حكم القزع ومفهومه

50
3 دقائق
3 جمادى الثاني 1447 (24-11-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الحمد لله الذي زيَّن الإنسان بالعقل والحياء، وجعل له مظهرًا يليق بكرامته التي شرّفه الله بها، والصلاة والسلام على من علّمنا مكارم الأخلاق، محمدٍ .

في زمانٍ تتقلّب فيه الأذواق كما تتقلّب الموجات، وتُفرض فيه على الناس أنماط من «الموضات» لا تمتّ إلى المروءة ولا الوقار بصلة، صار كثير من الشباب يلهثون وراء قصّات غريبة، أشبه ما تكون بعلامات التمرّد أو التشبّه، حتى صار الرأس الذي كرّمه الله وعلاه ميدانًا للعبث والتقليد. وربما يفعلها الشاب اليوم طلبًا للتميز أو تقليدًا لمشهور، وهو لا يدري أنه بذلك يخالف هدي النبي في أمرٍ يسيرٍ ظاهره، عظيمٍ أثره.

إنّ ما يُعرف اليوم ب«القصّات الحديثة» إنما هو صورة من صور القزع الذي نهى عنه النبي ، وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه. جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله نهى عن القزع، فلما سُئل نافع عن معناه قال: يُحلق بعض رأس الصبي ويُترك بعض. وفي روايةٍ أخرى أن النبي رأى صبيًا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فقال: "احلقوه كله أو اتركوه كله".

حديثٌ واضح لا يحتمل التأويل، يرشد إلى الجمال المتوازن، لا الجمال الممسوخ الذي يقطع الرأس نصفين.

القزع كما ذكر أهل العلم له صور متعددة: أن يُحلق من هنا وهناك، أو يُترك وسط الرأس ويُزال طرفاه، أو العكس، أو يُحلق مقدّمه ويُترك مؤخره، وكلها صور منهي عنها. قال ابن القيم رحمه الله: «كل ذلك من القزع».

فما نراه اليوم من قصّات غريبة، فيها إطالة لمقدَّم الرأس وقصّ لجوانبه، أو ترك خصلات متفرقة، هو من هذا الباب بعينه، بل أشد قبحًا إذا اقترن بالتشبه بالكفار والمجّان.

وليس النهي هنا لمجرد الشكل، بل لحكمةٍ عميقة؛ فالإسلام يحبّ التناسق والاعتدال حتى في المظهر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من كمال محبة الله ورسوله للعدل، أنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه، لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيًا وبعضه عاريًا». فانظر إلى هذا المعنى الجميل: العدل حتى في توزيع الشعر!

وقد اختلف العلماء في حكم القزع، أهو مكروه أم محرم؟

فمنهم من قال بالكراهة كالإمام النووي وغيره، ومنهم من قال بالتحريم لأن النهي يقتضي التحريم ما لم يَرِد صارف، ولأن النبي قال: "احلقوه كله أو اتركوه كله"، وهذا أمر، والأمر للوجوب. والراجح أن القزع إذا كان فيه تشبه بالكفار أو أهل الفسق فهو محرم لا شك فيه، لأن النبي قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" (رواه أبو داود).

والتشبه ليس في النية فقط، بل في الصورة التي تُقتبس عنهم. فكم من شابٍ يقول: *أنا لا أقصد التشبه*، وهو لا يعلم أن القصد ليس شرطًا في الحكم، بل يكفي أن يكون الفعل من أصلٍ مأخوذٍ عنهم. وقد قال ابن تيمية رحمه الله: «التشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، ومن فعله موافقةً لهم في فعلٍ هو من خصائصهم». فليحذر الشاب أن يجعل رأسه علامة على أنه من أتباعهم وهو لا يشعر.

بل إن بعض أهل العلم عدّ قصّات الشعر التي فيها تفاوت في الطول داخلة في النهي أيضًا، لأن المقصود المساواة في الهيئة. وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بأنه لا يجوز ترك بعض شعر الرأس أطول من بعض، وعدّ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ هذا من القزع بعينه، كما ذكر الشيخ عبدالله البسام أن ما يُعرف اليوم ب«التواليت» - أي قصّ بعض الشعر وترك بعض -هو من القزع المستبشع.

وليس في هذا تضييق على الناس أو مصادرة للحرية كما يظن البعض، بل هو تهذيبٌ للذوق وضبطٌ للجمال وفق ما يليق بالإنسان المسلم. فالشريعة لا تُريد أن تصنع منا نسخًا متشابهة من الناس، لكنها تمنعنا أن نصبح تقليدًا أعمى للكفار وأهل اللهو.

إنّ الشعر مَظهرٌ من مظاهر الإنسان، والله جميل يحب الجمال، لكن الجمال الذي يُرضي الله لا الذي يُرضي الناس. فكلما اقترب مظهر المسلم من الاعتدال والنظافة والبساطة، كان أقرب إلى هدي النبي الذي قال: "إن الله جميل يحب الجمال" (رواه مسلم).

ومن تأمل في حال الأمم الكافرة أدرك كيف صار الشعر عندهم وسيلةً للتمرد والهوية الثقافية، لا للزينة المشروعة، فاقتفى أثرهم بعض المسلمين بلا وعي، ظانين أن التميز في الشكل يُكسبهم احترامًا أو شخصية، وهو في الحقيقة علامة ضعفٍ داخليٍّ، يبحث عن ذاته في مظهرٍ زائل.

فلنعد إلى فطرة الجمال التي أرادها الله لنا، جمالٍ لا يقوم على قصٍّ غريبٍ أو هيئةٍ متكلفة، بل على نظافةٍ واعتدالٍ وهيئةٍ تليق بمن قال الله فيهم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].

نسأل الله أن يُرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرزق أبناءنا وشباب المسلمين الفهم الصحيح والجمال الحق، جمال الطاعة والوقار والحياء.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق