بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أبو الطيب المتنبي، أحمد بن الحسين، شاعر العربية الأبرز على مر العصور، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. غلب على جُل قصائده المدح، وشاعت في ثنايا كثير من أبياته الحكمة، وله شطط وغرور بالنفس ومبالغات مرفوضة. ورغم ذلك يتبادر إلى أذهاننا هذا السؤال: هل تأثر المتنبي في شعره بالقرآن الكريم وبالحديث الشريف؟ هذا المقال يحاول الإجابة عن هذا السؤال، بالحجة والدليل، من خلال ديوانه الصادر عن دار بيروت للطباعة والنشر / لبنان عام 1983 م.
أولًا: تأثر المتنبي بالقرآن الكريم:
قوله:
لَأْمَةٌ فاضَةٌ أضاةٌ دِلاصٌ أحكمتْ نَسْجَها يدا داودِ
يصف الدرع فيقول إنها درع واسعة صافية ملساء أحكم نسجها وصنعها داود بيديه. أخذ المتنبي هذا المعنى من قول الله تعالى عن داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
قوله:
وعلمْتُ أنك فى المكارم راغبٌ صَبٌّ إليها بُكرةً وأصيلا
واضح أنه أخذ (بكرة وأصيلا) من قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42].
قوله:
أين الأكاسرةُ الجبابرة الأُلَى كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
أخذ هذا المعنى من قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
قوله:
إلى سيدٍ لو بشّر الله أمةً بغير نبىٍّ بشرتنا به الرسلُ.
وهذا من مبالغاته في المدح، أخذه من قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
قوله:
أو كان لجُّ البحر مثل يمينه ما انشق حتى جاز فيه موسى.
تأثر فيه بقول الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
قوله:
وخشيتُ منكَ على البلاد وأهلها ما كان أنذر قومَ نوحٍ نوحُ.
تأثر فيه بقوله تعالى على لسان نوح يخاطب قومه: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 39].
قوله:
خرجوا به ولكل باكٍ خلفه صعقاتُ موسى يوم دُكَّ الطُّورُ.
تأثر فيه بقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
قوله:
كأنى دحوت الأرض من خبرتى بها كأنى بنى الإسكندر السد من عزمى.
وهذا من غروره وشططه المرفوض، وقد تأثر فيه بقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، وبقوله تعالى: {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94].
قوله:
وما ماضى الشباب بِمُسْترَدٍّ ولا يومٌ يمر بمُستعادِ.
تأثر فيه بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ • لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون: 99-100].
قوله:
فلما جئتُه أعْلَى محَلِّى وأجلسنى على السبع الشداد.
وهذا من شططه ومبالغاته الفجة، وهو قول تأثر فيه بقول الله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12].
قوله:
رجُلٌ طِينُهُ من العنبر الوَرد وطينُ العباد من صلصالِ.
تأثر فيه بقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14].
ثانيًا: تأثر المتنبي بالحديث الشريف:
قوله:
نبكى على الدنيا وما من معشرِ جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا.
تأثر فيه بالحديث الشريف عن سهل بن سعد، قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ فقال: "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به".
قوله:
فالليلُ حين قَدِمْتَ فيها أبيضُ والصبحُ منذ رحلتَ عنها أسْودُ.
تأثر فيه بالحديث الشريف عن أنس قال: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أظلم من المدينة كل شيء".
قوله:
أو يرغبوا بقصورهم عن حُفرةٍ حيّاه فيها منكر ونكير.
تأثر فيه بالحديث الشريف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قبر الميت - أو قال: أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبدالله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا".
قوله:
ودهْرٌ ناسُه ناسٌ صِغارٌ وإن كانت لهم جثثٌ ضِخامُ.
تأثر فيه بالحديث الشريف عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال: "إنه ليأتِي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة"، وقال: اقرءوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}".
قوله:
ما رآها مكذِّبُ الرسل إلا صدَّق القولَ فى صفات البراقِ.
تأثر فيه بحديث الإسراء والمعراج الذي فيه وصف البراق: عن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ".
قوله:
أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى وأسمعتْ كلماتى مَن به صَمَمُ.
هذا بيته الأشهر؛ قال عنه بعض النقاد إنه معنى مبتكر لم يُسبق إليه. وجانبهم الصواب في ذلك؛ لأنه في هذا البيت تأثر بالحديث الشريف عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]. في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا".
قوله:
وإن كان ذنبى كلَّ ذَنبٍ فإنه مَحا الذنبَ كلَّ المَحْو مَن جاء تائبا.
تأثر فيه بالحديث الشريف: "التائب من الذنب، كمن لا ذنب له".
من خلال هذا العرض يتضح لنا أن المتنبي ضمن بعض أشعاره معاني قرآنية وأخرى نبوية استقاها من كتاب الله تعالى ومن أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلى وأعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
ديوان المتنبي ص20
الديوان ص27
الديوان ص28
الديوان ص45
الديوان ص59
الديوان ص68
الديوان ص71
الديوان ص 81
الديوان ص85
الديوان ص86
الديوان ص123
الديوان ص28
المستدرك للحاكم 4/360 و المعجم الأوسط للطبرانى 4/306
الديوان ص49
أحمد 21 /35
الديوان ص73
الترمذي 3/375
الديوان ص101
البخاري 6/93
الديوان ص237
مسلم 1/145
الديوان ص 332
البخاري 6/135
الديوان ص335
ابن ماجه 2/1419