بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
س/ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرحه لعمدة الفقه في مسألة الوضوء من غسل الميت هذه الجملة:
*ولأنّ بدنَ الميِّت صار في حكم العورة بنفسه، بدليل كراهة مسِّه والنظر إليه إلَّا لحاجةٍ، وهو مظنةٌ لخروج النجاسات، فجاز أن يُوجب الوضوء كمسِّ الذكر، ولا ينتقض بمسِّه من غير غسل، لأن التعليل للنوع والجواز، فلا ينتقض بأمهات المسائل*. فما المراد بقوله:"التعليل للنوع والجواز"؟
ج / حياكم الله أخي الفاضل.التعليل تارة يكون بعلة مؤثرة في كل الأفراد لا ينتقض منها شيء أي أنها لكل أفراد النوع، وتارة يكون التعليل لبعض النوع فحصوله في بعض النوع لا يتقض عدم حصوله في بعض النوع الأخرى، فيكفي حصوله في مطلق النوع لا كل النوع، بمعنى أن التعليل يكون لنوع منه لا كله، فقد يتخلف بعض أفراد النوع عنه، كما لو عللت لنوع من الرجال في أماكن معينة بأنهم أقوياء البنية، فهذا لا ينقضه عدم ظهوره في بعض النوع من الرجال، لكنه ماض في نوع منهم.
أما تعليل الجواز: فمعناه: لا يلزم منه وجود الشيء حتما لكن يجوز وجود الشيء ويجوز عدمه، أو وجوده في بعض النوع لا ينقضه عدم وجوده في حال أخرى من النوع؛ لأن هذا مقتضى تجويز العقل للشيء فعند تجويز وجوده، لا ينفي عدمه، أو تجويز عدمه لا ينفي وجوده، وهذا يختلف عن التعليل بالوجوب أو المنع فمتى ثبت التعليل بالمنع أو الوجوب فينفي ضده، أما الجواز فلا يلزم، فعلى مثالنا السابق: إذا جاز وجود رجال أقوياء في مكان معين، فإن هذا لا ينفي عدم وجود رجال ضعفاء، فأقسام الحكم العقلي منحصرة في ثلاثة وهي: الوجوب، والاستحالة، والجواز؛ فالواجب ما لا يتصور في العقل نفيه، والمحال ما لا يتصور في العقل ثبوته، والجائز ما قَبِل الأمريْن النفيَ والثبوتَ عقلا، وكل واحد من الواجب، والمستحيل، والجائز ينقسم إلى ضروري، وإلى نظري.
وفي النص المذكور: "التعليل للنوع": ابن تيمية يستنبط علة: "أن بدن الميت مظنة خروج النجاسة فهو في حكم العورة، أي في حكم مس الذكر* هذا متعلق بنوع خاص من المس: أثناء التغسيل، لا مطلق المس فوجب على من مس بدن الميت أثناء التغسيل الوضوء من هذا المس، فالعلة هنا لا تُعمّم على جميع الأحوال فإن من مسه لغير التغسيل أو قبله لا ينتقض وضوءه، فتُربط بنوع خاص من الفعل، لا كله، فهذا معنى التعليل للنوع.
أما الجواز فمعناه هنا: أنه يصلح أن يكون وجهًا لإيجاب الوضوء من هذا النوع من الأفعال، لا أنه علّة منضبطة تدور معها الأحكام وجودًا وعدمًا في كل صورة، إنما يجوز لذا قال: "فلا ينتقض بأمهات المسائل" فلا تنتقض هذه العلة بأمهات المسائل من الطهارة من حالات المس التي لا تكون بغسل مما لا تظهر فيها هذه العلة، لأننا أصلا فرضنا هذه العلة على الجواز لا على الوجوب فيجوز وجودها في حالة واحدة وعدم وجودها في حالات أخرى ولا يقتضي هذا النقض.
وهذان النوع من التعليل: النوع والجواز، ذكرهما ابن تيمية في غير هذا الموضع فقد جاء في المسودة: "إذا كان التعليل لجواز الحكم لم ينتقض بأعيان المسائل، كقولنا في مال الصبي: حر مسلم فجاز أن تجب الزكاة في ماله كالبالغ، فلا ينتقض بغير الزكوي، وإذا كان التعليل للنوع لم ينتقض بعين مسألة: كقولنا في لحم الإبل: نوع عبادة تفسد بالحدث فتفسد بالأكل كالصلاة، فلا ينتقض بالطواف فانه يفسد بالحدث، ولا يفسد بالأكل لأن الطواف بعض النوع".
فهنا جوز وجوب الزكاة في مال الصبي، لكن لم يجعل عدم وجوب غير الزكوي ممن لم يبلغ نصابا والمعلوفة ناقضة لهذا الأصل لأنها بعض هذا النوع لا كله، وإذا ثبتت علة النوع في البعض لا تنتقض بعدم وجودها في البعض الآخر لأن التعليل هنا من الجائز.
والتعليل بالنوع لا ينتقض بمسألة: كالأكل يفسد الصلاة لكنه لا يفسد الطواف.
وهذا التعليل أخذه ابن تيمية من ابن عقيل، قال ابن عقيل في الواضح: "ومنه أيضا إذا كان التعليل للجواز لم ينقض بأعيان المسائل، وذلك: مثل أن يقول أصحابنا وأصحاب الشافعي في الزكاة في مال الصبي: بأنه حر مسلم، فجاز أن تجب الزكاة في ماله، كالبالغ، فلا يصح أن ينقض بأمواله غير الزكاتية، كالمعلوفة وعروض البذلة وما دون النصاب، لأن حكم التعليل الجواز، وذلك يقتضي حالة واحدة، والمخالف لا يوجب الزكاة بحال فكان حجة عليه، ولم يلزم المعلل الزكاة في جمع الأحوال، ولأن لتلك الأموال بأعيانها حالا تجب الزكاة فيها في حق الصبى والبالغ، وهو إذا عدل بها إلى السوم والتجارة وانضم إلى ما دون النصاب ما كمله".
ومن ذلك أيضا: إذا علل للنوع ولم ينقض عليه بعين مثله.
ومثاله: أن يقول في زكاة الخيل: إنه حيوان تجب الزكاة في إناثه فوجبت في ذكوره إذا انفردت، كالإبل، فلا ينقض به بذكور الإبل والغنم إذا كانت معلوفة أو دون النصاب، لأن التعليل للنوع، والعلف وما دون النصاب حال من أحوال النوع، وفي النوع ما يثبت الحكم فيه، وهو إذا كانت ذكور الأنعام نصابا سائمة".أ.ه. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين