بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.
يوم الأحد: 15 ربيع الأول 1447ه الموافق لـ 7 من سبتمبر 2025م:
• من أهمِّ صفحاتِ الكُتب الصفحاتُ التي لا تُعلِّمني، وإنما تريد مني أن أتعلَّم؛ الصفحاتُ التي تَسكُتُ عن تعليمي؛ فلا تُعلِّمني وإنما تَعرِضُ عليَّ ما يجب أن أتكلَّم فيه وما يجب أن أفكِّر فيه.
• صفحاتُ عبد القاهر المُثْبَتةُ في ملحق «دلائل الإعجاز» من أهمِّ الصفحات؛ تلك الصفحاتُ التي ذكر فيها شعرًا فيه بيتٌ تُذكَر فيه صورةُ المعنى بدون تجويدٍ وتحسين، وبيتٌ تُذكَر فيه صورةُ المعنى بعد تجويدٍ وتحسين.
• عبد القاهر انتهى في مناقشة موضوع «اللفظ والمعنى» إلى أن القضيةَ ليست اللفظَ وليست المعنى، وأن صَنْعة الشاعر ليست في الألفاظ وليست في المعاني، وإنما هي في صُور المعاني، وأن المعنى الواحد يمكن أن يأتي في صُور كثيرة مختلفة، وأن قضية البلاغة، وقضية الشِّعْر، وقضية الدِّراسة البيانية = هي في صُور المعاني، ليست في الألفاظ وليست في المعاني العامة، وهذا مهمٌّ جدًّا، وهو خُلاصة كتاب «دلائل الإعجاز».
• القِسم الأوَّل من صُور المعاني التي عرضها عبد القاهر فيه البيتان قيلا في معنى واحد، أحدُهما لا صَنْعة فيه ولا تزيين ولا تجويد، والآخرُ فيه صَنْعةٌ وتحسينٌ وتجويد، وهذا جيِّد جدًّا ومُريح؛ لأننا أمام صُورتين: صورة لا صَنْعة فيها وصورة فيها صَنْعة، ومن السَّهل جدًّا أن أُدرِك الصُّورة التي لا صَنْعة فيها، ومن السَّهل جدًّا أن أُدرِك الصُّورة التي فيها الصَّنْعة.
• عبد القاهر عرض أبياتًا كثيرةً في القِسم الأوَّل من صُور المعاني، ورَفَع يدَه عن الكتابة في العلم، وقال: عليك أنت أن تُدرك الصُّورةَ التي لا صَنْعةَ فيها والصُّورةَ التي فيها صَنْعة.
• عبد القاهر عرض في القِسم الثاني من صُور المعاني شِعرًا فيه البيتان قيلا في معنى واحد، والصُّورة في البيتين فيها صَنْعة، ولم يطلب مني أن أستحسن، أو أن أُفضِّل، أو أن أُميِّز، وإنما طلب مني أن أتعرَّف على الصَّنعتَيْن مِن غير أن أَحكم بأن هذه أفضل؛ لأن هذا يمكن أن يكون فيه خلاف، والخلافُ فيه لا يَضرُّ؛ فقد ترى أنت أن الصَّنْعة في هذا وأرى أنا خلافَك. المهمُّ أن أكون أنا وأنت عالمَيْن بالصَّنْعة التي في البيتين.
• المهمُّ هو العِلمُ بالصَّنْعة وليس الحُكم على الصَّنْعة.
• عَرَض عبدُ القاهر بعد قِسمَيْ صُور المعاني شِعرًا وَصَف فيه الشُّعراءُ عملَهم في الشِّعْر؛ الشاعرُ الذي عانى صَنْعةَ الشِّعْر يَصِف ما عاناه في عَمَل الشِّعْر؛ ليُبيِّن لك عبدُ القاهر أن صَنْعةَ الشِّعْر ليست في إبعاد الشِّعْر عن الثِّقَل، وليست في سهولة الألفاظ، وليست في عُذوبة الكلام، وإنما هي عَملٌ آخر.
• حَفِظتُ كُتبَ البلاغة مُتونًا وشروحًا، لكنَّ الناقصَ المدمِّر لكلِّ فِعْلي هو تدريبُ نفسي وذائقتي البيانية على معرفة الصُّور، معرفة مَحْض الشِّعْر، معرفة جوهر الشِّعْر، معرفة الشِّعْر الذي في الشِّعْر.
• حديثُ الشُّعراء عن الشِّعْر حظُّنا منه قليلٌ جدًّا؛ لأنه ليس عندنا إلَّا الأبياتُ التي قالها الشُّعراء، وليس عندنا شُعراء كَتبوا في نقد الشِّعْر، وإنما عندنا شُعراء كتبوا في صَنْعة الشِّعْر؛ فكنت شديدَ الحفاوة بهذا، وأكاد أحفظ الأبيات التي قِيلت في صَنْعة الشِّعْر.
• كنت أريد أن أَعْرِفَ هذا العملَ الجليل، الذي لا يَفْضُله إلَّا كلامُ الله وكلامُ رسوله، وهو الشِّعْر الجاهلي: كيف صَنَعوه؟ وكيف بذلوا جهودًا للوصول إلى جوهره.
• هناك أشياءُ دائمًا تُعرِّفني بالكُتَّاب؛ لا تُعرِّفني بعلمهم، وإنما تُعرِّفني بأشياء أخرى فيهم؛ فمِن قول عبد القاهر: «وقد أردتُ أن أكتب جُملةً من الشِّعْر الذي أنت ترى الشاعرين فيه». أجِدُ عنايتَه بتربية عَقلِ الذي وَضَع كتابَه بين يديه؛ فحين يقول: «أردتُ» تَعرِفُ أنه يُخاطبك، ويُخاطب عقلَك، ويُريد لعقلك أن يكون عقلًا رائعًا؛ لأنَّ في أعماقِه أنه يُربِّي أجيالَ خيرِ أُمَّة أُخْرِجت للناس.
• الذي يُربِّي أجيالَ خيرِ أُمَّة أُخْرِجتْ للناس يَصنع أعظمَ عَملٍ على هذه الأرض.
• أن يُتاح لك أن تُربِّيَ أجيالَ خيرِ أُمَّة أُخْرِجتْ للناس، أو أن تشارك، أو أن تَفعل فعلًا ما، أو أن تقول قولًا ما، يُعِين على تربية أجيال خير أُمَّة أُخْرِجت للناس، ثم لا تَبذُل أقصى طاقتك في هذا فأنت إنسانٌ لا قيمة لك، ولا أقول إنه لا يجوز لأحد أن يَحترمك - لأن هذا أمرٌ مفروغٌ منه - وإنما أقول: لا يجوز لك «أنت» أن تَحترم «أنت» نفسَك «أنت».
• الكِتابُ فيه أشياءُ لا تَحتاج إلى شارحٍ يَشْرحها، إنما هي تَحتاج إلى عقلك أنت؛ فإذا لم تتدبَّر فلن أقول لك: «اشتغِل برَعْي الغنم»؛ لأن رَعْيَ الغنم مُحتاجٌ إلى عَقلٍ واعٍ، وإنما سأقول لك: «رُوح في ستين داهية».
• أدعو إخواننا المغفَّلين إلى مزيدٍ مِن حَمْد الله؛ لأن الخَيْبة من النِّعَم؛ لأنك إذا عَرَفتَ واجباتك الأساسيةَ فلن تنام حتى تؤدِّيَها.
• خاطًّا سَبيلَ فَهْم الشِّعْر، قال شيخُنا تعليقًا على قول المتنبِّي:
بِئْسَ اللَّيَالِي سَهِدْتُ مِنْ طَرَبِي *** شَوْقًا إِلَى مَنْ يَبِيتُ يَرْقُدُهَا
هنا لا يوجد شَرح؛ فأحاول أن أَفْهم. كيف أَفْهم؟ أَفْهم من الكلمات التي أمامي وعلاقاتِ الكلمات التي أمامي؛ لأن الصُّورةَ مولودةٌ مِن رَحِم الكلماتِ وعلاقاتِ الكلمات.
• تعليقًا على قول المتنبِّي:
بِئْسَ اللَّيَالِي سَهِدْتُ مِنْ طَرَبِي *** شَوْقًا إِلَى مَنْ يَبِيتُ يَرْقُدُهَا
قال شيخُنا: أظنُّ يا أبا الطيِّب أنك لو كنتَ صادقًا في مودَّتك لَمَا قلتَ: «بِئْسَ اللَّيَالِي»؛ لأن الليلةَ التي لا تنامها شوقًا إلى صاحبةٍ ليست بِئْسَ اللَّيالي، لكنِّي ليس لي علاقةٌ بما في قلبك، أنا علاقتي بالذي نَطقَ به شِعرُك.
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «ويكون ذلك إمَّا لأن متأخِّرًا قصَّر عن متقدِّم، وإمَّا لأنْ هُدِيَ متأخِّرٌ لشيء لم يَهتدِ إليه المتقدِّم»، قال شيخُنا: أنا لا يَعنيني هنا المتقدِّم ولا المتأخِّر، ومَن منهما أجاد أو قصَّر، وإنما يَعنيني أن أُدرِك أن ههنا تجويدًا وأن ههنا تقصيرًا.
• المسألةُ في فَهْم الفُروق بين صُور المعاني ليست علمًا، وإنما هي مقدارُ جودتِك في فَهْم النَّص.
• لم تقرأْ كتابَ «دلائل الإعجاز» إلَّا لتتعلَّم وتُدرِكَ معانيَ البيان وأسرارَه.
• عبد القاهر في شواهد صُور المعاني ساق لك معنًى كان البحتريُّ فيه هو السَّابق والمُجوِّد والمتنبِّي هو اللاحِق والمُقصِّر، ثم ساق معنًى آخر كان البحتريُّ فيه هو السَّابق والمُقصِّر والمتنبِّي هو اللاحِق والمُجوِّد، كلُّ ذلك ليقول لك: ليس المطلوب منك أن تُفاضِل بين الشُّعراء، لو فضَّلتَ البحتريَّ في الصُّورة الأولى ستُفضِّل المتنبِّي في الصُّورة الثانية. غايتي أن تَفهمَ الصُّور، وليس أن تُميِّز وأن تَحْكُم.
• تعقيبًا على قول المتنبِّي:
وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً *** وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا
قال شيخُنا: الحمد لله أننا لم نُقيَّد؛ لأننا لم نجد إحسانًا. في زمان المتنبِّي كان الكرامُ بإحسانهم يُقيِّدون الناس؛ فمِن فَضْل الله أن زماني ليس فيه إكرامٌ؛ فليس لأحد عليَّ قَيدٌ.
• تعقيبًا على قول المتنبِّي:
وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً *** وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا
قال شيخُنا: نحن الآن مع صُورة معنى، ولكنْ احْذَرْ أن يَغيب عنك تذوُّقُك أنت للمعنى، وأن تُدرك أن الزَّمانَ الخِصْبَ هو خِصْبٌ بالكرام، وأن الزَّمانَ الجَدْبَ هو جَدْبٌ لعدم وجود الكرام، وأن الكِرام كالغيث؛ تَخْضَرُّ به المجتمعات.
• تعليقًا على قول المتنبِّي: «وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا»، قال شيخُنا: لاحِظْ أنني في ضميري أن المتنبِّي ليس هو ابنَ بَجْدَةِ هذه الكلمة العالية، وإنما الذي أنطقه بها كَريمٌ.
• يا سيدنا، معاني الشِّعْر لم يَخترِعْها الشُّعراء، وإنما صادَفوا مِن رجال أُمَّتهم مَن أنطقَهم بها؛ لو لم يَجد المتنبِّي سيفَ الدَّولة لَمَا قال: «وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا».
• الإنسانُ الرَّائع الذي أنطق المتنبِّي بقوله: «وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا» ليس هو الإنسانَ الذي أعطى أبا الطيِّب، ولكنه الإنسانُ الرَّائعُ الذي حَمَى الأُمَّة.
• ليس الإنسانُ الرَّائعُ هو الذي يُعطيني - أنا أنانيٌّ لا قيمةَ لي إن كان ذلك - وإنما الإنسانُ الرَّائعُ هو الذي حَمَى حَوْزةَ الأمَّة.
• لا بُدَّ أن تكون إنسانًا عاليًا لكي تُربِّي جِيلًا عاليًا.
• الشِّعْر لم يَصْنَعْه الشُّعراء، وإنما الشِّعْر فتح بابَه للشعراء كرامُ رجال الناس.
• الشِّعْر قاله الشُّعراء، إنما المعاني التي سَكنتْ في نفوس الشُّعراء هي التي صَنَعها الكرام.
• كُفُّوا عن تزييف الحقائق، واجِهوا الحقائق، وقولوا للناس إنها حقائق، وإنها أزمات، وإن علينا أن نفكِّر في الخَلاص منها، ولا تخدعونا وتقولوا إن الذي نحن فيه ليس أزمة.
• ناقِشُوا الشواهد، وناقِشُوا المعاني؛ لِتتعلَّموا. لا يَكُنْ كلُّ هَمِّي صورةَ المعنى، هذا جيدٌ وضروري، إنما هناك أشياءُ لا يجوز أن نُغفِلَها، وهي أن الشواهد لها رسالةٌ أخرى، وأن علماءنا كانوا يَستشهِدُون بالشِّعْر الذي له مَدخلٌ في بناء نفس الإنسان، وأن النَّحْويَّ الذي في التُّراب يقول لي: أنا أُعلِّمُك النَّحْو وأُعلِّمُك كيف تكون إنسانًا أفضل، أُعلِّم لسانَك كيف يكون لسانًا أفضل وأُعلِّم قلبَك وعقلَك كيف تكون أنت إنسانًا أفضل.
• الأهمُّ عندي مِن معرفتك للصُّورة التي فيها صَنْعةٌ والصُّورة التي ليس فيها صَنْعة - وإنْ كانت معرفتُك لذلك مُهمَّةً جدًّا، وهي التي من أجلها كتب عبد القاهر الذي كَتب - هو أن تكون أنتَ إنسانًا؛ لأن الذي يَحمِي الأرضَ أنت إنْ كنتَ إنسانًا، والذي يُضيِّع الترابَ أنت إن لم تكن إنسانًا.
• تعليقًا على قول المتنبِّي: «وَكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ»، قال شيخُنا: اجعلوا أرضَنا تُنبِتُ العِزَّ، ولا تَجعلوا أرضَنا تُنبِتُ الذُّل.