بين يقين العامي ويقين العالم

69
4 دقائق
18 جمادى الأول 1447 (09-11-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

جاء في شرح اللمع للشيرازي: نفس العامي إلى ما يعتقده بالقلب أسكن من نفس العالم، حتى لو عُرض على السيف ما رجع، والعالم تعتريه الشبهات فتؤثر في اعتقاده، وهذا صحيح فإن العامي لجهله بالأدلة والمعاني إذا اعتقد شيئًا تمسك به تمسكًا لا سبيل إلى رده عنه، واعتقاد العالم يتتبع الدليل بأدنى شبهة تقع له ببينة، حتى يدفعها عن نفسه بالنظر الصحيح. [شرح اللمع للشيرازي ١٤٨/١].

أشكل علي شيخنا كيف يقول الشيرازي هذا الكلام الذي خلاصته أن اعتقاد العامي أرسخ من اعتقاد العالم! وأن العالم يؤثر في اعتقاده أدنى شبهة بخلاف العامي فإن الشبه لا تؤثر في اعتقاده!

هل هذا من أثر الاشتغال بعلم الكلام؟

الجواب: حياك الله أخي الفاضل.

نعم كلام الشيخ الشيرازي رحمه الله فيه صحة لبعض العوام، ممن يكون لديه قوة متابعة وتصديق لشيخه، وليس كلهم على هذا النهج: فالعامي عندما يقلد شيخه باعتقاد أو عمل ربما كان عنده يقين قلبي راسخ بصحة مقالة مقلده ثقة به، لا عن دليل وبرهان فيقين العامي يقين قلبي لا عقلي بصدق من أخبره الخبر، فالعامي لا يوجد عنده أدلة ولا يستطيع الاستدلال ولا معرفة البراهين الصحيحة ولا الفاسدة، ولا قدرة له للتمييز بينها، ولا فهم ولا معرفة بنقض الشبه وفصل طرق الاعتراض، ولا فتل الحجج ونصبها، إنما يقينه بما يقوله شيخه ومقلده يميل حيث مال ويثبت حيث ثبت وينحرف حيث انحرف، فهذا وجه يقين العامي، يقين تقليد ومتابعة كالأعمى الذي يسير مع البصير واثق به، يسيره إلى هدفه ومبتغاه لا يملك شيئا معه، ولا يشكك فيه فلو ضل أو مال شيخه ضل معه ومال متابعة له.

أما العالم فنظرا لاشتغاله بالبراهين والأدلة والحجج ونقض فاسدها، وإقامة صحيحها وتجليتها قد يعرض لقلبه بعض الشبه، لكن لما أعطاه الله من العلم الممزوج بالعقل والفهم والنظر وسبر الأدلة وفحصها: لا يلبث أن يستبصر الحق بفصله عن الباطل، ويخلصه من فساد الالتباس والتدليس والاشتباه، فيستقر قلبه على الحق واليقين الراسخ القائم على البرهان والحجة، فيعبدالله على بصيرة ومعرفة، فشتان بين يقين العامي ويقين العالم: فالعامي يقينه يقين تقليد ومتابعة لا يعرف وجه الحق فيه، أما العالم فما يحصل له من اشتباه إنما هو وسيلة للوصول لليقين التام فهو في طريق اليقين، لا أنه أصل الاعتقاد عنده، ليصل إلى اليقين التام الكامل، فمعرفته ويقينه يقين دليل وبرهان ودراية تامة عقلية قائمة على النقل، يصلح نفسه، ويهدي غيره. وفرق بين الإيمان واليقين على أصل صحيح، وبين تقليد لا يدري ما مآلته ونهاياته.

لذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة الشهير في صحيح مسلم: "تعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه".

فالعلماء هم الذين يجلون القلوب من الفتن بما يفتح الله عليهم من نور الحق الذي يبصرونه في ثنايا الحجج والبراهين بجمعها واستنباط الحق منها وبيانها للناس.

فبقاء العامي على يقينه ليست ميزة بإطلاق: فقد يثبت على أخطاء وقد يبقى على باطل وقد يدوم على أقوال مرجوحة، وقد يستمر على مناهج وطرق فاسدة، أما العالم فهو كثير النظر في الأدلة والبراهين يقلبها ويوازن وينظر فيرجع عن قوله إذا بان له الحق، ويثبت على قوله متى تبين صوابه واستفاضت استقامته، لذا نجد الصحابة رضي الله عنهم في مسائل فقهية رجعوا عن أقوالهم لكمال علمهم، كعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم، وكذا الأئمة من بعدهم لهم مراجعات وتراجعات إذ لو كانوا على يقين العوام العاري عن النظر والتبصر والفهم لم يعدلوا مسيرتهم ولم يظهر أمر فقههم واجتهادهم، وفي هذا يقول القرافي: *وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك*.

أما ما تفضلت به: من احتمال كون هذا بسبب الاشتغال بعلم الكلام مما أورثهم حيرة وشكا حتى صار العوام أقوى منهم اعتقادا وأرسى منهم إيمانا، فهذا محتمل، فقد حصلت هذه الحيرة من بعض أرباب الكلام ومشاهيرهم وانتابتهم الشكوك لكثرة ما يوردون على أنفسهم من جدل عقلي واسع في قضايا الاعتقاد، يريدون أن يسيطروا على مسائل العقيدة بعقولهم فتطيش العقول مرة بعد أخرى وتحار، حتى سبب لهم اضطرابا وشكا كما جاء عن أبي المعالي والجويني وغيره.

وكما في النص الذي ذكرته عن الغزالي في الإحياء: *قِسْ عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تُحرِّكه الدواهي والصواعق، وعقيدة المُتكلِّم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيطٍ مُرسل في الهواء تفيئه الرياح مرةً هكذا. ومرةً هكذا*.

لكن الشيخ أبا أسحاق الشيرازي رحمه الله مع كونه متكلما إلا أنه لم يخض بقضايا كلامية كبيرة في الاعتقاد:كابن فورك والجويني والباقلاني والبغدادي ومن بعدهم الغزالي والرازي والآمدي ومن بعدهم التفتازاني والعضد الإيجي وغيرهم، وأيضا من متكلمة المعتزلة متقدمهم ومتأخرهم، حتى يحصل له هذا الشك جراء نظره الكلامي الاعتقادي، إنما كان اتجاهه فقهي أصولي جدلي كما هي أشهر مؤلفاته، لذا جرت مناظرات بينه وبين عصريه أبي عبدالله الدَّامغَاني، وكذا بينه وبين أبي المعالي الجويني ولم تكن في المسائل الكلامية، إنما كانت مناظرات فقهية، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق