بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن كتاب الله -تعالى- بحرٌ لا تنضب معارفه، ولا يشبع منه العقل ولا القلب. كلما عدت إليه متأملًا، أشرقت على روحك كنوز جديدة، تفتح لك آفاقًا من الهدايات التي لا تراها العين الغافلة. إنك لو أدَرْتَ النظر في حروف الآية الواحدة، وفتَّشت عن بديل للكلمة التي اختارها الله -سبحانه- في موضعها، فلن تجد أنسب ولا أدقّ منها، فهو البيان العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
دعنا نقف وقفة تأملية عند قوله -جلّ في علاه- في أوائل سورة العلق: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}. لنستخرج من هذا النور الرباني بعض الدلالات التربوية والروحية التي تسقي القلب وتنير العقل، بعيدًا عن مجرد التكرار، وبتأملات ترفع الهمة:
1. شرف العلم ومنهاجية البناء: لقد كان أول خطابٍ إلهي يتنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الأمر ب{اقْرَأْ}، وهي مفتاح العلم، ثم جاءت الإشارة إلى (القلم) كأداة لحفظ هذا العلم وتدوينه ونقله. إنه ليس مجرد تفضيل للعلم، بل هو وضعٌ لمنهاج لبناء الأمة، فالعلم القائم على القراءة والتدوين هو الركيزة الأساسية للارتقاء الحضاري والتمكين الرباني في الأرض.
2. القلم سقاء الذاكرة ومقوِّم الدين: القلم يا صاحبي هو هبة إلهية عظمى، جعله الله وسيلة لضبط الحياة والدين. إن الإنسان يُبتلى بداء النسيان، الذي يمحو العلم من قلبه ويجعل الحياة بلا رسوخ. فجعل الله القلم حاويًا للعلم، يحفظ الشهادات ويسجل الحقوق ويقيّد الحِكم، ولولاه لانقطعت أخبار السابقين واندثرت سُنن الأولين. يقول قتادة -رحمه الله-: (القلم) نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دِين، ولم يصلح عيش. (القلم) إذًا هو سِقَاءٌ لقلبك، يحفظه من الضياع والنسيان.
3. التَّدَرُّج من الجهل إلى النور الإلهي: إن هذه الآية تذكرنا بمصدر النعمة، ف(عَلَّمَ) فعلٌ من الله -سبحانه-. الإنسان مهما بلغ من العبقرية والعلم، فإن أصله جهل محض، كما قال -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (سورة النحل: 78). إن العلم الذي لديك ليس ملكًا ذاتيًا، بل هو عطيَّة إلهية، ومنحة ربانية. فإذا رأيت النور يتسلل إلى قلبك وعقلك، فاعلم أنه من الله، فاحذر أن تكون كقارون الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (سورة القصص: 78). فمن نسب الفضل لنفسه، حُجِبَ عن الزيادة.
4. الحذر من العُجْب والكِبر بالعلم: الجهل هو الأصل، والعلم هو الاستثناء الذي اختصك به الخالق. عندما تتذكر أنك "كنت لا تعلم شيئًا"، يتلاشى العُجْب والكِبر من النفس. إن العُجب بالعلم هو أول خطوة في طريق الانتكاس الروحي، وهو الذي يحجب عنك التَّدَرُّج والارتقاء. إن شكر هذه النعمة يكمن في التواضع، واستخدام هذا القلم فيما يرضي المُعَلِّم الأول -سبحانه-. تذكر دائمًا قوله تعالى بعد ذلك: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
5. التعليم بالقلم من دلائل ربوبية الله وكرمه: إن الاسم الموصول (الَّذِي) في الآية يعود على (رَبِّكَ) في بداية السورة. هذا الاختيار ليس عفويًا، بل هو إشارة عميقة إلى أن عملية التعليم بالقلم هي جزء من عملية التربية والرعاية الإلهية للخلق (الربوبية). وعندما جاءت هذه الآية بعد وصف الله ب (الْأَكْرَمِ)، كان ذلك دليلًا على أن القلم والعلم نعمة كَرَمٍ، فهو يُعلِّمك ويكرمك بالبيان في آن واحد. فلتنمُ في قلبك محبة هذا الرب الذي يربيك ويفتح عليك من كنوز علمه.
6. القلم أداة تمييز الإنسان والبيان عن سرائره: القلم مَلَكةٌ اختص الله بها الإنسان دون سائر المخلوقات. إنه لسان صامت يعبر عما يجول في الخاطر، عن الجوع والشوق والهم والأمل. إن الحيوان وإن شعر بحاجته، لا يستطيع أن يقيّدها أو يرسلها إلى البعيد. القلم يمكّنك من ترجمة عالمك الداخلي إلى أثر باقٍ، وهذا دليل على التكريم الإلهي لهذا الكائن المخلوق.
7. إعجاز تسخير الجماد للبيان: تأمل يا صاحبي وأنت تُمسك بهذا القلم أو لوحة المفاتيح، وهي آلة جامدة لا حياة فيها، وتضعها على قرطاس أو شاشة جامدة. ثم يتولّد من بين هذين الجمادين فنون الحكم وأنواع العلوم والخواطر والمراسلات! من الذي أجرى فلَكَ المعاني على قلبك، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقوشًا عجيبة، يقرؤها آخر في قُطْرٍ ناءٍ فيفهم ما أردت؟ إنه الله الذي جعل الجماد أداة للفهم والبيان، ألا يستطيع أن يجعل منك أنت، الإنسان الكامل، قارئًا مبيِّنًا ومعلِّمًا تاليًا؟ هذا دليل على عظمة الخالق وإتقان صنعه.
8. الإعجاز في توقيت الرسالة: نزلت هذه الآيات في مجتمع يغلب عليه الأمية، لا يقدّر القلم حق قدره. فكانت الإشارة الربانية للقلم في اللحظة الأولى من الوحي، إشارة إلى أن المستقبل لهذا (القلم)، وأنه سيكون أوسع وأعمق أدوات التعليم في حياة البشرية. هذا برهان قاطع على أن مصدر هذا القرآن ليس بشريًا، فمن كان ليُبرز هذه الحقيقة في ذلك التوقيت لولا أنه وحي إلهي يسبق الزمان والمكان!
9. القلم أمانة ومحور للمسؤولية: إن القلم -بكل أشكاله- سلاح ذو حدين، وهو نعمة تستوجب الشكر، ومسؤولية تُسجّل على صاحبها. فكل ما يخطه المرء اليوم، سواء في كتاب أو مجلة أو رواية أو على شاشة حاسوب، هو مكتوب: إما له أو عليه. فليتق الله كل كاتب، فالقلم وسيلة ناجعة لنصرة الدين وبيانه، وهو كذلك -لا سمح الله- وسيلة لهدم بنيانه. ولن يضير أصحاب الحق توهينُ الباطل، فالحق باقٍ والباطل زاهق: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (سورة الصف: 8).
10. القلم الحديث (لوحة المفاتيح) ومضاعفة الأثر: لقد تضخمت أهمية القلم اليوم حتى صار لوحة مفاتيح الحاسوب، تنطلق منه الكلمات كالرصاص وتصل إلى أقصى الدنيا في لحظات معدودة، يقرؤها الآلاف في دقائق معدودة. إن الأدباء قديمًا أطنبوا في وصف القلم المصنوع من قصب، فماذا كانوا سيقولون لو رأوا أثر قلم اليوم؟ إنها نعمة عظيمة ومضاعفة، تقابلها مسؤولية أعظم وأشد.
وما قلناه عن القلم في شكر النعمة وضرورة استخدامه في مرضاة الله، ينطبق تمامًا على كل وسيلة تدوين حديثة.
هذه بعض الخواطر الروحية والتربوية التي يفتحها الله على المتأمل في آياته، مع الاستئناس بما دونه أهل العلم والتفسير.
رزقنا الله وإياكم تدبر كتابه والعمل به، وجعلنا من أهل القلم الذين يستخدمونه في نصرة الحق.