بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الإشكال في المولد النبوي أن من يحتفل به جعل سببا شرعيا دائما ثابتا لا يتغير ولا يتبدل خارجا عن وضع الشرع: فالأصل عدم جواز تثبيت الأسباب والبقاء عليها وحفظها أبدا دون تغيير إذا لم يكن الشارع واضعا لها، فمن يحتفل بالمولد إذا خلا عن البدع والمنكرات يعللونه: بكونه يوم توقير وثناء ومحبة وتذكير بحقه عليه الصلاة والسلام على الأمة، فهو لا يعدوا كونه وسيلة من الوسائل لا أنه مقصود بذاته، واختيارهم يوم مولده عليه الصلاة والسلام: ليقرأ فيه ما تيسر من سيرته، وتتذاكر شمائله وأخلاقه عليه الصلاة والسلام.
والحقيقة أن اتخاذ هذا اليوم سببا للتوقير وإظهار المحبة له عليه الصلاة والسلام أنه مقصود بذاته عندهم، لا أنه مجرد وسيلة: ففيه مضاهاة للعبادة التوقيفية المشروعة بحفظهم هذا السبب المخترع من عندهم والمثابرة عليه، وعدم الانفكاك عنه، فكما أن الشارع جعل الزوال سببا لصلاة الظهر، ورؤية الهلال سببا للصوم والفطر، والعيدين سببا للاجتماع والفرح، جعلوا يوم المولد سببا للتوقير والثناء والاجتماع كالمشروع لا فرق، فربطوا ربطا دائما ثابتا محكما لا يتغير ولا يتبدل بين يوم المولد والتوقير بالاجتماع عليه والفرح أبدا، من قرون متطاولة وأزمنة متعاقبة ودهور متوالية، وجعله شعارا ظاهرا لهم يجتمعون فيه على طقوس وشعائر محددة، فالأصل أن طرق توقيره ومعرفة حقه على أمته عليه الصلاة والسلام غير توقيفية، فكل يجتهد بذلك بحسب ما يرى مناسبته له، فلو حافظ على ذلك سنة غيّره في السنة الأخرى، ولو أقامه عاما استبدله بغيره في عام آخر، لكن توقيف وتأقيت طريقة من الطرق بهذا اليوم تحديدا، حتى تقلب الوسائل وتجعل مقصودة بذاتها، يكشف أن مرادهم ليس مجرد كونه وسيلة من الوسائل.
ولو كان مدعاهم صحيحا بكونه وسيلة لا مقصدا: لانفكوا عن هذا اليوم عاما أو عامين لئلا يضاهوا المشروع بالتوقيت والتوقيف الزماني، وانسلخوا عن المحافظة والمثابرة على هذا اليوم أحيانا، وغيروا اليوم والشهر، ونوعوا وصرفوا طرق بيان محبته وتوقيره عليه الصلاة والسلام بوسائل ونواح كثيرة، وتركوا الاجتماع والفرح فيه، فهذا أدعى وأحرى لحصول المراد، وفتحوا ووسعوا المجال ليؤدي كل واحد أو جماعة بمكان: توقيره ومحبته عليه الصلاة والسلام بالوقت المناسب لهم بحسب حالهم، فيقدمون اليوم أو يؤخرونه أو حتى يتركونه في بعض الأعوام، أو تتركه بعض الطوائف، وأحيانا يسرونه ولا يظهرونه، فكونهم يتنادون إليه، ويظهرونه و لايخفونه عاما بعد عام، ويجتمعون عليه، ويتحاثونه، ويحافظون عليه دون انفكاك عنه، ولا ينقطعون عنه أبدا من شرق الأرض إلى غربها ممن يقيمه، كلها: تسقط دعوى: أن اختيار هذا اليوم جاء وسيلة لمقصد مشروع، بل حفظ اليوم عندهم أجل مما فيه، فإن ما فيه يتغير، أما اليوم ذاته فلا يمكن يغيرونه أبدا، فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالدعاوى، فهذا فيه على هذه الصورة مضاهاة للتعبديات التوقيفيات، واختراع للعبادات، لا يتشكك فيه أحد.
ومما سمعت في إحدى المحاورات من رجل يقرر المولد النبوي: بأن العبادات إما مشروعة بأصلها ووصفها، وهذا كأركان الإسلام، وإما مشروعة بأصلها دون وصفها، وهذا كل أمر أمر الله به أهل التكليف ولم يحدد لهم نوع العبادة كتوقير النبي عليه الصلاة والسلام والبر بالوالدين وغيرها، والمولد من العبادات المشروعة بأصلها لا بوصفها بكون المقصود منه توقيره عليه الصلاة والسلام.
وذكر من ذلك: بأن البر بالوالدين يمكن أن يكون أي شيء يحقق هذا البر ولا يوصف هذا بكونه بدعة،كما لو قبل رأسه أو تبرع له بعضو ككليته فإن هذا يعد من البر، ولا نقول هل فعله النبي عليه الصلاة والسلام أو أحد من أصحابه،ولا نصفه بالبدعة.
ومما قال أيضا: أن الإمام مالك كان لا يحدث حتى يتطيب ويلبس أجمل ثيابه ويسرح لحيته ثم يحدث، توقيرا لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لم يفعله أحد من الصحابة، وكذا جاء عن الإمام أحمد أنه كان لا يحدث وهو نائم إنما يقوم ثم يحدث، فهل يوصف فعل أحد هذين الإمامين بأنه بدعة لكونه لم يفعله أحد من الصحابة رضي الله عنهم:
فالجواب عما ورد بالآتي:
أولا: بالنسبة لبر الوالدين فهذا أمر عرفي فكل ما تعارف عليه الناس أنه من البر صار برا إذا لم يخالف الشرع، كتقبيل الرأس أو التبرع بالكلية أو غيرهما مما فيه نفع وتقدير للوالد أو الوالدة أو حتى صلة الأرحام فالمناط فيه الأعراف الصحيحة الجارية بين الناس، فهي المحدد للبر، لكن لو أن أحد الأبناء التزم طريقة معينة في البر لم تكن معروفة عند أحد إنه من البر، ولم يقرها عرف معين والأب لا يستفيد من هذا الطريقة لأنه لا يعتقد أنها من البر، ولا ترجع عليه بأي مصلحة، ثم تطور الأمر فأصبح الابن يتعبد لله بهذه الطريقة والكيفية لا يغادرها أبدا ينصب لها الأوقات المحددة، لا يتغير في اليوم أو الأسبوع أو السنة ويحافظ عليها، ثم دعا غيره من إخوته ثم دعا إليها كل الناس من أهل بلده وغيرهم، وأصبح ينادي عليها وهي لم تكن معروفة عند أحد أنها من البر لكن اجتهادا منه والأب لا يعتقد أنها من البر، ولا تعود عليه مصلحة من هذا، وكل أصحاب الأب يعرفونه حق المعرفة وينظرون إلى هذه الطريقة بأنها ليست من البر، لكن الابن يصر أن يتقرب بها إلى الله وأنها تحقق البر بأبيه، ويجعل فيها أشياء لا يرضها الأب ولا يحبها، فيكون الابن متعديا على أبيه بهذا البر غير مأجور عليه، أقرب إلى العقوق منه إلى البر.
وهذا ما يحصل بالمولد فلم يقل عليه الصلاة والسلام أن من توقيري أن تجتمعوا يوم مولدي ولم يكن هذا معروفا عند الصحابة أنه من توقيره عليه الصلاة والسلام أن يحتفل في يوم مولده فهذا سبب لم يجعله أحد من أسباب توقيره ومحبته عليه الصلاة والسلام والأعراف في زمنه عليه الصلاة والسلام حتى اليوم قاضية أنه ليس من توقير الميت الاحتفال بيوم مولده بعد وفاته، ولم يكن هذا معروفا عن المسلمين في كل الأزمان إلا ما جاء هذا العصر عن بعض الغربيين الاحتفال بعيد الميلاد للأحياء دون الأموات، ففرق بين من يبحث عن نوع توقير له عليه الصلاة والسلام يتوافق مع المتغيرات الزمانية بعرض سيرته الشريفة عليه الصلاة والسلام بوسائل التواصل ويستخدم الذكاء الاصطناعي وغيرها من الطرق لإيصال أخلاقه وشمائله للناس كافة، وبين من يركن إلى سبب من الأسباب يحافظ عليه محافظته على العبادات المشروعة بأصلها ووصفها، ويقيم المراسم لا يغادرها أبدا منذ عشرة قرون أو أكثر وينادي عليه، مع أن هذا السبب لا يحصل به عرفا التوقير لأن هذه السبب كان موجودا وأهملته الأعراف فهو ملغى عرفا وشرعا، مما يدل على إلغاء التوقير المتضمن له عليه الصلاة والسلام بهذه الصورة المخترعة التي لم تجر عادات الناس بها أبدا.
ثانيا: أما ما كان يفعله الإمامان مالك وأحمد فهذه صورة من صور التوقير اجتهدا فيها محبة له عليه الصلاة والسلام رأيا أنه من تحقيق مناط التوقير والاحترام والتعظيم له عليه الصلاة والسلام حال التحديث، وهما لم ينشراها ولم يحثا طلابهم عليها ولم يتابعهما على هذا أحد، ولم يقل أحد بأن هذا حتى من سنن التحديث إنما هو أدب من الآداب أخذ من الطهارة لقراءة القرآن والصلاة والطواف وكل أمر معظم فعدي إلى السنة تعظيما وتشريفا له، وهو محض اجتهاد قياسي، ولو تطور الأمر عنهما وجعلاه أمرا مشروعا مع التحديث وقرراه كما يقرر اليوم أصحاب المولد المولد، وتنادوا إليه وحثا طلابهما عليه، حتى صار الناس على هذا الأمر لايغادرونه ولا يتركونه أبدا مع كل حديث يحدثون به عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأنكروا على من لم يفعله، لكان هذا الأمر أقرب إلى الاختراع بربط التحديث بكيفية معينة من الطهارة واللباس والطيب مما لا يعرفه أحد من الصحابة ولا من التابعين، بل ولا رسول الله ﷺ عندما يحدث أو يحدثه أحد من أصحابه، فهذا كله لا أصل له ولا يجوز اعتقاد أن له أصلا، لكن يتحمل في الجزئيات والأفراد ما لا يتحمل في الكليات والاجتماعات العامة فمن فعل شيئا اجتهادا منه بصورة فردية غير ما يحصل من الاجتماعات ومد السرادقات وإقامة الأعياد الطويلة وتعطيل الدراسة وإطعام الأطعمة وإنشاد القصائد والأناشيد والرقص، وغيرها من الأمور التي لا تخفى على أصحاب الموالد، فهذا شيء وذاك شيء آخر مباين له.
أسأل الله الهداية لنا جميعا، والله أعلم.