومحمد رشيد رضا - في ردّ هذا التفسير، وفي التعقب على ابن جرير في اختياره لهذا القول، ولا وجه لهذه المبالغة، ولا لهذا التعقب.
وأما الألوسي فقد أحسن وأوجز إذ قال -بعد ذكره للحديث المروي في ذلك، واختيار الطبري لهذا القول-: (وإذا صَحَّ الحَدِيثُ لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ).
والحديث قال عنه ابن كثير في تفسيره 4/ 82: «وهذا الحديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه». وقال الهيثمي في المجمع 7/ 27 (11030): «رواه الطبراني، وفيه مجاهيل». وقال الألباني في الضعيفة 7/ 472 (3475): «موضوع».
ومع ضعفه إلا أنه صالح للاستشهاد به في التفسير كما قرر مكي بن أبي طالب في كلامه السابق.
وخلاصة ما سبق:
يتبيّن من مجموع ما تقدّم أن حمل قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} على الجن قولٌ له وجه معتبر في ضوء عموم الآية وسياقها، وإن لم يثبت فيه حديث مرفوع صحيح. فالمعنى متجه من حيث الإشارة القرآنية إلى الغيب، إذ الآية تشمل كلَّ من يُرهب بإعداد القوة من عدوٍّ ظاهر أو باطن، معلوم أو مجهول.
وقد استحسن هذا الوجهَ جماعة من المحققين كابن جرير ومكي بن أبي طالب، لما فيه من شمول المعنى واتساع دلالة اللفظ، دون أن يُبنى عليه حكم عقدي أو تشريعي.
وعليه، فالروايات الواردة في فرار الجن من صهيل الخيل أو امتناعهم عن دخول دارٍ فيها فرس وإن كانت ضعيفة الإسناد، فمعناها غير مستنكَرٍ، لأنها من قبيل الآثار التي يُستأنس بها في بيان المعنى العام للآية، لا في تأسيس أصلٍ من أصول الدين.
وما أجمل أن يُستفاد من هذه الأقوال أن إعداد القوة - المأمور به في الآية - لا يقتصر على إرهاب الأعداء من البشر، بل يشمل الأعداء الذين يروننا ولا نراهم، ويعلمهم الله ولا نعلمهم؛ ليبقى المؤمن في حال من الانتباه والحذر واليقظة المستمدة من أمر الله تعالى.