فوائد من درس دلائل الإعجاز 60

51
7 دقائق
3 جمادى الثاني 1447 (24-11-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.

يوم الأحد: 22 ربيع الأول 1447ه الموافق لـ 14 من سبتمبر 2025م:

قلتُ، وأكرِّر: إن أبرَّ ما في العِلم، وأنفعَه لطالب العلم، هو ما يتعلَّمه الإنسانُ بنفسه، هو ما يُدركه الإنسانُ بتأمُّله.

لا شكَّ في أن عِلْمَ الكُتب علمٌ جليل، وأن عِلْمَ الدُّروس علمٌ جليل، إنَّما الذي يُنمِّي فيك المَلَكةَ العلميةَ والرُّوحَ العلميةَ هو ما تتعلَّمه أنت بنفسك.

وجدتُ كلامَ عبد القاهر في البلاغة هو - بالقطع - في بلاغة اللِّسان الإنساني، وليس في بلاغة اللِّسان العربي، وكأنه يَدْرُس العلمَ الإنسانيَّ المشتركَ بين الناس جميعًا، وهذا شيءٌ عجيبٌ ورائعٌ، وكأنك لو تَرجمتَ كتاب «دلائل الإعجاز» إلى الفارسية لقرأه الفُرْسُ على أنه دراسةٌ في بلاغة الفُرْس، ولو ترجمته إلى الطَّليانية لقرأه الطَّليانُ على أنه دراسةٌ في بلاغة الطَّليان. وهكذا لو تَرجمتَ الكتابَ إلى لُغات العالَم لقرأه عقلاءُ العالَم على أنه دراسةٌ في بلاغتهم.

عبدُ القاهر كان مدركًا أن كلامه في البلاغة هو في بلاغة اللِّسان الإنساني، وليس هذا شيئًا أدركناه، وإنما هو موجودٌ في كلامه، وقد وجدتُه في صفحة 528 يقول في آخر السطر الثالث: «وهو شيءٌ يَعرِفه العقلاءُ في كلِّ جيلٍ وأمَّة، وحكمٌ يَجري عليه الأمرُ في كلِّ لسانٍ ولغة»، و«هو» أي: النَّظْم، أي: البلاغة.

عجيبٌ أن نقرأ كتابًا في البلاغة العربية وصاحبُه يقول لنا إنه في البلاغة الإنسانية.

كان لدينا في القرن الخامس الهجري دراسةٌ لعلمٍ إنسانيٍّ، وليس لعلمٍ عربيٍّ، وتَعْجَبُ حين يكون هذا العلمُ بلاغةَ اللِّسان، وتَعْجَبُ حين يكون دراسةً في إعجاز القرآن، وكأن القرآن يُعجِز الألسنةَ كلَّها وليس اللِّسانَ العربيَّ، وأن برهان النبوَّة برهانٌ لكلِّ البشر وليس للعرب فقط.

مهمٌّ جدًّا أن تجد كتابًا يفتح آفاقَك على الإنسانية كلِّها، وليس على عِرْقٍ منها ولا على جِنسٍ منها، مع أنه يتكلَّم في خصوصيات العربية؛ لأن خصوصيات العرب هي الفصاحة والبلاغة، والله جعل معجزةَ كلِّ نبيٍّ مما نَبغَ قومُه فيه؛ فجعل معجزةَ موسى في السِّحر لنُبوغ الفراعين في السِّحر، وجعل معجزةَ سيدنا رسول الله في البيان لنبوغ قومِه في هذا الباب.

العلمُ مُتسعٌ وحُرٌّ وجيدٌ ونافع، ولكنْ كلُّ هذا متوقِّفٌ على التدبُّر؛ فمن لم يتدبَّر ذهب عنه كلُّ شيء، ومن تدبَّر وجد في العلم خيرًا كثيرًا.

في هذا الدرس لا بُدَّ أن نستحضر القضيةَ، القضيةُ هي أن عبد القاهر يقول إن خطأ من أخطأ في القول إن البلاغة في الألفاظ راجعٌ إلى أنهم لم يَفطِنوا إلى أن للمعاني صورًا، وأن أهمَّ ما في البيان هو إتقانُ صُور المعاني، وأراد عبد القاهر أن يَكون عندك قدرةٌ على معرفة صُور المعاني فبذكاءٍ شديد، وإخلاصٍ شديد، وتوفيقٍ شديد، عَرَض عليك شعرًا كثيرًا أحدُ البيتين فيه صورةُ المعنى غُفلٌ ساذجة، والبيتُ الآخرُ فيه صورةُ المعنى فيها شيءٌ من التحسين والتجويد، وأنت ستَفْهم من هذا أن عمل الشاعر وصنعة الشاعر في إتقان الصُّور، وتجويد الصُّور، وتحسين الصُّور.

يُهمُّني جدًّا رغبةُ العالِم في تكوين إنسان أفضل؛ لأن هذه خيرُ أمَّة أُخرجتْ للناس كما قال خالقُ الناس، وقال إن نبيَّها خيرُ الخلق، وإن كتابَها خيرُ الكُتب، فإذا أهملتموها وصارت ضائعةً في الأمم فإنكم أنتم الذين فعلتم ذلك؛ لأنها خُلقتْ مهيأةً لأن تكون خير أمَّة، فقام علماؤنا على إعداد أجيالها وأبنائها إعدادًا يَكونون به خير أمَّة، ومَن غفل عن ذلك فقد غفل عن ذات نفسه؛ لأنه هو نفسه مِن خير أمَّة أُخرجتْ للناس.

عبدُ القاهر يُعدُّك: أولًا ساق لك شِعرًا فيه صورتان لمعنى واحد، إحداهما ليس فيها صنعة والأخرى فيها صنعة، ثم ساق لك شعرًا الصُّورتان فيه مجوَّدتان، ثم قال لك: إذا عَلِمْتَ هذا فسأورد لك شعرًا يتحدَّث فيه الشعراءُ عن صنعتهم في الشِّعر. هذا هو الإعداد، ليس «بَعْبَعة»، وإنما هو عملٌ منظَّمٌ لغايةٍ منظَّمة، وجهادٌ منظَّمٌ للوصول إلى أمورٍ منظَّمة.

عِشْنا في «البَعْبَعة» قرونًا، وما زادتنا «البَعْبَعةُ» إلا تخلفًا؛ فالفِظُوا أنفسَكم من هذه «البَعْبَعة» المقترنة بالتخلُّف، واقْصِدُوا إلى العمل المنتِج لأجيالٍ إن لم تكن خيرَ أجيال الأمَّة فهي خيرُ أجيال زمانها.

كلامُ العلماء بدون تدبُّر حبرٌ على ورق، وبالتدبُّر هو نورٌ في القلوب.

هل تظنُّ أنك حين تلقى الله وأنت مغفلٌ جاهلٌ لا قيمةَ لك سيكون عندك طَمعٌ في دخول جنَّاته التي هي للمصطفَيْن الأخيار، أو سيكون لك وَجهٌ يَجعلك تَطلب منه أن يُدخلَك جنَّته التي خَلَقها للمصطفَيْن الأخيار؟!

تُعجبني جدًّا جدًّا جدًّا كلمةُ «حَيَّ على الفلاح»، ولو استطعتُ ألَّا أقول في حياتي لقومي إلا «حَيَّ على الفلاح» لبَقيتُ أقول لقومي: «حَيَّ على الفلاح» حتى ينتهي الأجل.

هناك معانٍ جميلةٌ جدًّا هيَّأت النفوسَ قبل أن تَسمع «حَيَّ على الفلاح»؛ فشَهِدتْ أنْ لا إله إلا الله، وشَهِدتْ أن محمدًا رسولُ الله، ونُوديت إلى الصَّلاة، ثم بعدما تطهَّرتْ قِيلَ لها: «حَيَّ على الفلاح»؛ حتى تُعمِّر الأرض بالطُّهر والنَّقاء والصِّدق والعدل والعفاف.

إحساسي أن الإنسانَ الذي يَعيشُ ولا هدفَ له، ولا غايةَ نبيلةً له تُرضِي الله، لا فرق بينه وبين الحمار.

حين أقرأ قول الله تعالى: «أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ» أقول: لقد سوَّى بين الإنسان والحمار، لكنْ حين أقرأ قولَه: «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» أَعْجَبُ؛ لأنه نَزل بالإنسان عن مرتبة الحمار.

حين أقرأ الكلامَ الجيدَ أبحث فيه عن الكلمة الأجود؛ لأنهم قالوا: ابحث في الشِّعر عن الشِّعر؛ لأنك قد تقرأ شِعرًا لا شِعرَ فيه؛ فالشِّعرُ الذي هو مَحْضُ الشِّعْر ليس في البحور والأوزان التي تقرؤها، ولكنه في المعاني والصُّور والأخيلة التي تقرؤها.

تعليقًا على قول المتنبِّي:

إِذَا الْهِنْدُ سَوَّتْ بَيْنَ سَيْفَيْ كَرِيهَةٍ *** فَسَيْفُكَ فَي كَفٍّ تُزِيلُ التَّسَاوِيَا

قال شيخُنا: قلتُ، وأكرِّر، إن علماءنا حين كانوا يأتون بالشَّواهد لم يكن هدفُهم فقط موضعَ الشَّاهد، إنما هدفُهم أن الشَّاهدَ فيه معنًى يُربِّيك كإنسان، ويصنع منك رجلًا قويًّا محاربًا، السَّيفُ في كفِّك التي تُزيل التَّساوِيَا.

أنا دائمًا أحِبُّ معانيَ الشَّواهد، وأقدِّمها على موضع الشاهد، مع أن موضع الشاهد في غاية الأهمية.

نُريد أن يوجد في مجتمعاتنا رجالٌ يُعلِّمون الناسَ الخيرَ بأفعالهم مِن غير أن يتكلَّموا.

أبو تمَّام يأخذ الخاطرَ الحُلوَ ويَكْسِبُه حلاوةً فوق الحلاوة.

تعليقًا على قول أبي تمًّام:

أَرَى النَّاسَ مِنْهَاجَ النَّدَى بَعْدَمَا عَفَتْ *** مَهَايِعُهُ الْمُثْلَى وَمَحَّتْ لَوَاحِبُهْ

قال شيخُنا: أنا أرجو أن أرى الذي أرى الناسَ مِنهاجَ النَّدى، أنا لا أريد أن أرى الذي يَفعلُ الخيرَ فحسب، وإنما أريد أن أرى الذي فتَّح عُيونَ الناس على أفعال الخير.

عشتُ زمانًا وأنا أقرأ الشاهدَ لموضع الشاهد، حتى رأيتُ «معاهد التنصيص»، فقلتُ: وما عساه يُضيف هذا إلى الشواهد، فأحسستُ أن الشواهد مختارةٌ، ليس لِما فيها من موضع الشاهد فحسب، وإنَّما لِما فيها مِن معانٍ تَصنع الإنسانَ الأكرم.

إن كنتَ لا تريد أن يكون إنسانٌ أكرمُ في هذا البلد إلا أنت فبئس أنت وبئس اليومُ الذي جاء بك، وإن كنتَ تُحبُّ هذا الترابَ فعليك أن تَصنع الإنسانَ الأكرمَ، عليك أن تَصنع مَنْ هو أكرمُ منك لهذا الوطن.

أحيانًا يُحسِن أبو تمَّام إحسانًا لا يَصِلُ مُحسنٌ إلى مثلِه، وأحيانًا يُسيء أبو تمَّام إساءة لا يَصِلُ مُسيءٌ إلى مثلها. أبو تمَّامٍ عجيبٌ جدًّا؛ نابغةٌ فيما يَسرُّ ونابغةٌ فيما يَسُوء.

يا سيدنا، أريدك أن تتأمَّل كيف يُبنى الكلامُ العالي؛ حتى تكون يومًا ما مِن بُناة الكلام العالي، ولو بَلغتْ بك السِّنُّ ما بَلغتْ بي ولم تَصِلْ إلى بِناء الكلام العالي فمُتْ وأنت قريرُ العين؛ لأنك بذلتَ أقصى طاقتك حتى تكون مِن بُناة الكلام العالي، ومَن بذل أقصى الطاقة فلا عليه في النتيجة.

شيءٌ أراحني منذ أوَّل حياتي؛ هو: ابذُلْ أقصى الطاقة، ثم قُلْ، يَرضى بقولك مَن يَرضى، ويَرفض قولَك مَن يَرفض، لا يعنيني الرِّضا أو الرفض، أنا يعنيني بذلُ أقصى الطاقة فقط، فإن كنتَ كذلك فلن تلتفتَ إلى ما يُقال عنك؛ لا بخيرٍ ولا بشَر.

أذكر أنني كنت أدرِّس لطلاب الدراسات العليا في «أمّ القُرى»؛ فقال لي طالبٌ إنه أتى من الجامعة الشمالية، وإن عندهم أستاذًا كتب كتابًا في الدراسات البلاغية المعاصرة، وإنه كتب فصلًا عنِّي؛ فلم أسألْه ماذا قال، ولو طلبتُ منه الكتاب لجاءني به، والمسألةُ ليست أنني لم أسألْه، المسألةُ أنني لم أجد في نفسي ما يدعوني إلى أن أسأله؛ لأني لم أقصد أن أُرضِي زيدًا أو أُغضِب عَمْرًا، وإنما قصدتُ أن أقول ما عندي ببذل أقصى المجهود.

مِن كرم الله أن المعانيَ الحُلوة تَدبُّرك لها يَزيدك إحساسًا بحلاوتها؛ فلا تَجِدُ مَللًا في التدبُّر، بل تَجِدُ حُبًّا وحُسنًا وإحسانًا في التدبُّر.

حين قرأتُ قولَ الله تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أدركتُ أن زيادة الحُسْن لا تَعني فقط زيادةَ الأجر، وإنما المرادُ: «نَزيدُ في إحساسه بالحُسن حُسنًا، فيَزدادُ حُبًّا للإحسان»، وزيادةُ حُبِّي للإحسان عندي لها فَضلٌ كفضل الإحسان.

تعليقًا على قول كُثيِّر:

رَمَتْنِي بِسَهْمٍ رِيشُهُ الكُحْلُ لَمْ يَجُز *** ظَوَاهِرَ جِلْدِي وَهْوَ فِي الْقَلْبِ جَارِحُ

قال شيخُنا: أحسنتَ يا كُثيِّر، رائع، لو كانت مفاتيح الجنة في يَدِي يا كُثيِّر لأعطيتُك منها ما شئتَ.

تعليقًا على قول أبي العتاهية:

أَسْرَعَ فِي نَقْصِ امْرِئٍ تَمَامُهُ *** تُدْبِرُ فِي إِقْبالِهَا أَيَّامُهُ

قال شيخُنا: أبو العتاهية شاعرٌ لم يأخذ حقَّه؛ لأنه شاعرٌ جيدٌ جدًّا، وبالغُ الجودة، وشيءٌ جليلٌ جدًّا أنْ يأتيَ عقلُه بهذه الأفكار وهذه الصُّور.

أبو تمَّامٍ دائمًا الصُّور التي سُبِقَ بها لا بدَّ أن يَضع عليها شيئًا، ولا بدَّ أن يَصنعَ فيها سَمْتًا مِن سَمْتِه.

إذا حَفِظْتَ علمًا فلا تُحدِّث الناسَ به كما حَفِظْتَه، وإنما حَدِّث الناسَ به كما وَعَيْتَه، وإذا وَعَيْتَه وجدتَ وَعْيَك يُفرِغُ عليه شيئًا، ولو لَمْحةً؛ فتُحدِّث الناسَ بعِلمٍ كأنه عِلْمُك.

لا تكونوا عالةً على البشر؛ تأخذون علمَ البشر مِن غير أن تُضيفوا إليه شيئًا، وإنما خُذوا وأعطُوا، خُذوا مِن علم الناس وقدِّموا علمًا للناس؛ حتى تكونوا ناسًا من الناس.

البلاغةُ؛ متنًا وشرحًا وتلخيصًا، علمٌ جيدٌ جدًّا، لكنها ستظلُّ علمًا موقوفًا، فإذا أدخلتَها في الشِّعر وتذوَّقْتَ بها الشِّعر صارت ناطقة.

البلاغةُ بدون إدخالها في الشِّعر بلاغةٌ خَرْسَاء، وإذا تَعلَّمتَ بلاغةً خَرْساءَ فلك ما اخترتَ.

أكرمُ فعلٍ صنعه الزَّمخشريُّ أنه نقل بلاغةَ «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» من كونها بلاغةً نظريةً إلى كونها بلاغةً حقيقيةً ناطقة.

تعقيبًا على قول المتنبِّي:

تَذَلَّلْ لَهَا وَاخْضَعْ عَلَى القُرْبِ وَالنَّوَى *** فَمَا عَاشِقٌ مَنْ لَا يَذِلُّ وَيَخْضَعُ

قال شيخُنا: لو وجدتَ الغزلَ والنَّسيبَ شاع في شَعبٍ فاعلمْ أن قيادات هذا الشَّعب سهَّلتْ له الحياة، وأدخلتْ عليه الرَّخاء، وأدخلتْ عليه الرَّغَد؛ فاتَّسعت المشاعرُ والأحوال، وإذا رأيتَ شعبًا ليس فيه شيءٌ من هذا فاعلمْ أنه سُلِّطَ عليه مَن أحلُّوا قومَهم دارَ البوار؛ فليس عندهم مجالٌ للمشاعر الإنسانية؛ لأن هَمَّهم أن يجدوا ما يَقُوتونه وما يَقُوتُ أولادَهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


أضف تعليق